تنازع الشرعيات في الثورات العربية (محمد الحدّاد)

محمد الحدّاد

في كتابه الأخير «فكرة العدالة»، قدّم المفكّر والاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عام 1998، تمثيلاً طريفاً أراد من خلاله التشديد على تعقّد موضوع الشرعية. يقول سين: لنفترض ثلاثة أطفال يعثرون على مزمار، أحدهم يطالب بأن يحتفظ به لأنّه بين الثلاثة الوحيد الذي يتقن العزف والموسيقى. والآخر يطالب بالمزمار بحجّة أنه أكثر الثلاثة فقراً ولا يملك لعباً ومن حقّه أن يمتلك لعبة واحدة على الأقلّ، والثالث يقدّم الطلب نفسه، لأنّه يدّعي أنّه هو الذي صنع هذا المزمار. لنفترض أن الأطفال الثلاثة يحتكمون إلى كهل ويطلبون منه أن يحسم الأمر بينهم، بالتأكيد سيجد عسراً في تقديم حكم حاسم في المسألة على رغم بساطتها، لأنه يواجه ثلاثة مطالب عادلة، لكنّ المزمار لا يمكن أن يقسّم لتلبية الرغبات العادلة آن.
السبق احتجّ بأنّ دوره كان الأكثر ثقلاً، ومَنْ تراجع دوره احتجّ بفضل السابقين على التابعين، وفي النهاية، تعيش مجتمعات الثورات العربية تنازعاً عنيفاً على الشرعية أصبح يهدّد الثورات ذاتها.
والشرعيات المتنازعة تشبه كثيراً تلك التي أشار إليها سين في مثاله، فهناك شرعية الكفاءة التي تقول إن الثورات كانت تنادي بالتحوّل الديموقراطي والعدالة الاجتماعية، فمن كان الأكثر قدرة على فهم آليات البناء الديموقراطي وتنشيط الاقتصاد لتلبية حاجات المواطنين يكون الأَوْلى بإدارة الثورة. وهناك شرعية التظلم التي تعتبر أنّ من تحمّل الأذى أكثر من غيره في العهد السابق هو الأكثر جدارة بإدارة العهد الثوري تعويضاً له على ما ناله من الاضطهاد، وضماناً منه لمنع عودة رموز النظام القديم. وهناك شرعية الملكية، ويعتبر أصحابها أنّهم أوّل من أدخل مفهوم الثورة للاستعمال العمومي وأوّل من أطلق شرارتها على الميدان، فهم الأَوْلى بإدارة ما صنعت أيديهم.
الميدان هي الشرعية الأعظم في كلّ ثورة؟
يترتّب على هذا التنازع في الشرعيات أحد مآلين: الأوّل أن تفرض إحدى الشرعيات نفسها بالقوّة على الأخريين، ولكن في اللحظة التي ستنجح فيها عملية الاستيلاء هذه يفقد الطرف الرابح صفة الشرعية، لأن طبيعة الشرعية وجوهرها يتمثلان في تحقّقها تلقائياً من دون عنف، وما عدا ذلك يعدّ مجرّد هيمنة. والمآل الثاني أن تتوافق الشرعيات من أجل تحقيق أهداف الثورة ومصالح الشعب، وأن تقبل فكرة أن الحكم العادل ليس بالضرورة واحداً (مثلما حاول سين أن يبيّن في كتابه المذكور)، وأنّ الصواب يمكن أن تمثّله وجهات نظر متعدّدة (كما قال ابن الهيثم قبله). لكن العالم العربي الذي لم يعرف في تاريخه الطويل غير الاستبداد يصعب فيه قيام ثقافة حقيقية للتوافق، وكثيراً ما تتحوّل فكرة الوفاق ذاتها إلى مجرّد خطة ماكيافيلية تمهّد للاستيلاء والهيمنة.
هكذا يبقى المزمار معلّقاً بين الأطفال الثلاثة، إلى أن يظفر به أكثرهم مكراً… أو يأكل الذئب ثلاثتهم، إذا بقوا في الغاب يتنازعون على المزمار إلى ما بعد الغروب.

 

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى