هل يبحث المصريون عن أب؟ (علاء الأسواني)

 

علاء الأسواني

نفترض أنك ذهبت متأخراً إلى عملك فغضب مديرك بشدة ووجه إليك شتائم قبيحة. سترفض قطعاً هذا السلوك من مديرك لأن علاقتك به تحكمها قواعد قانونية ليس من بينها توجيه الشتائم. من حقه أن يوقع عليك جزاءات محددة في القانون لكن ليس من حقه أن يشتمك، بل إن إهانته لمرؤوسيه مخالفة إدارية يجب أن يحاسب عليها.
نفترض أن الواقعة نفسها حدثت مع أبيك، تأخرت عليه قليلا فانهال عليك بالشتائم. عندئذ لا يمكن لك أن تحاسب أباك لأن الدين والعرف سيرغمانك على تقبل إهانات أبيك. إنك تتحمل من أبيك ما لا تتحمله من الآخرين. أبوك هو الذي جاء بك الى هذا العالم وأنفق عليك ورباك وعلمك، وبالتالي ستظل مديناً له طيلة حياتك ويجب أن تتسامح مع إساءاته مهما أزعجتك. الفرق بين علاقتك بمديرك وعلاقتك بأبيك أن الأولى علاقة مهنية تضبطها قواعد ادارية وقانونية والثانية علاقة انسانية تعطي الحقوق كاملة للأب على أولاده. الفرق بين المدير والأب هو الفرق ذاته بين الرئيس المنتخب والديكتاتور. الرئيس المنتخب موظف يعمل في خدمة الشعب الذي يراقب أداءه ويحاسبه عن طريق البرلمان وقد يعزله عن منصبه اذا أراد، أما الديكتاتور فهو في نظر شعبه الأب، طاعته واجبة والإذعان له فضيلة وهو يعرف ما لا نعرفه ومهما قسا علينا يجب أن نتحمله، لأن قسوته مبعثها حبه لنا وخوفه علينا.. توبيخ الرئيس في النظام الديموقراطي مسألة عادية قد يقوم بها أبسط المواطنين شأناً، عندما يقابل الرئيس فينتقد تصرفاته وقد يتهمه بالكذب والفشل ـ كما حدث مع رؤساء غربيين كثيرين ـ ثم ينصرف آمناً الى بيته. أما معارضة الديكتاتور فتعتبر خطيئة في حق الوطن يدينها الناس ويتهمون فاعلها بأنه خائن وطابور خامس أو ممول من الأعداء لإثارة البلبلة.
يعلمنا التاريخ أن الديكتاتورية تتحقق بشرطين، استبداد الحاكم وإذعان الشعب، كما أن الشعوب الحرة هي القادرة على تقدير زعمائها بدون أن تضفي عليهم هالة مقدسة أو تضعهم فوق مستوى البشر.. لقد قاد ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بلاده وحلفاءها الى النصر في الحرب العالمية الثانية لكنه خسر منصبه في أول انتخابات أجريت بعد الحرب العام 1945. لو أن تشرشل كان قد قاد أي شعب عربي الى النصر في الحرب لجعله ذلك يستمر في الحكم الى أن يموت، وربما يورث الحكم لأولاده من بعده، ولكان الشعب قد وضعه في مقام أسطوري فوق القانون والنقد والمحاسبة. على أن بريطانيا ديموقراطية عريقة والناس هناك يعرفون أين تبدأ وتنتهي حقوق كل مواطن، وهم برغم تقديرهم العظيم لتشرشل كبطل قومي، رفضوا أن يستمر في رئاسة الوزراء بعد الحرب، لأنهم يعتقدون أن من يصلح للقيادة أثناء الحرب لا يصلح بالضرورة كرئيس وزراء وقت السلم.
مناسبة هذا الكلام الحملة القائمة على قدم وساق من أجل إقناع الفريق السيسي بالترشح للرئاسة. لقد قام الفريق عبد الفتاح السيسي بمهمة وطنية جليلة، عندما انحاز لثورة الشعب ضد عصابة «الإخوان» الإرهابية الأمر الذي جعله يكتسب شعبية كبيرة بين المصريين، ولكن هل يعني كونه قائداً ناجحاً للجيش أنه يستطيع قيادة الدولة بنفس الكفاءة؟ هل تكفي الشجاعة والخبرة العسكرية من أجل إدارة الدولة بنجاح في مجالات السياسة والاقتصاد والتخطيط والتنمية؟ ثم كيف ستكون سياسات الفريق السيسي اذا صار رئيساً؟ ما هو برنامجه الرئاسي وما هي وسائل تنفيذه؟ ما رأي الفريق السيسي في «ثورة يناير» وهل يعتبرها مؤامرة إخوانية أميركية كما يعتبرها فلول نظام مبارك، وهل يوافق على حملة الاعتقالات لشبان الثورة وتلفيق التهم لهم التي تقودها أجهزة الأمن، وكان آخر ضحاياها شبان من أنبل وأشرف الثوريين مثل ناجي كامل ونازلي حسين وخالد السيد؟ هل يوافق السيسي على التشهير الرخيص بالثوريين الذي يقوم به جهاز أمن الدولة بواسطة بعض عملائه من الإعلاميين؟ هل ينوي الفريق السيسي محاسبة رجال الأعمال اللصوص الذين استغلوا علاقاتهم بمبارك ونهبوا أموال الشعب المصري؟ المذابح التي جرت في عهد المجلس العسكري وراح ضحيتها مئات المصريين وآلاف المصابين، هل ينوي الفريق السيسي فتح تحقيقات مستقلة فيها حتى لو أدى ذلك إلى إدانة المشير طنطاوي الذي يعتبره السيسي أستاذاً له؟ هل سيستأنف السيسي سياسات مبارك في الخصخصة وبيع القطاع العام أم أنه يؤمن بدور الدولة في دعم الفقراء وتوفير الحياة الكريمة لهم؟
كل هذه الأسئلة تظل بلا إجابة، فباستثناء تصريح مبهم عن عدم العودة الى الماضي لم يفصح الفريق السيسي عن أفكاره ولا توجهاته السياسية.
هنا نكتشف أمراً غريباً: إن ملايين المصريين يطالبون رجلا بتولي الرئاسة وهم لا يعرفون أي شيء عن توجهاته السياسية. الحق أن مؤيدي السيسي يضمون أنواعاً مختلفة من المصريين: هناك «فلول» نظام مبارك الذين عادوا الى المشهد بكل قوة، وكأن ثورة لم تقم ضدهم، هؤلاء يدعمون السيسي رئيساً بحماس، لأنهم يعتبرونه الى حد ما قريباً من نظام مبارك وبالتالي ــ وفقاً لمنطقهم ــ فإن الفريق السيسي إذا وصل للرئاسة، سيترفق بهم، أما إذا جاء رئيس من خارج النظام، فقد يفتح لهم الدفاتر القديمة ويطالبهم برد الأراضي والأموال التي نهبوها من الشعب، أو قد يحيلهم الى المحاكمة ويلقي بهم في السجون. النوع الثاني من مؤيدي السيسي منافقون محترفون يزمرون ويطبلون لكل رئيس، وهؤلاء يؤيدون السيسي اليوم ليقبضوا الثمن غداً، وهم واثقون من عودة الاستبداد، ولذلك فهم يشاركون في صناعة الديكتاتور الجديد حتى يكافئهم بالمزايا والمناصب. النوع الثالث من مؤيدي السيسي بعض أصدقائي الناصريين الذين بلغ حبهم للزعيم العظيم عبد الناصر حداً جعلهم يتوقون الى تكرار تجربته بأي طريقة. إنهم يحلمون بزعيم تاريخي ينحاز للفقراء ويتحدى الاستعمار ويعيد كرامتنا الوطنية، هذا الحلم الناصري دفعهم من قبل بحسن نية الى التورط في تأييد طغاة مثل القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد. إنهم يبحثون عن عبد الناصر جديد في كل مكان وبأي طريقة. هؤلاء ــ مع نبل مقاصدهم ــ أشبه بدون كيخوته في رواية الأديب الأسباني الكبير سرفانتس الذي أراد ان يكون بطلا بأي طريقة، فحارب طواحين الهواء لأنه ظن أنها جيوش الأعداء. خداع النظر هذا يدفع بعض الناصريين الى الحماس البالغ للفريق السيسي باعتباره خليفة عبد الناصر ويفوتهم هنا اعتباران مهمان: أولاً إن عبد الناصر على الرغم من عظمته وشجاعته وإخلاصه، عندما استبد بالحكم واستبدل الزعامة المطلقة بالنظام الديموقراطي، انتهى الى كارثة 67 التي لا زلنا نعاني من آثارها كما أن تجربته العظيمة انهارت بوفاته لأنه لم يترك نظاماً يحافظ على منجزات الثورة، وثانياً إن عبد الناصر كانت توجهاته الاشتراكية المنحازة للفقراء واضحة منذ البداية وهذا لا ينطبق على الفريق السيسي الذي لا نعرف حتى الآن إنْ كانت ميوله اشتراكية أم رأسمالية ولا نعرف بالضبط موقفه من نظام مبارك الفاسد القمعي.
إن الفلول والمنافقين والناصريين الحالمين لا يشكلون أساس شعبية السيسي التي تعتمد على تأييد المواطنين البسطاء الذين يرون في الفريق السيسي بطلهم المنقذ الوحيد. هؤلاء البسطاء فرحوا بخلع مبارك وتوقعوا خيراً كثيراً، لكنهم على مدى ثلاث سنوات عانوا من فقر الحال وارتفاع الأسعار بالإضافة الى ترويعهم عن طريق انفلات أمني متعمد ومذابح متعاقبة في عهد المجلس العسكري، مع حملات تشهير إعلامية لتشويه الثورة، جعلتهم يكرهونها أو على الأقل يتشككون في صدقها، ثم تولى «الاخوان» الحكم فازدادت الأمور سوءاً وأحس الناس أن البلد قد وقع في أيدي أفراد عصابة من الصعب استعادتها منهم، حتى نزل الملايين للتخلص من «الإخوان» فانحاز لهم السيسي وحمى إرادتهم ونفذها. هذا الدور الذي قام به السيسي هو الذي صنع شعبيته وجعل مصريين كثيرين يريدونه رئيساً بغض النظر عن كفاءته أو توجهاته.
إن المصريين الذين يحملون صور السيسي في الشوارع لا يبحثون في الحقيقة عن رئيس جمهورية وإنما عن أب يحتضنهم ويوفر لهم الأمن بعد أن طالت معاناتهم. إنهم يريدون السيسي حتى لو استأنف سياسات مبارك، حتى لو ظلمهم أو حكم بقانون الطوارئ وأعاد الاعتقالات والتعذيب. سيتقبلون من السيسي كل ذلك تماماً كما نتقبل من الأب كل ما يفعله من تجاوزات. كل ما يريدونه أن يوفر السيسي لهم الأمان وينتصر على الإرهاب، حتى لو عادت الأمور الى سابق عهدها أيام مبارك سيقبلون.. هؤلاء لا يهمهم كيف يصل السيسي الى السلطة ولا تعنيهم نزاهة الانتخابات المهم أن يحسوا بأن لديهم أباً جديداً قوياً يحميهم ويسيطر عليهم ويوفر لهم الأمن. لا يمكن بالطبع أن نلوم المواطنين المذعورين الباحثين عن أب يحميهم. فقوى الثورة المضادة التي قادها المجلس العسكري السابق وعصابة «الإخوان» التي سيطرت على السلطة وأنصار «الإخوان» الذين ينفذون عمليات إرهابية لقتل الأبرياء كل يوم، كل هؤلاء قد وضعوا المصريين في أوضاع أسوأ من الأوضاع التي ثاروا عليها في عهد مبارك. القطاع العريض من مؤيدي السيسي اذن لا يبحثون عن رئيس وإنما عن أب يحميهم من الأشرار وهم يتعجلون وصوله الى السلطة لدرجة جعلت أحد الناس الطيبين يقول في التلفزيون:
«عاوزين السيسي يبقى رئيس حالاً ومافيش داعي لتكاليف الانتخابات والدعاية والكلام ده».
هنا نجد أنفسنا في معضلة، فالثورة المصرية قامت أساساً لإلغاء فكرة الرئيس الأب، وإقامة دولة ديموقراطية يكون فيها الرئيس خادماً للشعب. عشرون مليون مصري هم الأكثر وعياً ونبلاً وشجاعة قاموا بثورة في «يناير 2011» ضد واحد من أسوأ الانظمة القمعية في العالم، واستطاعوا اجبار مبارك على التنحي، ثم فرضوا محاكمته وسجنه على المجلس العسكري.
اذا قرر السيسي الترشح سيكون في الغالب رئيس مصر القادم لكن طريقة وصوله الى السلطة ستحدد شكل الدولة المصرية لعقود قادمة. اذا اقتنع الفريق السيسي بأن النظام الديموقراطي أهم من سلطة الزعيم المطلقة، وسمح بانتخابات رئاسية نزيهة، فإنه سيكتسب شرعية حقيقية داخل مصر وخارجها، وستتحول مصر من دولة استبدادية متخلفة الى دولة ديموقراطية محترمة. أما اذا تولى الفريق السيسي الرئاسة عن طريق انتخابات صورية كتلك التي حكم بها مبارك ثلاثين عاماً فإنه يكون قد أخطأ في حق الشعب والثورة، ودفع بمصر الى ديكتاتورية جديدة سندفع جميعاً ثمنها الباهظ كما دفعناه من قبل مراراً.
الديموقراطية هي الحل

صحيفة المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى