تونس… خطاب سياسيّ رتيب يدُورُ عَلى رَحًى فارغة (د. توفيق قريرة)

 

د. توفيق قريرة *

يفيق التونسي، مرة أخرى، على خطاب سياسي يعيد القالب الخطابي الذي تربّى عليه في عهد ما قبل الثورة وهو خطاب انفعالي محكوم بالتمجيد والتهجين: التمجيد في العهد السابق كان لكلّ ما ينتجه الحزب الحاكم قديما من أفكار وأعمال؛ والتهجين لكل نفس معارض ‘تسوّل له نفسه’ أن يشكك في تلك الأفكار العبقرية والأعمال الفريدة التي لم يكن لها في الإبداع مثيل سابقا.

لم تمض بعد سنتان على هبّ رياح الثورة بتونس حتى باتت نسبة كبيرة من التونسيّين تشعر بالسأم من أحاديث الساسة والسياسيين في هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك وتصمّ الأذان عن أحاديث مكرّرة على لسان طبقة سياسية لم يعرفوا كيف يطوّروا مقولاتهم ولا كيف يجدّدوا من خطاباتهم أو رؤاهم.
لم يكن يخطر ببال أحد أن الحرمان من النشاط السياسي الفعلي والملوّن ذاك الذي عاشه التونسيون منذ عقود سيعوضه انفتاح لأبواب السّياسة على مصراعيها ليضم من أهل اليمين واليسار ألوانا أكثر تنوعا من أدقّ ألوان الطيف؛ بل إنّ السّاحة السياسية جلبت إلى دائرتها كلّ من هبّ ودبّ للحديث في الشأن السياسي العام والخاص.
لكنّ الإشكال كَان في مُجاراة الساسة لنسق رديء من الخطاب السياسي وجدته يمينا أو يسارا روّجت له وسائل الإعلام بالنيّة الحسنة أو المبيّتة فكان أن أدّى ذلك إلى نوع من الفتور تجاه هذا الخطاب يخشى أن يؤدي إلى لا مبالاة أو هجرة لصناديق الاقتراع لاحقا.
نحن نزعم أنّ الخطاب السياسي في تونس بصفة عامة وباستثناء حالات قليلة نادرة هو بصدد إعادة القالب الخطابي الذي تربّى عليه في عهد ما قبل الثورة وهو خطاب انفعالي محكوم بالتمجيد والتهجين: التمجيد في العهد السابق كان لكلّ ما ينتجه الحزب الحاكم قديما من أفكار وأعمال؛ والتهجين لكل نفس معارض "تسوّل له نفسه" أن يشكك في تلك الأفكار العبقرية والأعمال الفريدة التي لم يكن لها في الإبداع مثيل سابقا.
والتمجيد في الخطاب السياسي بعد الثورة كان في بدايتها مرتبطا بالأحاديث عن القدرة الخارقة على إسقاط النظام بأبسط "وسائل الحضارة" كما قيل؛ وفي هذا النسق سارت أنساق الخطاب في وسائل الإعلام التي جمعت حولها كلّ الآذان والأسماع وأجتمع الثوريّون على كلمة تمجيديّة واحدة رفعت معنويات التونسي رفعا كان يحتاجه وهو يتنفس الصعداء من قيود ثقيلة كانت تلقى على كاهله.في هذه المرحلة وضمن هذا المسار من الخطاب دخَل كثير من المزيفين إلى دائرة الثوريّة بالخطاب لا بغيرة فبكلمات بسيطة مستمدّة من القاموس الثوري المبني على لعن رموز الفساد القديمة ورواية قصص عن ثرائها ولصُوصيّتها.. استطاع المندسّون أن يغتسلوا في مسبح الثوار الذي كانت ماؤه كلمات لا غير تزرع هنا وهناك في هذه القناة وتلك. كان الخطاب في تلك اللحظة حماسيّا حالمًا لكنّه كان سطحيا واستطاع العارفون أن يوجّهوا هذا الخطاب بمطالب ردّدها العامّة مع الخاصة دون فهم ولا أسس نظرية أهمّها المطالبة بإنشاء مجلس تأسيسي وهو مطلب لم يكن لغالب التونسيين الوقت لفهم أسسه أو أهدافه.
وتواصل الخط التمجيدي وسار بالتّوازي معه خطاب تهجينيّ حين اقترب موعد أوّل انتخابات حرّة. وبدأ يظهر خطاب تناحري اتجه بالتدريج من رمي النظام السّاقط ورموزه بالفساد والعمالة وغيرهما من الاتهامات إلى تبادل الاتهامات بين الأحزاب المتنافسة أي داخل المعارضة الفاعلة التي كانت في شبه تكتل ضد النظام القديم. لقد انخرط الخطاب في دائرة من التمجيد بالتركيز على الرصيد النضالي أو في دائرة التهجين بالتركيز على الاقتراب من النظام البائد أو غيرها من التّهم.. وبرز هذا الخط التهجيني التمجيدي بعد الانتخابات وقويت وتيرته وأججته وسائل الإعلام التي لم تلتزم الحياد والصراع ولم تسع إلى الترفيع من مستوى الخطاب.
إنّ الطبقة السياسية التي أفرزتها الانتخابات وباستثناء فئة قليلة على اليمين واليسار لم توفّق في قيادة المشهد السياسي في تونس وعبر الخطاب الرصين إلى دائرة من الهدوء والاتزان والاعتدال والوطنية؛ بل إنّها وفي إطار حملات انتخابية مبكّرة جدا صارت سعت إلى البحث عن معايب الخصوم السياسيين وبحثت بأية وسيلة للإيقاع بهم بقطع والحقّ أنّ كثيرا من التنافس لم يراع لسوء الحظ المصلحة العليا للبلاد.. ولقد زاد الإعلام والمواقع الاجتماعية المشهد تأجيجا فتأزّم الخطاب السياسي تأزما لم يكن مفيدا لتعافي البلد أو للتفريج عن غمّ المواطن البسيط.
اليوم يستفيق هذا المواطن البسيط على خطاب سياسي لا يليق بطموحاته ولا يجاري أحلامه بالثورة إذ تثار في وسائل الأعلام مسائل لا يفهمها كالعلاقة بين الفنّ والسياسة والدولة المدنية والدولة الدينية والسلفية الجهادية والسلفية العلمية ولا يفهم لم تهتزّ الدنيا ولا تقعد لأسباب لا يراها مثيرة بينما لا يهتمّ بمعاناته بالطريقة التي يريدها إلا قلة؛ وحتّى إن أثيرت قضاياه تناولها السياسيون بغير التناول الذي يشتهي أن تتناول به؛ بل إنّ المواطن بات يكره العنف اللفظي والعراك السياسي في الجهاز الذي يفتحه كي يحلم ويهنأ ويهدأ..و قد يكون متأثرا في سلوكه اليومي بهذا التحريك العنيف في باطنه والمطالبة العاجلة وربما العنيفة بما اتفق من الرغبات.
لقد بدأ التونسي الحكاية بالتعرف على أسماء من كانوا في قمقم النظام السابق وصار يتابعهم و يعرف أسماءهم أكثر مما يعرف أسماء أهله وأقاربه يتابع تفاصيل أقوالهم التي قد لا يفقه خلفياتها لكنه أدرك بعد رحلة قصيرة أنهم لن ينفعوه في شيء فلا هو يفهم جدالهم ولا يفهم منطقهم لذلك بات إمّا غاضبا من خصومات يخوضونها لا تعنيه أو متباعدا عن حديثهم.. وقد يخشى أن يدخل هذا المواطن البسيط في سبات سياسي عميق يؤدي به إلى اللامبالاة وهي الميتة السياسية الكبرى التي لن يلحقها بعث.

*أستاذ جامعي من تونس

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى