لا نهضة للعرب من دون البحث العلمي

أشارت الكثير من الدراسات إلى أنّ البحث العلمي في المنطقة العربية، والمتمثّل في إنتاج أعضاء هيئة التدريس والباحثين، ليس له علاقة قويّة ومباشرة بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأنّ هناك فجوة بين البحث العلمي وخطط التنمية؛ لذا يحاول هذا المقال الإجابة عن السؤالَين التاليَين: ما هو واقع الفجوة بين البحوث الأكاديمية ومجالات التنمية وحقوق الإنسان؟ وما هي أهمّ مشكلات البحث العلمي ومعوّقاته التي تؤدّي إلى فجوة بين البحوث الأكاديمية ودورها المفترَض في تنمية المجتمع المصري ومعالجة أبرز قضاياه؟

يُعَدّ البحث العلمي أحد المكوّنات الأساسية للتنمية الشاملة؛ كما أنّ الجامعة لا يمكن أن تسهم في عملية التنمية إلّا بتفعيل آليات عملها البحثي، والتركيز على قضايا التنمية، وحقوق الإنسان وغيرها. وإذا نظرنا إلى البحث العلمي في الوطن العربي خلال السنوات العشر الماضية، سرعان ما يتبيّن لنا أنّه – أي البحث العلمي- ظلّ، على الرّغم من تطوّره، يفتقر إلى وجود استراتيجية وخطط بحثية متكاملة للعلاقة التي تربطه بالتنمية، بحيث تكاد تكون العلاقات البحثيّة بين الجامعة وخطط التنمية ومـؤسّساتها محدودة.

إنّ دور الجامعات العربية في مجال البحث العلمي يواجهه الكثير من المعوّقات والمصاعب والتحدّيات، لأنّ هذه الجامعات لم تتبوّأ مكانتها الحقيقية، ولم تصل لأن تكون جزءاً لا يتجزّأ من العملية السياسية والتنموية، ولذلك أسباب تتّصل بخصوصيّة البيئة التي تعمل فيها، وبالإشكاليّات والتحدّيات التي تؤثّر على دورها وعملها وحراكها، بحيث بدا دور معظمها باهتاً وغير فاعل في عملية التنمية المجتمعية بأبعادها كافّة.

ثمّة تراجع فى مستوى البحث العلمي ككلّ في المنطقة، وهذا ما رصده تقرير اليونسكو(2010) “حالة العلم على مستوى دول العالم”، وما أكّد عليه “تقرير المعرفة العربيّة” الصادر عن برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي (2011). بحيث يتبدّى هذا التراجع في ضعف الإنتاجية البحثية للعالم العربي، وضعف الدور الذي تمارسه الجامعات والمراكز البحثية العربية في إنتاج المعرفة عالمياً، وابتعاد البحوث عن معالجة مشكلات الواقع والمجتمعات العربية، والاعتماد على الجهود الفردية كأساسٍ للعمل البحثي، والبُعد عن العمل المؤسَّسيّ.

ويرى محمود خالد وليد (“سبل النهوض بالمؤسّسات البحثية العربية”، الرأي، 9/4/2014)، أنّ البحث العلمي في العالم العربي يعاني من مشكلات ومعوّقات عدّة، لعلّ أبرزها التمويل، وهو أهمّ عائق يواجه المؤسّسات البحثية العربية، والافتقار إلى الموضوعية والاستقلالية في العمل، وانعدام العمل المؤسّساتي المستقلّ والمناخ الديمقراطي، والعشوائية في العمل، وضعف المعلومات، وعدم توافر قواعدها وفق النُّظم المعلوماتية الحديثة، وغياب نظامٍ جاذب للكفاءات، وقضيّة التسييس، وافتقاد الموضوعية، وغياب مقاييس أو أدوات لتقييم المؤسّسات البحثية العربية.

ويرصد كلٌّ من علي السيّد الشخيبي وسليمان سعيد أحمد مؤشّرات عديدة عن الفجوة القائمة بين البحث العلمي في العالم العربي ومجالات التنمية وحقوق الإنسان تتمثّل في الجوانب الآتية:

– عدم وضوح الرؤية والفلسفة الشاملة للبحث العلمي.

– خلوّ السياسات البحثية، لكثيرٍ من الجامعات العربية، من تحديدٍ واضحٍ لأهداف البحث العلمي.

– فقدان الاستقلاليّة: فالجامعات تفتقد الاستقلال المالي، ومن ثمّ تكون خاضعة لعلاقات تبعيّة سياسية أو حزبية، أو تكون خاضعة لسياسات الدولة.

– البعد عن الواقع: وهو ما يشكّل الداء القاتل للمؤسّسات البحثية، لأنّها لا تستطيع أن تقنع المجتمع بدراساتها، ولا صانع القرار بتوصياتها، ولا تجذب رجل الأعمال لكي يسهم في تمويلها.

– غياب الخطط أو التخطيط المنظَّم، وغياب التنسيق الكافي بين المشروعات البحثية للجامعات واحتياجات قطاعات الإنتاج ومؤسّسات الأعمال.

– روتينيّة النظم والقوانين التي تمثّل عائقاً أمام تأدية هذه المراكز وظائفها.

– افتقار الأبحاث التي يتقدّم بها الباحثون إلى الجودة التنافسية.

– نقص الاعتمادات المالية، وعدم وجود حوافز مُجزية للباحثين تشجّع على البحث والابتكار.

– اعتماد البرامج والأنشطة البحثية على الجهود الفردية لأعضاء هيئة التدريس.

ويوضح الشخيبي (“الوضع الحالي للجامعات المصرية، وإمكانية تطويرها”، ندوة التخطيط الاستراتيجي في التعليم العالي، كلّية التربية، جامعة طنطا 11 / 5 / 2010) أنّ أحد أبرز عوامل الفجوة بين البحوث الأكاديمية ومجالات التنمية المختلفة وقضايا حقوق الإنسان تتمثّل في ” تواضع البحث العلمي، وقلّة الإنفاق عليه، وتدنّي كفاءة الجهاز الإداري، وسيادة النُّظم الروتينية للإدارة الجامعية، ناهيك بطبيعة البنية العقلية السائدة في المجتمع، والتي أدّت إلى غياب ثقافة الإبداع”. كما يرصد سليمان سعيد أحمد ” تركيز المؤسّسات التعليمية والجامعية على نقل المعرفة نقلاً مجرّداً، والاهتمام بالبحوث والدراسات النظرية، من دون إجراء البحوث التطبيقية إلّا في حدود ضيّقة” (“رؤية جامعة الإسكندرية حول إمكانية الإفادة من صيغة التعليم المفتوح في تحقيق مبدأ حقّ التعليم الجامعي المتميّز للجميع”، ندوة التعليم المفتوح: الواقع والمأمول، جامعة بنها، 2-3 تمّوز/ يوليو2012).

ويمكن القول إنّ العوامل التي تحول دون الإفادة من البحوث العلمية في تنمية المجتمع، وتكوين الفجوات بين البحوث الأكاديمية ومجالات التنمية وحقوق الإنسان تتمثّل، فضلاً عن قلّة عدد الباحثين، وارتفاع تكلفة النشر العلمي، والافتقار إلى هيئة مسؤولة عن إجراء البحوث والتنسيق بينها على مستوى الجامعات وعلى المستوى القومي ككلّ، في:

أولاً: عدم وجود رؤية أو فلسفة واضحة للبحث العلمي العربي؛ بحيث أدّى ذلك إلى اتّجاه الباحثين إلى اشتقاق مشكلاتهم وبحوثهم من النظريات، والمناهج والأدوات السائدة في الغرب، والاستعانة بالنظريات الغربية لمعالجة مشكلات محلّية. فيصطدم الباحث بالواقع الرافض لهذه النظريات لأنّها تفتقر إلى الأصالة، وهذه الطريقة لا تؤدّي إلى إسهام حقيقي في حلّ المشكلات المجتمعية أو في زيادة الوعي المجتمعي. وتشير الدراسات كذلك إلى أنّ التركيز على مناهج البحث وأساليبه من دون الاختيار الأصيل والجيّد للموضوعات يحول دون فهمها بشكلٍ عميق وشامل.

ثانياً: ضعف الإعداد والتدريب والتأهيل العلمي للباحثين وعدم كفايته؛ بحيث تشكّل برامج الإعداد السيّئة أحد عوامل سوء البحث العلمي العربي وضعف نتائجه.

ثالثاً: تدنّي ميزانيّات البحث؛ بحيث تمثّل قلّة الأموال المخصَّصة للإنفاق على البحث العلمي، وعدم مشاركة المؤسّسات الكبرى والأفراد الأثرياء في نفقات البحث، إشكالية وقضيّة عالمية حقيقية.

رابعاً: الفجوة بين الباحثين وصنّاع القرار؛ إذ إنّ نتائج البحوث لا تصل إلى صنّاع القرّار في كثيرٍ من الأحيان، ما يجعل الاستفادة منها في مجال التطبيق ضعيفة، ويرجع ذلك إلى عدم إيمان صنّاع القرار بالأبحاث ونتائجها، وكتابة الأبحاث بلغة علمية يصعب على صنّاع القرار التربويّين فهمها، وعدم الميل لدى صنّاع القرار للقراءة.

خامساً: التوجّه المسبق لدى الباحث لتبنّي نتائج معيّنة؛ ذلك أنّ إيمان الباحث بفكرة ما أو بأسلوب ما أو بتطبيقٍ محدَّد قد يؤثّر على الأساليب المستخدَمة، فضلاً عن تأثيره على العيّنات والأدوات والنتائج، من دون قصد ربّما أو عن قصد.

سادساً: التطفّل الأكاديمي؛ ويُقصد به أولئك الأفراد الذين لا يتطلّعون إلّا إلى الشهرة فحسب، وهُم في حقيقة الأمر لا علاقة لهم بالبحث العلمي لا من قريب ولا من بعيد، ويندرج عملهم في إطار التطفّل الأكاديمي والاستغلال الأكاديمي، أي استغلال الباحثين لطلّابهم عبر تكليفهم بإعداد بحوث سرعان ما ينسبونها إليهم، ناهيك بمشكلة السرقات الأكاديمية.

سابعاً: ضعف التخطيط للبحث العلمي؛ حيث يغلب على الكثير من الأبحاث الأكاديمية طابع العشوائية والفردية أو الدافع الشخصي، وبالتالي فإنّ البحث يأتي دون المستوى المطلوب، إذ إنّ البحوث التي تهدف إلى وضع حلول لمشكلات اجتماعية معيّنة تحتاج إلى جهود تفوق قدرات الباحث الواحد، هذا فضلاً عن قلّة الإمكانات المادية ومحدودية القدرة اللتين تدفعان بالباحث إلى اختيار موضوعات يسهل بحثها ولا تهدف إلى حلّ مشكلات قائمة.

ثامناً: كثرة الإجراءات الإدارية؛ فقد يحتاج الباحث تصريحاً لإجراء البحث في مؤسّسات حكومية، لكنّ الاستحصال على هذا التصريح صعب، الأمر الذي يدفعه إلى إنجاز بحثه سرّاً في حال تمكّن من ذلك.

تاسعاً: كثرة المشاغل والمشكلات؛ بحيث تمنع كثرة الشواغل والالتزامات المهنية والاجتماعية والإدارية باحثين كثراً من التفرّغ لأبحاثهم، وتُقلِّل الطاقات الموجّهة للعمل البحثي.

عاشراً: ضعف بنية الهيكل الأكاديمي؛ فالعاملون في المجال الأكاديمي لا يشكّلون قوّة توازي أهمّيتهم في المجتمع، وذلك بسبب قوّة انتمائهم إلى المؤسّسات التي يعملون فيها على حساب انتمائهم لبعضهم البعض كجسم أكاديمي واحد.

نحن في حاجة ماسّة إلى مراجعة أساليب البحث العلمي وأنماطه. ولا بدّ بالتالي من أن تقوم الجامعات بدورها في إطار من التنسيق مع متطلّبات التنمية وحقوق الإنسان وقضاياها في مجتمعاتنا؛ فإذا كنّا جادّين في إصلاح الجامعات العربية، لا بدّ من إعادة النظر في دور البحث العلمي، ومعالجة الفجوة الراهنة بين البحث العلمي وقضايا المجتمعات العربية، وزيادة ميزانياته، وإعداد الخطط بالأولويّات البحثية، والتنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث للتصدّي لتلك القضايا، ورفع مهارات الباحثين وكفاياتهم، وزيادة فرص احتكاكهم من خلال البعثات ودعم مشاركتهم في المؤتمرات والندوات، وزيادة حوافز النشر في الدوريات والمؤتمرات العالمية، والتوجّه نحو إنشاء الجامعات البحثية، وتطبيق معايير الجودة في مجالات التعليم الجامعي، والتنسيق بين الجامعات لتبادل البحوث ونشر نتائجها …

لا بدّ إذاً من أن تتغيّر نظرتنا إلى البحث العلمي، لكونه لم يعد رفاهية بل ضرورة فرضتها متغيّرات العصر وطبيعة الحياة، ولا سبيل للنهوض بالعالم العربي إلّا من خلاله.

*مدرّس أصول التربية
كلّية التربية – جامعة الإسكندريّة

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى