توفي روائي الجاسوسية ( جون لوكاريه) و هو يغطي أسرار حياته بالأكاذيب !

 

بينما ترتفع شكوى الإدارة الأميركية بتعرض مؤسساتها للتجسس بالقرصنة السيبرانية ، لفظ معلم الرواية الجاسوية البريطاني ( جون لوكاريه) أنفاسه الأخيرة ليموت عن 89 عاما” قضى قسما” منها يعمل كجاسوس لصالح بريطانيا في جهاز ( أم . أي . 6) و عمل في بقيتها على كتابة الرواية الجاسوسية متأثراً بعمله و خبرته التي أكتسبها . و أنتج 25 رواية باع منها 60 مليون نسخة، و صنف كأعظم روائي في النصف الثاني من القرن العشرين لدى بعض النقاد .

كانت روايات ( لوكاريه) أحد أسلحة الحرب الباردة ، التي روجها الغرب في إطار مواجهته للإتحاد السوفييتي، وهذا ما يجعلها تمتلك مقومات دراسة جدية لكيفية إستخدام الغرب للفنون، والرواية واحدة منها، في إطار المواجهة الحضارية التي خاضتها ضد الرق الشيوعي . و مع ذلك فإن ( لوكاريه) جعل من رواياته مختبراً لإستخدام اللغة بشكل ذكي وحساس . كما أبدع في تصوير شخصياته وجعلها كاشفة للكثير من المفاهيم الإنسانية ، رغم إحتفال الغرب بموضوعها ( الجاسوسية ).

جهد ( لوكاريه) في رواياته لتحطيم قالب روايات ( إيان فيلمينغ) حول الجاسوسية ، و القائمة على العنف و الحركة ، والتي ترسم البطل جيمس بوند صورة رومانسية مرحة و ذكية و خارقة، تجعله يحل أعقد المشكلات بينما يدخل إمرأة في الفراش . و كرد على نموذج جيمس بوند رسم ( لوكاريه) شخصية (جورج سمايلي) المناقضة تماماً لبوند . و بدل الحركة والعنف، صور ( لوكاريه) العمليات الإستخبارية البريطانية  كبؤر من الغموض يقترب فيها الصواب من الخطأ . و نادراً ما تكون الغايات واضحة كما أنها لا تبرر الوسيلة .

رغم أن والده (رونالد) كان نصاباً محتالاً إلا أنه حرص على تعليم أولاده. و أثناء دراسة لوكاريه في سويسرا استطاع جاسوس يعمل في السفارة البريطانية تجنيده للعمل لصالح بريطانيا . وعندما عاد ليدرس في أوكسفورد عمل لصالح الإستخبارات الداخلية . و كان يتجسس ويراقب الطلاب ذوي الميول اليسارية . ثم أوفده جهاز الإستخبارات الخارجية إلى ألمانيا تحت غطاء دبلوماسي ليتجسس على الألمان . ولكنه ومنذ العام 1964 تفرغ للكتابة و إنتاج روايات الجاسوسية .

في العام 1963 أصدر لوكاريه روايته الثالثة ( الجاسوس القادم من البرد )، والتي قال عنها جراهام غرين أنها ( أفضل رواية جاسوسية قرأتها على الإطلاق ) . بينما كتب ( تيموثي جارتو آش ) في النيويوركر العام 1999 ( من الناحية الواقعية ، فإن موضوع لوكاريه ليس الجاسوسية . موضوعه يركز على متاهة العلاقات الإنسانية التي لا نهاية لها . حيث الخيانة نوع من الحب . و الكذب شكل من أشكال الصدق . و حيث الرجال الطيبون يخدمون قضايا فاسدة . و الأشرار يخدمون الخير ) أي أنه روائي علاقات إنسانية ، موضوعة في مأزق الحرب الباردة ، وكشف لتفاعلاتها وإحتكاكاتها .. و حسب ماك إيوان فإنه كان يرفض حضور الإحتفالات الأدبية والجوائز والألقاب . وعندما أدرج في قائمة جائزة مان بوكر طلب سحب أسمه منها.

( لوكاريه) أعتمد الرواية الجاسوسية ، أيضاً، كوسيلة لاكتشاف المجتمعات، وفي هذا الإطار كان يستمر بالسفر إلى المناطق التي يكتب عنها . حتى أنه عندما أراد أن يكتب عن مشكلة الشرق الأوسط  زار عمان و بيروت ودمشق والقاهرة وتردد على إسرائيل، وقابل المسؤولين من كلا الطرفين . وعندما اجتمع مع ياسرعرفات، وضع يده على صدره وقال ( أريد أن أشعر بالقلب الفلسطيني ) . وكأي كاتب غربي فإن لمعاداة السامية وقع يحاول تجنبه، ولكن بعض الإعلام الإسرائيلي حاول استثمار زياراته لإسرائيل للإيحاء بأنه صهيوني . بينما استمر جاسوساً بريطانياً يكتب روايات جاسوسية ، يسرب عبرها رؤيته للتاريخ والإنسان . وهذه هي التجربة التي تستحق الدراسة للإستفادة منها .

في البداية ، ومع روايته الأولى ، رفضت الإستخبارات أن يكتب بإسمه الحقيقي ( ديفيد كورنويل) … و لكنه حتى بعدما ترك المخابرات ظل يكتب بالإسم المستعار الذي يغطي إسمه الحقيقي . فهل هي غريزة الجاسوس في استمرار التخفي ؟! ومن الواضح أن حياته ، وما تعرض له، بدءاً من عائلته ووالده النصاب وأمه التي هجرتهم وهومازال طفلاً وصولاً لعمله كجاسوس، و تنقله في مهمات متعددة، هي الرواية الأغنى التي لم يكتبها … و التي قال أنه من شدة خوفه منها، يستمر في تأليف الأكاذيب ليغطيها و يخفي ملامحها .

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى