ثورات “الربيع العربي” وثقافة الحوار (عامر راشد)

عامر راشد

الدرس الأول من دروس ثورات وحراك "الربيع العربي"، وهي تعبر إلى عامها الثالث، حاجتنا الماسة كمجتمعات عربية، والنخب خاصة، إلى تعلم ثقافة الحوار المُنتِج كمبدأ في الحياة.
وكذلك كأرضية لحل ما نعانيه من معضلات سياسية واجتماعية تراكمت على مر السنين بفعل غياب الديمقراطية والتعددية الفكرية والثقافية، التي يفترض أن يكون وجودها طبيعة بشرية، ناهيك عن الانغلاق على الذات وعدم قبول الآخر، حتى باتت الدعوة إلى الحوار عرضة لاتهامات التخوين.
إن الافتقار إلى ثقافة الحوار هو ما يجعل رفض الحوار قاسماً مشتركاً بين الأنظمة القمعية الأبوية والقوى والحركات المعارضة لها، وبين قوى الثورات المنتصرة أو تلك التي مازالت في المنطقة الرمادية، فبمجرد أن تطلق دعوة للحوار تقوم الدنيا ولا تقعد، وتنطلق صافرات الاتهام بالعمالة للأنظمة والتشكيك من كل حدب وصوب، دون أدنى التفاتة إلى ما يضبط الدعوة من أسس ومبادئ والغاية منها، وفي المقدمة وقف نزيف الدماء، كما في الحالة السورية، أو الحيلولة دون انفجار عنف مجتمعي يخرج عن السيطرة ويقوض ما أنجزته الثورة، كما في الحالات المصرية والتونسية واليمنية، أو إشعال حروب مذهبية وطائفية واثنية تقسم مكونات المجتمع، كما في الحالات البحرينية والعراقية والسودانية.. الخ.
وإذا كان من الطبيعي أن ترفض الأنظمة الفردية التسلطية فكرة الحوار، أو أن تفرغها من مضمونها وتتحايل عليها، لتعارضها مع مصالح الطغمة الحاكمة، فإنه ليس مفهوماً أن ترفض المعارضة الفكرة وأن لا تأخذ بها كمبدأ على حدٍّ سواء، في علاقاتها الداخلية بين أجنحتها المختلفة، وكناظم في صراعها مع السلطة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
وفي هذا المجال، يبدو المثال السوري الأكثر نفوراً، فالمعارضة انقسمت على نفسها منذ بداية الحراك الشعبي إزاء مشروعية الحوار مع السلطة، وتعمقت الانقسامات بين "هيئة التنسيق" و"المجلس الوطني" بتباعد مواقفهما من عسكرة الحراك الشعبي المعارض، إلى أن خرج رئيس "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، الشيخ معاذ الخطيب، بدعوة للحوار حوصرت من مكونات الائتلاف نفسه قبل أن تشق طريقها باتجاهين كانا سيفتحان ثغرة في جدار الأزمة الدموية، الاتجاه الأول توحيد مواقف قوى المعارضة من قضية الحوار، والاتجاه الثاني إعطاء فرصة للجهود الدولية والإقليمية الداعمة لتسوية سياسية للأزمة عبر طاولة الحوار، تبدأ من وقف سفك الدماء والعنف المتبادل وتدمير البنية التحتية والمقدرات الاقتصادية للبلد وهتك نسيجه الاجتماعي.
ومن المغالطات التي تساق أن الحوار سيكرس الوضع القائم، وفي أحسن الأحوال سيعيد إنتاج النظام بصورة مُجمَّلة، وكأن من الممكن إعادة عجلة الزمن إلى الخلف، وبالطبع هذا غير وارد حتى في الحسابات الأكثر تفاؤلً بالنسبة للسلطة، علماً بأن ساحة الحوار جبهة صراع لا تقل شراسة عن المعارك العسكرية، بل تبزها.
والمقلق في رفض الحوار، لغياب ثقافته، أن ذلك يؤسس لمعضلات في المراحل اللاحقة للثورات والحراك المعارض، ومثالها ما يجري في مصر وتونس واليمن، من انقسام القوى التي كانت محركة للثورات وانحدار العلاقات بينها إلى درجة التناحر، في صراع على السلطة يؤدي للأسف إلى إعادة إنتاج أنظمة فئوية، وسبق لنا أن عايشنا مثالا آخر في العراق، فسقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين لم يؤد إلى نظام ديمقراطي تعددي، بل إلى محاصصة طائفية وإثنية على برميل من بارود الاحتقانات السياسية والاجتماعية، اختبرت في لبنان ودفع المجتمع اللبناني، ومازال يدفع، ثمنها بتوترات مستدامة بين الإقطاع السياسي والمذهبي، يراد لها أن تؤبد بقوانين انتخابية على المقاس الطائفي لفرض كونفدرالية طائفية، وهذا بالضبط ما قد يجر إليه نظام السياسي في العراق.
وما آلت إليه القضية الفلسطينية من تراجعات جراء الانقسام السياسي والكياني؛ مثال ثالث على معضلة غياب ثقافة الحوار وعدم إيمان بعض القوى السياسية به، فحركتا (فتح) و(حماس) فشلتا في ماراتون حوارات المصالحة بتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية المنخرطة بتحالفات إقليمية.
لقد وصلت القوى المحركة للثورة في مصر وتونس إلى حالة من صراع داخلي غير منضبط إلى قانون "الصراع على قاعدة الوحدة" في الأهداف الوطنية والمثل العليا، فاستئثار جماعة "الإخوان المسلمين" بالسلطة، وارتكابها أخطاء كبيرة في هذا السياق قاد غالبية القوى السياسية الأخرى للتكتل ضدها في "جبهة الإنقاذ" المعارضة، التي لا يجمعها جامع سوى معارضة الرئيس محمد مرسي وحكومة الدكتور هشام قنديل ونهج "الإخوان المسلمين" في الحكم.
إلا أن قوى المعارضة المصرية لا تقدِّم قوة مثال في امتلاكها لثقافة الحوار على صعيد علاقاتها البينية، أو في العلاقة مع نظام الحكم القائم، فتناقضاتها يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وهي تعتمد سياسة وضع شروط مسبقة للحوار مع الرئيس مرسي وحزب "العدالة والحرية" الذراع السياسي لـ"الإخوان المسلمين"، تملي نتيجة محددة للحوار وليس أسساً موجِهة وناظمة، مثل طلب الحصول على موافقة مكتوبة من الرئيس مرسي على مطالب "جبهة الإنقاذ" قبل المشاركة في حوار الرئاسة، وأبرزها: "تعديل المواد الخلافية في الدستور، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تخلف حكومة قنديل، وتغيير النائب العام الحالي".
وربَّ سائل يسأل: إذا كان بالمستطاع فرض كل هذه المطالب قبل الحوار ماذا يبقى من حيثيات الدعوة إلى الحوار؟. والسؤال المعاكس لهذا السؤال: هل كانت علاقة الرئيس مرسي وحزب "الحرية والعدالة" مع أحزاب المعارضة ستصل إلى هذه الدرجة من التوتر والقطيعة لو أن القوانين والمراسيم والقرارات التي صدرت أدير حولها حوار جاد ومسؤول قبل صدورها، لاسيما تلك المتعلقة بالدستور وقانون الانتخابات؟
وبترك الفوارق الجزئية جانباً، لا يختلف الوضع في تونس عن نظيره في مصر، فحكومة حمادي الجبالي اصطدمت بجدار الفشل، وعلاقة "ترويكا" الحكم مع أحزاب وقوى المعارضة انحدرت إلى الحضيض، والاحتقان السياسي والمجتمعي على أشده، والسلم الأهلي تعرّض لهزة كبرى باغتيال القيادي المعارض شكري بالعيد. وكل ذلك لأن "ترويكا" الحكم لم تعط قضية الحوار حقها، وأهملت رأي المعارضة وإشراكها في رسم مستقبل النظام السياسي لتونس وتجسيده على الأرض.
ومن المغالطات التي تعمم في جديد الثقافة السياسية العربية عموماً، بأنه ليس من الديمقراطية بمكان أن يكون الحوار بين السلطة والمعارضة كطرفين ندين، لأن في ذلك التفافا على إرادة الناخبين، وربما يُقبل هذا المنطق في الجزئيات، لكنه غير مقبول قطعياً في القضايا الكبرى مثل الدستور والقوانين، خاصة في المراحل الانتقالية، فالحوار الوطني أكبر ضمانة لاستتباب الاستقرار الدستوري والقانوني، كومه يسمح بالتوافق على صيغ دستورية وقانونية قبل الاقتراع الشعبي عليها.
ومما سلف؛ ما أحوجنا إلى أن نتعلم ثقافة الحوار، والكف عن تخوين من يدعون له، لأن حقن الدماء قيمة إنسانية سامية. ولأنه دون الحوار ستدخل الثورات العربية في نفق مظلم من الصراعات بين القوى المحركة لها وللحراكات الشعبية. وهذه الثقافة مطلوبة بذات الأهمية والضرورة في الدول العربية التي تظن حكوماتها أنها مازالت بعيدة عن مجرى رياح "الربيع العربي"، فثقافة الحوار هي الركيزة الرئيسية للاستقرار، ولتغيير ديمقراطي سلمي بديله عنف دموي.

وكالة نوفوستي الروسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى