مصر ومثلث الشرق الأوسط الكبير (2ـ2) مصر الإخوانية والنموذج التركي (مصطفى اللباد)

مصطفى اللباد

 

ازداد الحديث في الدوائر الأكاديمية والصحافية بعد انتصار الثورة المصرية 2011 عن تبلور مثلث جديد في الشرق الأوسط يضم مصر وتركيا وإيران، نظراً للروابط التاريخية التي تجمع بين الأطراف الثلاثة، وما يملكه كل منها من مقومات الدولة المركزية والدور التاريخي في الشرق الأوسط. وهنا يختلف الشرق الأوسط الكبير عن مفهوم المحافظين الجدد، من حيث انه يركن أمن وتجانس الشرق الأوسط إلى تعاون بين ثلاث دول مركزية في المنطقة هي مصر وإيران وتركيا، تتعاون في ما بينها لتحقيق مصالح والدفاع عن امن هذه المنطقة من العالم. وبقدر ما ألهب هذا المثلث حماسة بعض المفكرين والفلاسفة الشرق أوسطيين في الدول الثلاث والمنطقة طيلة العقود الماضية، بقدر ما تقول التجربة التاريخية أن الأضلاع الثلاثة لم تكتمل في أي حقبة زمنية مضت. وإذا عدنا إلى الوراء خمسة قرون لرأينا مثلاً تحالف قانصوه الغوري حاكم مصر مع إيران عام 1513 لمواجهة خطر تركيا العثمانية، وأمكننا تعيين التقارب التركي – الإيراني تحت المظلة الغربية وفي مواجهة حركة التحرر العربية التي قادتها مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولاحظنا التحالف الذي يتبلور الآن بين مصر وتركيا في مواجهة إيران بعد «الربيع العربي»، على الرغم من التحسن النسبي في العلاقات راهناً بين القاهرة وطهران. باختصار لم يعرف الشرق الأوسط في القرون الخمسة الأخيرة تفاعلاً بين الأطراف الثلاثة، فمن ناحية سيشكل هذا المثلث خطراً على التوازن العالمي وليس الإقليمي فقط، ومن ناحية أخرى يقول تاريخ العلاقات بين الدول الثلاث – على المستوى الثنائي – إنه عرف حالات من المد والجزر وفقاً للحسابات الوطنية، وليس وفقا لحسابات القيمة المتعلقة بضرورة قيام هذا المثلث.
وبالتوازي مع ذلك، يشهد الشرق الأوسط تراجعاً في النفوذ الاميركي منذ سنوات قليلة، وتدل المؤشرات على أن هذا التراجع سيستمر، في حين يتحول الاهتمام الأميركي أكثر فأكثر من الاهتمام بالشرق الأوسط إلى التركيز على آسيا بغرض مواجهة الصين. لذلك سيترك التراجع الأميركي في المنطقة فراغاً خلفه، ستسعى قوة إقليمية صاعدة مثل إيران وتركيا إلى شغله. وإذ يتنافس الغريمان الإيراني والتركي في طول وعرض المنطقة من العراق إلى سوريا وصولاً إلى لبنان وحتى غزة، يظهر أن استمالة مصر الإخوانية أمست أحد أدوات التنافس التركي – الإيراني في الشرق الأوسط. على ذلك المنوال، ستميل الكفة الإقليمية لمصلحة ذلك الطرف (إيران او تركيا) الذي سيفلح في نسج شبكة من العلاقات مع القاهرة، بحيث تصطف معه في مواجهة الضلع الثالث. وتزعم هذه الورقة انه إذا استمر غياب الأجندة الوطنية المصرية كما ظهر في الشهور الأخيرة، واستطال الافتقار إلى الخيال السياسي لدى السلطة الحاكمة في القاهرة الآن، فستتحول مصر من لاعب وند – كما يفترض أن تكون وفقاً لنظرية المثلث إياها – إلى ساحة للصراع التركي – الإيراني على مرتبة القيادة الإقليمية، وليس ضلعاً في مثلث يضم القوتين الإقليميتين الكبيرتين. تنشغل هذه الورقة بمقارنة النماذج التي تمثلها كل من إيران وتركيا مع النموذج المصري الإخواني، بغرض إيضاح الفروقات بين النماذج وتأصيلها، بما يسمح باستشراف مستقبل التحالف المصري الإقليمي الجديد مع إيران أم مع تركيا.

التجربة الإخوانية والتجربة التركية

على الرغم من التشابه الظاهري بين التجربتين الإسلاميتين السنيتين، والانتماء إلى ما يسمى «الإسلام الوسطي» أو «الإسلام المعتدل»؛ فإن هناك فروقا كبيرة بين حزبي «الحرية والعدالة» الذراع السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر و«العدالة والتنمية» في تركيا. الاختلافات واضحة من حيث أن جماعة «الإخوان المسلمين» جماعة دعوية سياسية، بمعنى آخر تنظيم سياسي يسعى إلى السلطة ولكن له طابع دعوي، ومن هنا يختلط فيه السياسي بالديني، في حين أن حزب «العدالة والتنمية» في تركيا حزب سياسي خالص، ولا يمارس الجانب الدعوي أو يستخدم شعارات دينية فجة لحصد مكاسب سياسية. ويكمن الفارق الثاني في أن تنظيم «الإخوان المسلمين» هو تنظيم عالمي يضم أحزابا وتيارات من دول مختلفة، وبالمقابل يبدو حزب «العدالة والتنمية» بصفته حزبا تركيا خالصا. ومن شأن هذه الحقيقة أن تخلق التباساً يؤثر في الأجندة وفي رؤية الأولويات الوطنية على جانب جماعة «الإخوان المسلمين». وهناك اختلاف ثالث وواضح في تركيبة الحزبين محل المقارنة، حيث يضم حزب «العدالة والتنمية» التركي في ممثليه بالبرلمان وفي عضويته كل الأقليات الدينية والعرقية الموجودة في تركيا، على خلاف حزب «الحرية والعدالة». ويوضح ذلك الاختلاف مدى الانفتاح على أطياف المجتمع. ويكمن الاختلاف الرابع في طبيعة رأس المال الداعم للطرفين، ففي الحالة التركية يأتي التمويل من فوائض عمليات الانتاج، وفي مصر من ريع النفط والغاز الخليجي، ولذلك تأثير واضح على القيم التي يتبناها كل من الطرفين وعلى فرصه في النجاح الاقتصادي مستقبلاً. الاختلاف الخامس يكمن في الوضعية القانونية، فجماعة «الإخوان المسلمين» لم تقنن وضعها حتى بعد وصول الدكتور محمد مرسي إلى سدة الرئاسة؛ ولا تتعرض إلى تدقيق ورقابة من أي نوع، كما أن آليات الدخول والخروج منها غير شفافة. وبالمقابل فإن حزب «العدالة والتنمية» هو حزب تركي علني ولا شيء غير ذلك. الاختلاف السادس يبدو ظاهرا في البنية العقائدية للحزبين، إذ إن فقه المقاصد والجذر الصوفي النقشبندي واضح في حالة حزب «العدالة والتنمية» التركي، في حين أن التركيبة العقائدية لجماعة «الإخوان المسلمين» أصبحت في السنوات الأخيرة مزيجاً بين السلفي والإصلاحي والقطبي. الآن يصعب القول إن التيار الإصلاحي ما زال حاضراً في الجماعة على مستوى الكوادر العليا، وذلك بعد خروج الدكاترة عبد المنعم أبو الفتوح والسيد عبد الستار المليجي ومحمد حبيب. كل هذه الفروق توضح الفجوة الكبيرة التي تفصل بين جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وحزب العدالة والتنمية في تركيا.

القوة الناعمة التركية و«الإخوان المسلمون»

يبدو التعريف الراجح لمصطلح القوة في العلاقات الدولية كالتالي: القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج التي تريدها. ويمكن ذلك عبر ثلاث طرائق وهي أن تجبر الطرف الأخر بالقسر على تنفيذ ما تريد، أو أن تدفع له النقود كوسيلة للإقناع، أو أن تجعله يتعاون معك طواعية لتنفيذ أهدافك. الوسيلتان الأولى والثانية هي ما يطلق عليه «القوة الصلبة»، أما الوسيلة الثالثة فتجسد ما يطلق عليه «القوة الناعمة» التي صكها أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي قبل عقدين ونيف من الزمان. ومع منطقية التعريف إلا أنه من الصعوبة بمكان ترجمة «القوة الناعمة» إلى نفوذ سياسي واضح، وهذا ما ينطبق أيضاً على القوة الناعمة التركية أيضاً، فلا يكفي الادعاء بوجودها لتصبح مؤثرة، وإنما يجب ترجمتها إلى نفوذ سياسي على الأرض، وهو ما لم تفلح فيه تركيا كثيرا لافتقارها إلى شبكة من التحالفات الإقليمية في المنطقة. بمعنى آخر يبدو الرهان التركي على «الإخوان المسلمين» إجباريا لخلق الحليف/الشريك الإقليمي في المنطقة، الذي بدونه يصعب إنزال «القوة الناعمة التركية» إلى حيز التنفيذ. وتتأكد هذه الفرضية عند ملاحظة أن الرافعة الأساسية للمشروع الإقليمي التركي هي الاقتصاد، وإذ يحلو للأتراك التوكيد على موقع بلادهم في الاقتصاد العالمي (المرتبة السادسة عشرة على العالم بحسب الناتج المحلي الإجمالي)، فلا يفوت أن تقليب النظر في هيكلية الاقتصاد التركي سيؤدي إلى اكتشاف طغيان الطابع التقليدي عليه، في مقابل ضمور واضح للقطاعات التكنولوجية المتطورة. ويعني ذلك أن القدرات التنافسية للسلع التركية تجد تحققها في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا، وليس في الأسواق الأكثر تقدماً. وهنا في الشرق الأوسط تفتقر السلع التركية أيضاً إلى القدرة على التنافس مع السلع الصينية رخيصة الثمن ومع السلع الغربية عالية الجودة، فيكون الحل الأمثل في إضافة الحنين الثقافي Cultural Nostalgy إلى السلع التركية عبر المسلسلات التركية والتقارب التركي الثقافي والسياسي وكلها من وسائل «القوة الناعمة»، لتدعيم القدرات التنافسية للبضائع التركية (التأثير على المشاهدين بشكل غير مباشر ليشتروا سلعا مرتفعة السعر نسبياً وذات جودة أقل نسبياً)، وكل ذلك بالتوازي مع تحالف عريض مع جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر ودول المنطقة لتعزيز الحضور التركي السياسي والاقتصادي والثقافي. بالمقابل وعلى الجانب المصري، يبدو معلوماً أن تركيا غير قادرة على إقالة الاقتصاد المصري من عثراته وضخ الاستثمارات فيه، لعدم توافر السيولة الكافية حتى مع الإعلان عن تقديم ملياري دولار كضمان للصادرات التركية إلى مصر وليس كقرض أو حتى وديعة لدى البنك المركزي المصري. يفقد ذلك تركيا بعضا من جاذبيتها كشريك يعتمد عليه مصريا في حل المشاكل الاقتصادية، ما يترتب عليه عدم قدرتها في التأثير كما تتمنى في الخيارات السياسية المصرية.

الخلاصة

ما زال الطابع العربي للشرق الأوسط واضحاً في جغرافيته وسكانه، فالمساحة الأكبر في الشرق الأوسط هي للدول عربية وحجم السكان الأكبر هو للشعوب العربية. لذلك لتركيا وإيران مصلحة أساسية في إعادة تعريف المنطقة باعتبارها منطقة إسلامية وليست عربية، فينفتح الطريق أمام قوة نموذجيهما للتنافس على قيادة المنطقة، كل بأدواته. في الحالة التركية تبدو الأمور للوهلة الأولى أكثر إشراقاً، بالغطاء الدولي المعلوم وبالقوة الناعمة وبقدرات اقتصادها غير المنكورة وبالتحالف مع قطر ذات الفوائض المالية الضخمة، وكلها قدرات لا تملكها إيران بالضرورة. ينقص تركيا الشريك العربي المؤثر في معادلات المنطقة والراغب في التعاون معها، وهنا تعلق تركيا الآمال الحصرية على جماعة «الإخوان المسلمين» لتلعب دور الشريك العربي خصوصاً في ضوء العلاقات الممتازة التي جمعت بين الطرفين في السنوات العشر الأخيرة. كانت تركيا محطاً لانظار كل القوى الديموقراطية قبل «الربيع العربي»، وأصبحت بعد «الربيع العربي» موئلاً شبه حصري لجماعة «الإخوان المسلمين» ومن دار في فلكها من تيارات وأحزاب. وفقدت تركيا بسبب تحالفها الحصري مع جماعة «الإخوان المسلمين» إعجاب الطيف السياسي غير الإسلامي، فالقوى الليبرالية المصرية تنظر إلى الأصل في الغرب وليس إلى التوكيل، والقوى القومية تستحضر الخلاف التاريخي مع تركيا خصوصا مع تفاقم الأزمة في سوريا. أما القوى اليسارية المصرية فلا تجد للعدالة الاجتماعية ركناً واضحا في التجربة التركية. وحتى مع افتراض أن جماعة «الإخوان المسلمين» ستفلح في تحييد خصومها المحليين والإمساك بمفاصل السلطة كاملة في مصر، فلن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تحالف مصري حتمي مع تركيا. إذ تؤدي تركيبة «الإخوان المسلمين» الفكرية الراهنة إلى عدم القدرة على احتذاء النموذج التركي، الذي تراه قطاعات إسلامية عريضة ليس إسلاميا بما يكفي ومهادنا للعلمانية والغرب بأكثر مما ينبغي. كما أن نظرة الجماعة إلى نفسها والعالم تشمل الوصول إلى «أستاذية العالم» في نهاية المطاف، وما يعنيه ذلك من قيادة الجماعة للمنطقة والعالم وليس الانخراط في تحالف تقوده تركيا سواء تحت قيادة أردوغان أم غيره. وبالرغم من ذلك، ستستمر الجماعة في التعاون مع تركيا منعا من عزلتها الإقليمية، ولأن كلفة ذلك التعاون زهيدة سياسيا، وبسبب غياب الإسناد الاقتصادي الخليجي، وليس لأن الجماعة أرست خياراتها فعلا على تركيا.
يتأرجح «الإخوان المسلمون» إذن بين «الشرعية الديموقراطية القانونية» المتمثلة في التجربة التركية بما لها وما عليها، و«الشرعية الثورية» المتمثلة في التجربة الايرانية إن جاز التعبير. تمنع التركيبة الفكرية والحركية جماعة «الإخوان المسلمين» من قيادة عملية تغيير في مصر بمشاركة قوى سياسية أخرى – على النسق الذي تفضله تركيا ومن ورائها أميركا -، مثلما تغلق ذات التركيبة الباب أم تبلور سياسات راديكالية داخلية وإقليمية، وبما يجعلها تقترب من النموذج الإيراني. تبدو جماعة «الإخوان المسلمين» في كلتا الحالتين غير قادرة على المنافسة مع أيهما؛ وإن ظلت محطا لأنظار القوتين الإقليميتين غير العربيتين إيران وتركيا، وسيستمر ذلك التأرجح قائماً دون حسم على الأقل حتى تبلور صورة المعادلة الداخلية المصرية بشكل أوضح في الفترة القادمة.

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى