رواية “التفاح الأخضر” تتناول المشكلات في اسطنبول
يعد ناظم حكمت أحد أهم الشعراء في تاريخ الأدب التركي الحديث، ولد في اسطنبول عام 1902 وتوفى في المنفى عام 1963. عرف بانتمائه اليساري وإيمانه بالأفكار الماركسية، وتعرض للاعتقال والسجن بسبب نشاطه وأشعاره أكثر من مرة، وحين شعر بأن حياته أصبحت مهددة سافر إلى روسيا عام 1951. وفي نفس العام أصدرت الحكومة التركية قرارا بتجريده من جنسيته ليموت ويدفن في مقبرة نوفودافيتشي بروسيا. وفي العام 2009 تم إعادة الجنسية له. له العديد من الأعمال الشعرية والمسرحيات التي ترجم جانب كبير منها للعربية، وهذان العملان الروائيان اللذان ترجمتها د.أماني محمد صبحي يشكلان إضافة نوعية في إنتاجه الإبداعي.
الروايتان اللتان صدرت ترجمتهما أخيرا عن دار صفصافة، هما رواية “التفاح الأخضر”، ومسودة رواية أخرى لم يكملها ناظم حكمت هي “حق الحياة”، ومثل كل أعمال حكمت تدور أحداث الروايتين في قالب عاطفي حاول به الكاتب الإفلات من الرقابة التي كانت تمنع صدور أعمال العديد من الكتاب في تركيا.
تتناول الرواية الأولى المشكلات الاجتماعية التي تفاقمت في اسطنبول أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى ومن بينها مشكلات الفقر وأثرياء الحرب، من خلال عدد من الشخصيات الذين يمرون بمغامرات عديدة مثل السجن والهروب من العصابات التي انتشرت في تركيا خلال تلك الحقبة. ومن خلال مذكرات المليونير القتيل “جوكسل” يبحر بنا البطل خالد جميل في مغامرات مع عالم المال والجريمة ويحكي لنا عن معاناة سكان أسطنبول مع الاحتلال الذي جثم على صدر المدينة بعد الحرب العالمية.
ويمكن تلخيص ما تدور حوله رواية “حق الحياة” في قول بطلها دون باولو ألڤاريس “أنا لم أعط صوتي لأي أحد، فقد منحت صوتي الوحيد للحياة ولحق الحياة كما أفهمه أنا.. أنت أعطيتِه لملكك الأرعن ولكنيستك، وهم للجبهة الشعبية.. أما أنا فلحقي في الحياة.. أنا لا أريد شيئًا من دون رافيليتو ولا بدرو ولا أي من الجبهة ولا من أيٍّ كان، كما أنهم لا يريدون مني أي شيء”.
نموذج من رواية “التفاح الأخضر“
** الرسالة القادمة من عائشة
ولج خالد جميل الحجرة حين كان الليل ينشر أجنحته بالخارج، والعتمة تداهم الحجرة فبدا أثاثها كأنه وراء زجاج أزرق.
سار لإغلاق باب الحجرة الذي تركه مفتوحًا على مصراعيه وهو يدخل، وبينما كان يغلق الباب لفت نظره ظرف رسالة في الطرف، لا بدَّ أن أحدًا قذف بها في الحجرة من أسفل عقب الباب.
انحنى وأخذ الرسالة، كان مكتوبًا على الظرف كلمتين: “لخالد جميل”…
ولأول مرة يرى خالد جميل اسمه مكتوبًا بخط رقيق وجميل ومذهل هكذا.
لم يرغب في إشعال الضوء، سار نحو النافذة وفتح الظرف ثم شرع في قراءة الرسالة أسفل ضوء الغسق الذي تصطبغ به ليالي إسطنبول:
“جميل،
ربما سيكون استيعاب رسالتي إليك صعبًا للغاية؛ لكني أريدك بعد استيعابه أن تصدقه مهما كان ذلك شاقًّا…
خالد،
لا أستطيع أن أعرف لم وكيف كتبت هذه السطور لك، همسوا بهذه الكلمات في أذني، وقف خلفي شبح طويل حالك السواد، وخاطبني قائلًا ’ستموتون جميعًا في كل الأحوال‘ فكان لا بدَّ لي أن أتحدث قبل أن يخنقني بيده؛ لأني أعلم يا جميل أنه ربما لن أستطيع الحديث ولا الإحساس ولا البكاء بعد ساعة.
كثير من الناس أعاد عليّ أني جميلة حتى بدأت أصدق؛ لكن لم يقل لي أي أحد قط ’يالسعادتك!‘، ثمة مقولة سائدة تقول ’لا تجتمع السعادة مع الجمال!‘، وقد تحققت هذه الحكمة في شخصي.
ولهذا فعندما كنت في فراشك واستلقيت إلى جوارك وكنت معك حتى؛ لم أكن لك.
لقد أسأت لك كثيرًا؛ يا جميل! حتى الآن وأنت تقرأ هذه الأسطر بأسى؛ لكن ماذا أفعل؟ ليس بيدي.
لا تظن أني ألهج لهفة وحماسًا! فلم أكن أبدًا بهذا القدر من الهدوء والرصانة؛ لأني على دراية جيدة بما سأفعله وما يجب عليّ فعله؛ لكني عانيت شقاء مهولًا في الماضي وفي الحاضر وفي الأيام السابقة، لا أظن أن إنسانًا تألم مثلي قط.
جميل! كانت أحبَّ لعبة لي في طفولتي: ترغية صابون في وعاء وتطيير فقاعات الصابون الملونة المتلألئة لأعلى في الهواء؛ لكن وبينما كانت ترتفع هذه الفقاقيع غير المتبلورة عديمة الشكل نحو السقف في كل مرة؛ كانت أكبرها وألمعها وأجملها تنطفئ قبل الجميع في منتصف الطريق؛ وكنت أنا أبكي… والآن أيضًا كذلك… الآن تعتريني رغبة عارمة في البكاء؛ لأني أنا ألمع وأجمل وأكبر فقاعة ما لبثت أن انطفأت في منتصف الطريق قبل الجميع.
همست قائلًا ’كوني زوجتي، يا عائشة!‘، اخترقت هذه الهمسه ثنايا قلبي، فضللت طريقي؛ ورغم أني لا أعرف من أنت إلا أني قد أحببتك؛ لكن… تدرك أنت تكملة لكن هذه، أليس كذلك؟ أود الآن أن أذكر أني أسعدت إنسانًا واحدًا على الأقل ولو للحظة، أتفهمني يا جميل؟
لا تُظهر هذه الرسالة لأي أحد وخصوصًا نوري لا تخبره! ستعدني، أليس كذلك؟
أستودعتك الله يا خالد جميل! أتمنى أن تتذكرني كحبيبة قديمة متوفاة.
في أمان الله.
عائشة”.
قرأ خالد جميل الأسطر الأخيرة في حين كان الظلام يطبق تمامًا على الخارج، وأصبحت الحجرة الخاوية أشبه بكومة ظلال قاتمة…
بات خالد جميل كالشبح في الحجرة الخاوية الشبيهة بكومة ظلال قاتمة بمفرده..”.
نموذج من رواية “حق الحياة”
جلس دون باولو ألڤاريس فوق أحجار رصيف الميناء البيضاء يتطلع إلى البحر هازًّا ساقيه الطويلتين النحيلتين داخل بنطاله الأزرق المنفوش المجعد، بينما أنارت شمس الصباح الدافئة التي بزغت للتو من المياه أعماق البحر أدنى الرصيف فبدت كأنها من وراء زجاج، وبدت أسراب الأسماك الصغيرة وهي تمر متتابعة من بين أشعتها المضيئة والمذهلة.
تمنى لو يحل محل هذه الأسماك ويتحرك مع شعره وشاربيه الطويلين الأبيضين المتطايرين خلال هذه الأثناء في هذا العالم الذي تجتمع فيه المياه بالضوء؛ كما يتحرك السمك دون تعب أو سأم، فقد كان يغبط عالم السمك على حركته الفريدة الدائمة الشغوفة فقط؛ وإلا فإنه لا يستاء فقط من مذاق الأسماك اللاذع أو من رائحة الطحالب المملحة؛ بل وحتى من عدم إحساسها برائحة قشورها ويعد هذا عيبًا كبيرًا فيها، بالإضافة إلى طريقة تزاوج أغلب الكائنات البحرية الصغيرة هذه – التي لا تمتلك إناثها ثديًا – تزاوجًا خضريًّا، وهو يبغض تزاوج السمك الخضري هذا أيما بغض لأنه حين كان يداعب دونا مارية الأرملة التي تبيع أجمل أزهار الماغنوليا في باريس؛ كانت ترى فيه زوجها المتوفى.
فالحياة بالنسبة لدون باولو ألڤاريس لم تكن تعني الرؤية فقط دون تمييز بين جميل وقبيح وطيب وكريه؛ بل إنها تعني كذلك كل الأفعال الأخرى من شم وشعور وسمع وتذوق وتزاوج.
يعود دون ألڤاريس إلى بيته بعد مشاهدته للأسماك من على الرصيف صباح كل أحد مشمس؛ فيناقش ابنته كونشيتا وزوجها بدرو صارخًا بأعلى صوته ومرددًا نفس أفكاره بالجمل ذاتها:
ـ “ليس لنا إلا حق واحد، لا يمتلك بنو البشر إلا حقًّا وحيدًا؛ وهو ـ كما أفهم أنا ـ الحق في الحياة.. الحق في التنفس والإحساس بالدفء والبرودة والتكاثر والأكل حتى الشبع ورؤية النور والظلام والتمييز بين الأخضر والأحمر والأزرق”.
فترد ابنته دونا كونشيتا على أبيها كل صباح أحد مشمس بنفس الاعتراضات محملقة بحدقتيها الأشبه بحبتي زيتون كبيرتين:
ـ “نعم؛ لكن ألا يوجد حق آخر في الحياة غير ما أحصيته، على سبيل المثال أن تحوز المرأة رجلًا يحبها من صميم قلبه وأن يصبح لديها عش وبيت وأطفال أذكياء معافون؟ أليس هذا من ضمن الحقوق الحياتية للبشر؟”.
بيد أنه لم يجب في أي مرة على اعتراضاتها هذه مباشرة؛ بل كان يجول بعينيه الصغيرتين الماكرتين في الزهور الحمراء والخضراء التي تزين شالها الحريري الأسود الذي ترتديه أيام الآحاد ومن ثم يوجه سؤاله لصهره:
ـ “قل لنرى يا بدرو؛ هل بهذا فقط يكتمل حقك في الحياة؟ أهو الحب من صميم القلب والمرأة أو الرجل الذي تحبه وامتلاك عش وبيت وأطفال أذكياء معافين؛ أهو كافٍ برأيك؟ أم ليس كافيًا؟ ألا تريد حقوقًا أخرى ـ على حد تعبيرها ـ تكفل لك عيش الحياة على أكمل وجه مثل حق الكلام وحق التجمع وحرية الأفكار والعمل الحر وعدم الاستغلال من قبل أحد؟”.
فيجيب بدرو عن هذا السؤال الطويل المتكرر كل صبيحة أحد مشمس بقوله:
ـ “نعم؛ إلى حد ما”.. غير أنه لا يستطيع إتمام كلامه كل مرة؛ لأن دون باولو بمجرد تلقيه هذا الجواب؛ يطلق قهقاته المعتادة الأشبه بضحكات المِعاز، ثم يلتفت لابنته:
ـ “أرأيتِ يا ابنتي الأزمة، أنت أكثر طمعًا مني، وزوجك أكثر منك طمعًا.. فعلى الرغم من أن ثلاثتنا متوافقون في حق الحياة على حد فهمي، إلا أن ثمة اختلافًا بيننا يكمن في الأحلام التي ننسجها فوق هذا الأساس، فالحب من صميم القلب والبيت والحرية السياسية والمساواة الاجتماعية؛ دعك من هذا كله… وافهم أن العيش والحركة وسماع الأصوات مهما كنت في البيت أو على الرصيف حرًّا أم أسيرًا هي سعادة كافية بحد ذاتها وبمفردها.. كانت إسبانيا على سبيل المثال ملكية وصارت الآن جمهورية… يطن صوت بأذني.. لا أريد إلا شيئًا واحدًا؛ شيئًا واحدًا على الأقل: ألا يقتلوني، ألا يتعدوا على حقي في الحياة، لقد رأيت جدران السجن على مرمى البصر ورأيت البحر حتى الشمس البازغة… الكل واحد في رأيي… يكفي أنني استطعت الرؤية”.
ودائمًا ما كانت تختتم هذه الكلمات، الجدال الطويل لدون باولو العائد إلى بيته بعد مشاهدته الأسماك من فوق الرصيف صبيحة كل أحد.