فـي كـــوالـــيـس الشـــرق الأدنـى (1) عبد الـناصر «أبو مصر الحديثة»: لسـت تابعـاً ولا أسمح لأحـد أن يستقر على يساري (اريك رولو)

اريك رولو

ترجمة : د. داليا سعودي

جمال عبد الناصر
إذ تهددتني ملاحقاتٌ بسبب نشاطات  وُصفت بأنها «صهيونية وشيوعية»، وطُردتُ من مصر، منفياً لإثنتي عشرة سنة، وهو مبعث الطابع السُّريالي للاستقبال الذي حظيتُ به لدى وصولي عائداً إلى مطار القاهرة. وإذ كانت تصحبني زوجتي روزي، وهي مصورة صحافية، استقبلنا مندوبٌ رفيع من وزارة الإرشاد ببوادر احترام فوق العادة، ثم أقلتنا سيارة رسمية إلى أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة، حيث كان هناك جناح محجوز لنا، تنتظرنا فيه باقة ضخمة من الزهور، ومعها بطاقة مفادها أن «رئاسة الجمهورية» ترحب بنا. ولقد كانت كل تلك الحفاوة خليقةً بإدهاش المنفيّ الذي كنتُ سالفاً.
يعود أصل الرواية التي أخذت أحيا فصولها إلى باريس قبل ذلك ببضعة شهور. في ربيع العام 1963. وكنتُ في تلك الفترة رئيساً لقسم الشرق الأدنى والشرق الأوسط في صحيفة «لوموند» الفرنسية (Le Monde)، وقد عُهد إليَّ بهذا المنصب في مجافاة تامة للمنطق، إذ كانت معظم الدول العربية آنذاك، إن لم يكن جميعها، ترفض إعطاء تأشيرة دخول لليهود.
كانت إدارة الصحيفة تثق بي على الأرجح بسبب تحقيقاتي السابقة في أفريقيا السوداء، في زمن لم يكن من اليسير العمل هناك، حيث كانت حركة التحرر من الاستعمار في أوجها. ومن المؤكد أن معرفتي باللغتين العربية والإنجليزية كان من شأنها أيضاً تفسير هذا الاختيار العجيب، لكن ذلك بالطبع ما كان ليفي وحده لفتح أبواب معظم دول المنطقة من أمامي. ولعل تحقيقاتي في إسرائيل وإيران وتركيا، هي التي أوحت بقدرتي على دكِّ جدران «الحصن العربي». لكن من جانبي، لم أكن منخدعاً بالمرة، نظراً للعداء الشديد الذي كانت إسرائيل تثيره في المنطقة، حتى أنني كنت أنوي التخلي عن منصبي كي أتخصص بمنطقة أخرى من العالم، لا تكون لأصولي فيها أية عواقب.
ثم كان أن لاح شعاع من الأمل بعد ثلاثة أعوام، حين طلب مقابلتي صحافيٌ مصريٌ قادمٌ في زيارة عابرة لباريس. كنتُ قد سمعتُ عن لطفي الخولي، ذلك المحرر الموهوب بصحيفة «الأهرام»، والكاتب والمسرحي اليساري. وأثناء الغداء الذي دعوته إليه، قدم لي ضيفي عرضاً كان من شأنه إحداث تحول عظيم الأثر في حياتي المهنية. فقد صرح لي بأنه مكلف من قِبل محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «الأهرام»، وصديق الرئيس جمال عبد الناصر وكاتم أسراره، بتسليمي دعوة للذهاب إلى مصر. مؤكداً لي أن كافة التسهيلات ستكون رهن تصرفي لكي أجري تحقيقاً صحفياً، وأنني سأكون حراً في تحركاتي وفي الاتصالات التي أرغب في إجرائها، بما في ذلك اتصالاتي بأعضاء المعارضة، وأنني سأكون حراً كذلك في نشر كتاباتي بلا رقيب أو حسيب، وأنني سأُمنح على الفور تأشيرة دخول بمدة الإقامة التي تطيب لي. وكانت تلك كلها مزايا لا تجود بها مصر الناصرية افتراضياً أبداً على أي صحفي أجنبي كائناً من كان. وعندما اطَّلعتْ إدارةُ صحيفة «لوموند» على العرض، سمحت لي بقبول الدعوة بشرط واحد: هو أن تكون كافة تكاليف السفر والإقامة على نفقة صحيفتنا لا على نفقة الصحيفة المصرية.
وقد مرت عقود عدة قبل أن أتمكن من كشف الغموض الذي أحاط بتلك الدعوة الغريبة التي وجهها إليَّ رئيس تحرير «الأهرام». فبسؤال المقربين من عبد الناصر بعد رحيله، لاسيما سامي شرف، مدير مكتبه، اكتشفت أن حسابات سياسية محنكة كانت وراء قرار فتح أبواب مصر أمام المبعوث الخاص لصحيفة «لوموند». فبحصول الجزائر على الاستقلال في العام السابق، استأنفت مصر وفرنسا العلاقات الديبلوماسية في ما بينهما؛ وكان عبد الناصر يأمل في إنهاء سنوات الشقاق والمواجهات، والبدء في علاقات مبنية على الثقة مع حكومة الجنرال ديغول، الذي أولاه عبد الناصر إعجاباً كبيراً، تبين أنه إعجاب متبادل، لاسيما وأن الرئيس المصري كان يرى محقاً أن باريس تمثل بالنسبة للدول المستقلة حديثاً طريقاً ثالثاً يسمح بالإفلات من دائرة المنطق الثنائي السوفياتي الأميركي. هكذا، بدا لازماً تبديدُ كل أسباب العداء الراهن بين البلدين، بمخاطبة وسائل الإعلام الفرنسية، وذلك ضمن تدابير أخرى. وكانت صحيفة «لوموند»، التي كانت تعد آنذاك ديغولية التوجه وموالية للعالم الثالث، والتي كان تأثيرها يتخطى بقوة الحدود الوطنية، خليقةً وحدها دون غيرها بالإسهام في التقريب بين البلدين.
وقد رأى مستشارو عبد الناصر، وبخاصة رئيس تحرير «الأهرام»، بإيعاز من لطفي الخولي بلا ريب، إن خطوة أولى في ذلك الاتجاه تقضي بإقامة علاقة مع الشخص الذي يدير قسم الشرق الأوسط بصحيفة «لوموند». ولم يكن ذلك الرهان خلواً من الحكمة تماماً. إذ كنت أُعَد في الأوساط السياسية بمثابة «تقدمي» قابل للتأثر ببعضٍ من إنجازات النظام الناصري.
وكان توجه مقالاتي قد استرعى انتباه المسؤولين المصريين. ففي أثناء الأزمة البلجيكية الكونغولية العام 1960، كنت قد التزمتُ موقفاً واضحاً إزاء المواجهة بين بروكسل وليوبولدفيل (الاسم القديم لعاصمة الكونغو زائير)، وذلك لصالح الحركة الاستقلالية وزعيمها باتريس لومومبا، الذي كان ضحية مؤامرة دولية موسعة (لم تكن الولايات المتحدة الأميركية بمعزل عنها)، وهي المؤامرة التي أدت إلى قتله وإلى إحلال موبوتو محله. وقد كنتُ أنا واحداً من قلائل في الصحافة الفرنسية ممن كشفوا خبايا انفصال إقليم كاتانغا الذي قاده عن بعد «اتحاد المناجم»، تلك الشركة البلجيكية القابضة التي كانت تملك حق استغلال مناجم النحاس الغنية. وعلى غرار كل كبريات المؤسسات في الحقبة الاستعمارية، كانت تلك الشركة تخشى أن يضر الاستقلال بامتيازاتها الطائلة.
وبعد عامين، في 1962، دافعتُ في سلسلة من المقالات عن الجمهورية اليمنية بعد الإطاحة بالملكية. كما لفتتْ انتقاداتي المستمرة لديكتاتورية شاه إيران (الذي كان الغرب يعده بمثابة «إصلاحي كبير»)، ولانتهاكاته لحقوق الإنسان، ولخضوعه لإرادة الولايات المتحدة، انتباهَ الأوساط السياسية المصرية التي كانت تشاطرني آرائي السياسية إجمالاً.
ولقد كانت مواقفي المتعاطفة نسبياً مع مصر الناصرية تتباين مع العداء الصريح الذي كانت تظهره كافة الصحف تقريباً إزاء «ديكتاتور» القاهرة؛ ولم تكن صحيفتي آخر من هاجم الرئيس المصري، أو شبهه بهتلر أو بستالين؛ أو اتهمه تباعاً أو في الوقت نفسه بأنه فاشي وشيوعي، بل وعميل للكرملين. ومن جانبي، ما كنتُ بالغرِّ الذي تخدعه النعوت المألوف إطلاقها في الغرب بهدف شيطنة قادة العالم الثالث ممن كانوا يتحدّون النظام القائم. إذ لم يكتفِ قائد الثورة المصرية بالإطاحة بالملكية، وبتجريد كبار الملاك العقاريين من ممتلكاتهم، وبتفكيك دوائر النفوذ الصناعية والمالية الأهلية منها، والبريطانية والفرنسية وغيرها، وبتأميم شركة قناة السويس، رمز سيطرة القبضة الأجنبية على وادي النيل، بل إنه قد أقام أيضاً علاقات ودية مع الاتحاد السوفياتي وأتباعه من الدول كي يعادل وزن التأثير الغربي، وبخاصة الأميركي.
ومن جانبها، كانت فرنسا الجمهورية الرابعة تعتب عليه خاصةً دعمه لانتفاضة الشعب الجزائري، ناسبةً إليه عملياً تبني الحركة القومية. وكما تقتضي أصول اللعبة في مثل تلك الحالات، اصطبغت الحملة الموجهة ضد عبد الناصر بصبغة أخلاقية واضحة من أجل التستر بصورة مثلى على المصالح التي لا تود القوى الكبرى الإفصاح عنها.
وكنت أرى أنه من المشروع تماماً أن يساند عبد الناصر الثورة الجزائرية، وأن يرغب في تشييد السد العالي بأسوان بهدف توسيع نطاق الري وترشيده في بلد صحراوي في معظمه، وزيادة سعته من الطاقة ومن ثَم، رفع قدرته الصناعية. وكنت أعتقد أن قرار واشنطن العام 1956 بحرمان ذلك المشروع من مساعدتها المالية والتقنية إنما هو قرار دنيء، إذ هي طريقة لـ«معاقبة» عبد الناصر لإبرامه صفقة أسلحة مع موسكو، رغم كونها صفقة يبررها رفض الولايات المتحدة إمداده بأسباب دفاعه عن بلاده.
ولم يكن من العسير بمكان مشاطرة المصريين ومجمل شعوب العالم الثالث حماستهم إبان تأميم شركة قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو (تموز) 1956، فيما يمثل بادرة عظيمة الجسارة بالنسبة لتلك الفترة، وفعلاً ثورياً هو الثاني من نوعه في تلك المنطقة بعد عملية التأميم المجهضة للبترول الإيراني التي قام بها محمد مصدق، ذلك القومي المعتدل، قبل ذلك بأربعة أعوام. ولقد كان ثمن التحدي الذي رفعه هذا الأخير هو التعرض للإهانة وللتشهير بوصفه، بين تهم أخرى، عميلاً لموسكو قبل أن تتم الإطاحة به في 1953، عبر انقلاب دبرت له وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (C.I.A). وفي الحالتين، مع ذلك، تمت استعادة ملكية الموارد الوطنية وفقاً لاستحقاقات السيادة وبصورة لا تخرق مصالح المساهمين، الذين تم إبطال ملكيتهم بصورة قانونية وتم تعويضهم بنزاهة.

الانتقام الغربي من مصر
ولقد بدا لي رد الفعل الانتقامي الموجه ضد عبد الناصر، مقارنةً بذلك الذي استهدف محمد مصدق، أشد قسوة ومماثلاً في افتقاره للمبررات. إذ لم تكد تنقضي ثلاثةُ أشهر على تأميم شركة قناة السويس حتى تدفقت الدبابات الإسرائيلية داخل سيناء بينما رست القوات الفرنسية والبريطانية في بورسعيد، مدعيةً الرغبة في الفصل بين المتحاربين. وفي الواقع، كان الهدف المشترك للحلفاء الثلاثة هو القضاء على جمهورية ناصر، فضلاً عن طموح الدولة العبرية الرامي إلى التمتع بحرية الملاحة في قناة السويس، بل وإلى الاستيلاء على سيناء على وجه الخصوص. وقد بدا نصر الغزاة حتمياً رغم المقاومة المصرية العنفيـَّة، إلى أن فرض الرئيس أيزنهاور التهدئة، وأوجب انسحاب جميع القوات الأجنبية وتحقق له ذلك. صحيح أن رئيس الدولة السوفياتية، المارشال بولغانين، قد هدد من جانبه بالتدخل عسكرياً، وهي بادرة ترمز بلاريب إلى مساندة موسكو للدول النامية.
هذا ولم تكن مبادرة الرئيس الأميركي الفريدة تلك، مترفعة هي الأخرى عن كل غرض. إذ كان قد أقلقه تواطؤ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، من وراء ظهره، من أجل تحقيق هدف جليّ هو وضع مصر تحت وصايتهم. وكان أيزنهاور قد أحسن النظر، فقد رفعت وساطته من شعبية الولايات المتحدة، وتأثيرها في مصر وفي مجمل الشرق الأوسط، إلى أعلى مستوياتها، بينما آذن فشل «العدوان الثلاثي» بنهاية الوجود الفرنسي والبريطاني في مصر، وسجل بداية انحسار تأثير هاتين القوتين في المنطقة. ولم تكن تخطئة إسرائيل بأقل حجماً: إذ اعتُبرت الدولة اليهودية أكثر من أي وقت مضى دولة توسعية ترتهن بخدمة الإمبريالية الغربية.
وعلى الرغم من ذلك كله، عدتُ إلى مصر محملاً بتحفظات شديدة على النظام الناصري. صحيحٌ أن الإطاحة بالملكية، وما استتبع ذلك من إصلاحات اقتصادية واجتماعية، واستعادة للسيادة الوطنية بعد اندحار جيش الاحتلال البريطاني نهائياً، كان يوافق معتقداتي في شبابي؛ لكنَّ الطابع العسكري للنظام الذي أرسته الزمرة التي استولت على الحكم في الثالث والعشرين من يوليو (تموز) 1952، بقي في ناظريَّ أشبه ببقعة لا تُمحى. وفي النزاع الدائر بعد ذلك بعامين بين عبد الناصر واللواء محمد نجيب، زعيم الثورة إسماً ورمزاً، كنتُ أرجح كفة هذا الأخير، الذي كان يرغب في تقنين كافة الأحزاب السياسية، من «الإخوان المسلمين» وحتى الشيوعيين، وإعادة الحياة البرلمانية إلى نصابها.
والمفارقة هي أنني لم أكن مجافياً تماماً للحجة التي تعلل بها خصوم اللواء نجيب، والقائلة بأن مثيلة تلك الدمقرطة ستؤدي حتماً إلى إعادة إقرار نفوذ ممثلي رأس المال الكبير الذين كانوا محتفظين بعد بأسباب السيطرة على الساحة السياسية. مع ذلك كان نظام الحزب الواحد سارياً في معظم الدول التي حصلت على استقلالها منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت كل المؤشرات تفيد بأن ذلك هو الثمن الواجب دفعه في سبيل ضمان تقدم ورفاهية الشعوب النامية.
وإذ تنازعتني هاتان الفكرتان المتناقضتان فيما بينهما، حسبتُ أنِّي قد بلغتُ القسط إذ رأيت أنه سواء هو حزبٌ واحدٌ أو عدة أحزاب، لاشيء يبرر مصادرة الحريات العامة، وخرق ما يُسمى في أيامنا هذه بحقوق الفرد. إذ بدا لي القمعُ الوحشيُّ المنصبُّ في مصر فوق رؤوس كافة المعارضين، من لبراليين وفديين، أو شيوعيين، أو إخوان مسلمين، فوق حدّ الاحتمال. لا سيما وأن ممارسات العنف بكافة صورها لم تكن استثنائية داخل المعتقلات.
هكذا، نقلت صحيفة «لوموند» في مطلع الستينيات، أن اثنين من مفكري الصف الأول ممن كنتُ قد عرفتهم شخصياً في القاهرة في سنوات شبابي، قد قتلا تحت التعذيب، وقد كان الرجلان محط تقديري: أحدهما هو فريد حداد، الملقب بـ«طبيب الفقراء»، الذي كان زميلي في المدرسة الثانوية، أما الآخر فهو شهدي عطية الشافعي الذي عرفته حين كان رئيساً لتحرير صحيفة «الجماهير» الأسبوعية. كان شهدي أستاذاً للغة الإنكليزية، وكان يملك من الكاريزما والذكاء ما كان يأسر به الألباب، وقد لعب دوراً عظيم الأهمية في الحركة الشيوعية. وتكمن السخرية المريرة في أنهما قد تعرضا للضرب المفضي إلى الموت على أيدي جلاديهما بينما لم يكن أي منهما مناهضاً فعلياً لعبد لناصر.
وقد طافت ذكراهما بخاطري حين استقبلني محمد حسنين هيكل في اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة في يونيو (حزيران) 1963. وفي أثناء العشاء الذي أقامه على شرفي بسميراميس، ذلك الفندق الكبير الكائن على ضفاف النيل، حرصت من فوري على تبديد أي التباس قد يشوب علاقتنا الوليدة. فشكرته على الدعوة التي وجهها إليَّ، وحمدت له منحي فرصة العودة إلى مسقط رأسي في ظروف تختلف تماماً عن تلك التي ألقت بي إلى المنفى. كما كنتُ ممتناً له أيضاً لحصوله على موافقة مبدئية من الرئيس عبد الناصر كي يخص صحيفة «لوموند» بحوار، وهي مكرُمة لا يجود بها الريّس إلا فيما ندر.
وإذ أخذتُ أطلعه عَرَضاً على الأخلاقيات المهنية التي أستند إليها وألتزم بها التزاماً دقيقاً، ألمحتُ له بوضوح إلى أنني وإن كنتُ صديقاً فلن أكون أبداً صديقاً غير مشروط، وأنني سأنشر لدى عودتي إلى باريس سلسلة من المقالات التي قد لا تلقى استحسانه على الأرجح وإن كانت ستعكس بأمانة آرائي الخاصة، التي تختلف بالطبع عن آرائه أو عن آراء أولي الأمر في مصر.
وقد استقبل هيكل الرسالة، وهو الرجل فائق الذكاء، بإيماءة تنم عن الدهشة، أتبعها، في ما بدا لي، برضا لم يكَد يخفيه. وفي ما بعد، أخبرني لطفي الخولي، الذي كان شاهداً على اللقاء، أن رئيس تحرير الأهرام يفضل كل التفضيل التعامل مع رجل صاحب رأي، شأنه هو ذاته، حتى وإن تباينت آراؤنا. فقد رأى أن الانتقادات الصادقة الصادرة عن مراقب موثوق قد تخدم النظام الناصري خيراً من المدائح المبذولة من قِبل صحفي متزلِّف. ونظراً لكون هيكل نفسه صحفياً واعياً، وواسع الاطلاع على أحوال الصحافة الغربية، كان من المستبعد أن يصدمه تمسكي بموقفي.
هكذا، ذكرتُ له بلا تحفظ مسألة المسائل المحرمة، تلك المتعلقة باضطهاد سجناء الرأي، فأشرت إلى اعتزامي طرحها على الرئيس في أثناء الحوار الذي سيخصني به. وإذ كنتُ واثقاً أن هيكل لن يغفل عن إخطار عبد الناصر بذلك، فقد أضفت قائلاً إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية في سياسة الحكومة المصرية عن أعين الرأي العام العالمي، وبالتحديد الرأي العام الفرنسي في ما يخص صحيفتي. ولم يفلت هذا التحذير الضمني من هيكل الذي اكتفى على سبيل الرد برسم ابتسامة غامضة على شفتيه. وقد علمتُ بعد ذلك بأعوام عديدة، أن هيكل كان يشاطرني رأيي سراً…
حياة متواضعة
لقد كان من شأن مقابلتي مع عبد الناصر بعد ذلك بأيام، أن تكون فاصلةً على عدة أصعدة. فقد أُخِذتُ بدايةً بما كان منه من تبسط وترحاب لدى استقباله لي. كان يرتدي بنطالاً من الكتان وقميصاً قطنياً خفيفاً مفتوح الياقة، وهو يستقبلنا أنا وروزي زوجتي، في بيته المتواضع نسبياً، الذي كان يقطنه في ضاحية منشية البكري القاهرية حين كان بعد ضابطاً صغيراً، وهي الدار التي كان يفضلها على القصور الموضوعة تحت تصرفه. كانت غرفة الاستقبال التي تم بها اللقاء مؤثثةً وفقاً للذوق العام للبرجوازية المتوسطة، بأرائك ومقاعد مقلدة تبعاً لطراز لويس الخامس عشر، لكنها لم تكن لتعكس أبداً مكانة رئيس جمهورية. وازدانت الجدران المطلية باللون الرمادي المخضرّ بصور تحمل إهداءات من زعماء حركة العالم الثالث: تيتو ونهرو وشوين لاي ونكروما وسوكارنو.
ولم تكن الغرفة مكيفة، بل كان ثمة مروحة تلطف من حرارة حزيران القاهري في ذلك اليوم. واستمر حوارنا – الذي دار بالإنكليزية تارةً وبالعربية المصرية الدارجة أطواراً أخرى – ما يربو على الساعتين، في حضور هيكل، الذي لم يتدخل في أي لحظة في الحوار، كما تقتضي قواعد احترام الرئيس.
بدا مضيفنا طويل القامة، قوي البنية كأنه ملاكم، مع تقوس طفيف في الظهر، ونظرة عين ثاقبة لكنها طيبة. وقد فاتحنا بالحديث أولاً، لاشك بنيّة بث الراحة في نفوسنا. وسرعان ما ذاب الجليد بيننا: فها هو يشكو لنا معاناته من الوحدة منذ استقرت أسرته المكونة من زوجته وأولاده في الأسكندرية لقضاء العطلة الصيفية. فبدت له داره، التي لم نلمح بها أي معاونين أو خدم، (باستثناء الخادم الذي قدم لنا عصير الليمون والقهوة التركية)، موحشةً للغاية. لكن لحسن الحظ – كما أردف – أنه يعمل كثيراً في المكتب الذي هيأه لنفسه في شقته، الأمر الذي يروق له كثيراً؛ وهو أيضاً يجتهد رغم كل شواغله في ممارسة رياضتيْه المفضلتيْن، السباحة والتنس. فهل من هواية تشغل الرئيس؟ لن يتمادى عبد الناصر في البوح بما يعرفه عنه خلطاؤه من ميل لأفلام رعاة البقر الأميركية وشغف بلعبة الشطرنج، التي يمارسها قدر المستطاع مع المشير عبد الحكيم عامر، أقرب أصدقائه إلى نفسه من بين مجموعة الضباط الأحرار الذين استولوا على الحكم في يوليو (تموز) 1952. سيعزله عبد الناصر في ما بعد، في الظروف التي سأذكرها في الفصل الثاني عشر. سيعزله راغماً متألماً على أثر الهزيمة العسكرية في 1967، والتي أُلقِي بتبعتها على عامر الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لأركان الحرب.
ولقد أظهر عبد الناصر فضولاً لا حد له وقدرةً على الإصغاء خارقة للعادة. وقبل أن أتمكن من طرح السؤال الأول في أسئلة الحوار الذي كنتُ أعدُّ لنشره في صحيفة «لوموند»، كان هو قد سألني باستفاضة عن حياتي المهنية، وعن نظام عمل وسائل الإعلام الفرنسية، وعن الحريات التي تتمتع بها، بل إنه قد فاجأني بسؤالي عن حياتي الشخصية. كم من الأطفال رُزقنا؟ وكيف هو مسكننا؟ وبأية وسيلة تأتى لي شراء الشقة التي نقطنها في قلب مدينة باريس بالتقسيط؟ وما هي الفوائد التي يتضمنها القرض المصرفي؟ وبأية نسبة يتسبب سداد الأقساط في إرهاق ميزانيتنا؟ وقد حملته أمارات الدهشة البادية على وجهي على الاعتذار عن تطفله، مفسراً مسلكه برغبته في معرفة إن كان بإمكانه تزويد المصريين بمساكن منخفضة الكلفة بحيث يتسنى لهم امتلاكها؛ فهو يتساءل ليعرف إن كان مثيل ذلك المشروع ليس طوباوياً في بلد نامٍ لا يكاد يفي دخل الغالبية العظمى للمواطنين فيه بالكفاف من أسباب العيش.
وكما لو كان مكتبه لم يزوده بكافة المعلومات المتعلقة بشخصي، راح يسألني مجدداً عن أصولي، وعن حياتي في مصر في سنوات شبابي، لكنه حرص على تفادي الخوض في الأسباب التي دفعت بي إلى المنفى. هكذا تبين أننا «جيران» نظراً لكون حي مصر الجديدة الذي ولدتُ فيه يقع على مقربة من بيته في منشية البكري حيث جرى بيننا اللقاء. وكان من الواضح أنه قد انطلق في عملية استمالة لا يعلم سر صنعتها سوى خبراء الاتصال.
وبدا لي الجوُّ العام مناسباً لطرح السؤال الأكثر حساسية بين أسئلتي، والمتعلق بالمعتقلات. وكان هو يتوقعه، على حد ما بدا من سرعةٍ في إيراده الرد. إذ صرح بهدوء قائلاً: «قررتُ الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام». وسيحتل هذا النبأ، الذي لم يكن متوقعاً بالمرة، عناوين الصحافة العالمية، وصحيفة «لوموند» بطبيعة الحال. كما بثت الخبرَ جميعُ الإذاعات، باستثناء الإذاعة المصرية على نحو أثار الاستغراب. ولم يحل ذلك دون وصول الخبر إلى مئات المساجين، بفضل المحطات الأجنبية التي كانوا يستمعون إليها بانتظام. هكذا، ضجت المعتقلات بالفرحة، وعمَّ الابتهاج الصاخب احتفاءً بالحدث. وهبت رياح التفاؤل على المجتمع المدني، المنتمي معظمه إلى اليسار. أما النتيجة العجيبة المترتبة على ذلك، فهي أنني صرت بالنسبة للمعتقلين السياسيين «البطل» الذي أفلح في انتزاع الوعد من الرئيس. وكانت الهوة الفاصلة بين الرئيس المصري وبين الشيوعيين تبدو مستحيلة العبور، على الأقل في تلك الفترة. وكان غالبيتهم قد أدانوا أساساً الانقلاب الناصري في يوليو 1952، ثم أدانوا بعد ذلك بقليل تصفية عاملين شيوعيين حوكما صورياً ونُفذ فيهما حكم الاعدام. بعد ذلك بعامين، اصطف الشيوعيون بجانب اللواء محمد نجيب مطالبين بعودة الجيش إلى ثكناته. فتم اعتقال العديد منهم، أما خالد محيي الدين، وهو أحد الضباط من ذوي الميول الشيوعية داخل مجلس قيادة الثورة، ومن المقربين من عبد الناصر، فقد تم إبعاده إلى سويسرا. وقد انفجرت موجة عاتية وغير مسبوقة من الاعتقالات في عام 1958، حين عبَّر الماركسيون عن اختلافهم مع سياسة عبد الناصر المنادية بالوحدة العربية. إذ عابوا عليه فرضه وحدة مصطنعة، تقوم على سيادة حزب أوحد.
وقد قامت الوحدة السورية المصرية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في فبراير (شباط) 1958، بناءً على إلحاح قادة دمشق، ووفقاً للشروط التي أملاها الرئيس عبد الناصر: فتم حل جميع التنظيمات السياسية لصالح الحزب الواحد، وتم نقل النظامين السياسي والاقتصادي الساريين في وادي النيل حرفياً إلى سوريا، بغض النظر عن بنياتها، وعاداتها، والظروف المحلية الراهنة. وعلى الرغم من كل شيء، أثار اندماج البلدين في البداية حماسةً عارمة بين السوريين والمصريين، كما أشاع البهجة في مجمل العالم العربي. ورحبت وسائل الإعلام ببزوغ فجر جديد لـ«أمة» ستمتد حدودها من الخليج الفارسي حتى المحيط الأطلسي. وأُخطِر الإمبرياليون وعملاؤهم، والملاك المستغلون، والملكيات الرجعية، أن ذلك ليس إلا البداية لعملية حتمية لا مفر منها.
وأدت الإطاحةُ بالملكية العراقية في يوليو (تموز) 1958، ووصول جماعة حاكمة شديدة الشبه بتلك الماثلة في القاهرة، وتصريحاتها الأولى ذات الطابع الثوري والقومي والاشتراكي، إلى إثارة آمال عريضة عبر المنطقة. كان ثمة اعتقاد أن زمان الناصرية المنتصرة آخذ في التقدم باتجاه ذروة جديدة. وفي بلدان أخرى، مثل لبنان، حيث اتجه أنصار الوحدة العربية – وهم كثر – إلى الهجوم، كان ثمة استعداد واضح للّحاق بقافلة هذه الوحدة العربية المظفرة.

ناصر يطوي صفحة الوحدة
رغم ذلك، وعلى عكس كل التوقعات، لعب الماركسيون دوراً عكّر ذلك الصفو. فعلى امتداد العالم العربي، لاسيما في العراق، عارض الشيوعيون قيام وحدة محتملة بين القاهرة والعراق. إذ مثَّلت تلك الوحدة في نظرهم ارتداداً إلى الوراء، نظراً لكون الحركة الثورية في بلاد الرافدين أكثر راديكالية من نظيرتها في وادي النيل. فعلى نقيض عبد الناصر، استند نظيره العراقي، العميد عبد الكريم قاسم، إلى مجمع حكماء مؤلَّف من القوى السياسية التي كونتْ قاعدةَ نظامِه. وفي المرتبة الأولى، كان الشيوعيون العراقيون عازمين على مقاومة تأسيس حزب أوحد في وقت كانوا يحتلون فيه الصدارة، إذ كانوا يتمتعون بنفوذ كبير بين الشيعة، كبرى الطوائف في العراق، وكذلك بين الأكراد (الذين شكَّلوا قرابة ربع عدد السكان)، وكانت كلا الطائفتين تحاذر حالة الاتحاد التي من شأنها محو خصوصية هويتها ودمجها داخل كيان عربي سني. وفي المجمل، لم تكن الغالبية العظمى للعراقيين، شأنها شأن حكومة العميد قاسم، راغبةً في الذوبان داخل الجمهورية العربية المتحدة.
ولم تلبث الخلافات الناشبة بين القاهرة وبغداد، التي بدأت خافتة، أن اكتسبت مظاهر المواجهة السافرة. واعتُبر الشيوعيون المصريون، الذين اصطفّوا وراء رفاقهم العراقيين، بمثابة خونة لبلادهم وللأمة العربية. وانهالت موجة الاعتقالات لا عليهم فحسب، وإنما أيضاً على العديد من المفكرين اللبراليين أو اليساريين ممن كانوا يستنكرون البونابارتية الناصرية.
لذلك، بدا لي إعلان الافراج عن السجناء السياسيين، بعد ذلك بخمسة أعوام، وبلا إبداء أي أسباب، محيراً للغاية. فلماذا اتُخذ هذا القرار، ولماذا جاء الإعلان عنه لصحفي أجنبي زائر؟ لقد بدا جليّاً أن عبد الناصر كان راغباً أساساً في مخاطبة الرأي العام الغربي الذي لم تكن أكثريته تأنس إليه بالمرة. وكان عليه تدعيم نظامه المتزعزع إثر انهيار الوحدة السورية المصرية قبل عامين.
وقد تضررت حُظوته في العالم العربي وحتى في مصر. فبعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم في 1963، تعامل خلفاؤه في حزب البعث كمنافسين للناصريين. حتى بات الرئيس المصري يحاذر منهم إلى درجة الوسواس، معتبراً أن ذلك التنظيم قد خانه بتسببه في انهيار الجمهورية العربية المتحدة. وحين أعيدُ النظر في الماضي، أدركُ أن إغلاق المعتقلات ما كان يستأهل كل تلك الدهشة. فعلى الرغم من طبيعته المستلفتة للأنظار، لم يكن ذلك سوى إجراء بين إجراءات أخرى تنمُّ عن رغبة عبد الناصر في طي الصفحة. فلقد كانت تلك خطوة منطقية في تسلسل الإصلاحات المستحدثة لتجديد وتقوية النظام. وفيما اعتُبر بمثابة نقد ذاتي، بدأ عبد الناصر بالعدول عن الوحدة العربية التقليــدية إذ أعطــاها محتــوى يجعل منها مذهباً متهافتاً. فمثلما شرح لي أثناء لقائــنا، لا يمكن تحقــيق الوحدة إلا بين الشعوب ذات «الأهداف المشتركة»، كالاشتــراكية والتصدي للإمبريالية. وبعبارة أخرى، لم تعد المشترَكات الثقافية واللغوية والدينية كافية لتحقيق الوحدة. إذ حلت وحدة الشعوب محل وحدة الأوطان : فإن كان لذلك أن يتحقق، كما أشار عبد الناصر، فإن كونفدرالية مزودة بمجلسين، أحدهما منتخب وفقاً للتمثيل النسبي، والآخر يمثل الدول الأعضاء بالتساوي، قد تفي بالمصالح النوعية للشعوب المعنية. وكان من الواضح أن السوق المشتركة، كما تصورها الجنرال ديغول، كانت تمثل نموذجاً بالنسبة له.
وإذ كان الرئيس عبد الناصر غيرَ راضٍ عن صياغة مذهب عصي على التنفيذ، على الأقل في المستقبل المنظور، فقد قاوم الضغوط التي مورست عليه لإبرام الوحدة بين مصر واليمن، التي اجتاحها للدفاع عن الجمهورية التي قامت في نهاية العام 1962، ضد القبائل المأجورة من قِبل الملك المخلوع والمملكة العربية السعودية. وبالمثل، لم يرحب عبد الناصر بفكرة الوحدة بين مصر والجزائر. كما أدان شوفيــنية قادة بغداد الجدد، الذين رفضوا الاعتراف بشرعية التطلعات الكردية (مسلمين من غير العرب) المطالِبة بالحكم الذاتي داخل الدولة العراقية. وبعد ذلك بأعوام، لن يلبي عبد الناصر الطلب الملحاح الذي رفعه العقيد معمر القذافي، حاكم ليبيا المندفع، لإعلان الاتحاد بين البلدين.
كان من الواضح أن الريّس عبد الناصر يسعى لتهيئة ساحةٍ خلفية صديقة لبلاده، تقبل استيعاب فائض السكان المصريين ومنتجاتهم الزائدة عن الحاجة. كما كان يهدف إلى ممارسة ضغوط على الدول العربية النفطية، المصنفة كـ«ملكيات رجعية»، لإجبارها على تخصيص جزء من دخلها لتنمية «الشعوب الشقيقة» المفتقرة إلى الموارد الطبيعية، وعلى رأسها مصر بطبيعة الحال. أما السطوة السياسية التي يزمع ممارستها على الجماهير العربية، فهو يسعى من خلالها إلى إحداث تضامن كامل يرمي أساساً إلى تقوية الدور الذي تلعبه مصر على الساحة الدولية.
لاجئون ضيوف وحلفاء محتملون
وقد كان تجسُّد تلك السياسة ظاهراً في مقهى «نايت آند داي» (Night and Day)، بفندق سميراميس المطل على شاطئ النيل. ونظراً لبقائه مفتوحاً طوال اليوم كما يشير اسمه، فقد كان يُعد ملتقى اللاجئين السياسيين العرب، ممن كانوا من قبل أو سيصبحون من بعد في فئة الحكام، حيث كانوا يخالطون المفكرين المصريين من كافة الاتجاهات بلا تمييز. كان جميع هؤلاء المنفيين تقريباً «ناصريين»، إذ كان تقديرُهم أن الوحدةَ العربية، أياً كان شكلها ومحتواها، خليقةٌ بتحقيق تطلعات كل منهم على حدة.
كانوا جميعاً مدينين للريّس، الذي منحهم اللجوء السياسي، وكثيراً ما أمدهم بأسباب تلبية احتياجاتهم. ومن جانبه، كان عبد الناصر يضمن بذلك لنفسه حلفاءَ محتملين في الوطن العربي.
وكنتُ أنا أرتاد تلك اللقاءات يومياً تقريباً، وأشارك في النقاشات المتصلة حتى ساعات الليل المتأخرة. كان الصحافي يجد فيها مبتغاه. فبحسبه أن ينصتَ إلى الحاضرين وهم يتنادون في ما بينهم إذ هم جالسون إلى طاولاتهم المتجاورة، ليتعرفَ على الوضع في مختلف بلدان المنطقة. بل إنني كثيراً ما كنتُ ألتقط من تلك الأحاديث معلوماتٍ مستجدة تتناقلها حركاتٌ معارضة، وينشرها ممثلوها في القاهرة.
كان فؤاد الركابي أحد المنشقين عن حزب البعث، الذي كان من بين مؤسسيه، قبل أن يترأس الحزب الناصري بالعراق، كما كان في السابق أحد وزراء العميد قاسم، وكان يحدثنا عن الفظائع المرتكبة في بغداد بعد انقلاب 1963.
كان شاباً (يناهز الثانية والثلاثين) مفعماً بالحماسة والتفاؤل، لا يساوره شك في المستقبل المشرق الذي ينتظر بلاده. وقد حرص عبد الناصر على إحاطته بمودته بقبوله أن يكون شاهداً على عقد زواجه. وحين عاد إلى العراق، كان مصيره القتل في السجن على أيدي جلادي صدام حسين.
أما سعيد العطار، ذو الثلاثين ربيعاً، الذي كنتُ قد تعرفتُ عليه في باريس حيث كان طالباً، فكان يدافع بشغف عن قضية الجمهورية اليمنية، المؤسسة في العام السابق. بفضله، كنتُ أحد أوائل الغربيين الداخلين بصحبته إلى الإمامة ولم يكن قد مر أسبوعٌ واحدٌ على الإطاحة بالملكية. وسعيد، الذي ينحدر أصله من جيبوتي، وكان يحمل شهادة في الاقتصاد من الجامعة الفرنسية، كُتب له أن يتقلد مناصب عليا، لاسيما حقائب وزارية، في اليمن. وقد استمرت صداقتنا لعقود طويلة.
وأما عبد الله الريماوي، الذي كان أستاذاً للرياضيات والفيزياء، ونائباً سابقاً في البرلمان الأردني، فهو يمثل الفلسطيني النموذجي بالنسبة لتلك الحقبة، إذ كان يرى أن الوحدة العربية يجب أن تكون سابقةً ومقدمة على تحرير فلسطين، لا لاحقة له أو مؤخرة عليه. كان يعلن نفسه ناصرياً لكنه كان معادياً لفكرة الحزب الأوحد؛ كما كان رافضاً لفرضية الريّس عبد الناصر الذاهبة إلى إمكانية حل المشكلة الفلسطينية سلمياً إذا ما طبقت إسرائيل قرارات الأمم المتحدة، واعتاد أن يردد أن الدولة العبرية يجب أن تختفي بوصفها كيانا استعمارياً.
أما اللواء الركن علي أبو نوَّار، الهارب من الأردن على أثر مؤامرة حاكها ضد الملك حسين، فكان رجلاً شحيح الكلام، يبدو كقومي عربي جفول متشكك، يعادي الإنكليز، ويرتاب في مواطنيه المنحدرين من أصل فلسطيني. كان يشذُّ عن جميع محدثيِّ في مقهى «نايت آند داي»، بشخصيته وبآرائه وبمظهره. كان به تصلب كسمت العسكريين، مرتدياً طوال الوقت حلة جيدة الصنع ذات لون رمادي لؤلؤي، أما ربطة عنقه وأزرار معصميه فكانت دائماً سوداء اللون. كان يبدي العداء والاحتقار واللامبالاة إزاء أعضاء مجموعتنا، باستثناء سلطان «لحج»، الحاكم المعزول لأحد الأقاليم اليمنية، الذي كان يتواصل معه. وأحياناً كان يتجادل مع المفكرين الناصريين الجالسين بيننا. وسمعته ذات ليلة يقول للصحافي لطفي الخولي الذي كان يجاهر بماركسيته: «ينبغي ذبح كل الشيوعيين من أمثالك». وإذ كان يستشعر رأيي فيه، بادرني في ليلة أخرى قائلاً: «نعم، أنا فاشي إن كان ذلك يعني الدفاع عن الأمة العربية، ونعم، أنا عنصري حين يتعلق الأمر بالتنديد بادعاء الأكراد الحق في الحكم الذاتي». كان من المستحيل الدخول معه في أبسط حوار. وعلى أثر عفو الملك عنه، عاد في العام التالي إلى عَمّان، حيث شارك في عام 1970 في قمع الفدائيين الفلسطينيين في مواجهتهم للجيش الأردني (فيما عُرف بأيلول الأسود)، ليُعيَّن من ثَمّ سفيراً لبلاده في باريس حيث طلب مساعدتي لتعريفه إلى المجتمع المدني الباريسي.

طالباني وطوبال والأخضر الإبراهيمي
وأما جلال طالباني، الذي كان وقتذاك موظفاً عسكرياً لدى زعيم الانتفاضة الكردية الملا مصطفى البرزاني، فلم يكن يقسم إلا بحياة عبد الناصر الذي، إذ أولاه شرف استقباله، قد أكد له دعمه لكفاح الشعب الكردي من أجل الحصول على الحكم الذاتي. وكان الموقف الذي اتخذه الريس جريئاً في زمان كانت الوحدة العربية تختلط فيه بالشوفينية بمنتهى السهولة. ولقد ربطتني صداقة بجلال الذي عاودتُ لقاءه مراراً في أروقة المقاومة الكردية في العراق، وكذلك في بغداد، وفي بيروت، وفي طهران، وفي أنقرة، وفي باريس… كان لحديثه جاذبية، وفي حسه الفكاهي عوضٌ عن روحه المتهكمة، فكان يغير بمنتهى البساطة من ولاءاته وأعدائه وحلفائه بل وأيديولوجيته (فقد كان ماوياً وغير ذلك)، حتى أنه وصل به الأمر إلى التفاهم مع صدام حسين. كان تكتيكه يتغير تبعاً للظروف، أما استراتيجيته فظلت راسخةً لا تتغير: إذ ظل وفياً إلى تطلعات شعبه. وقد وصل إلى قمة مشواره المهني لحظة انتخابه رئيساً للجمهورية العراقية بعد اسقاط صدام حسين في 2003. وقد كان وفاؤه للتحالف مع الولايات المتحدة، حامية الأكراد قبل وبعد غزوها العراق، وفاءً نموذجياً.
شخصية أخرى لافتة في لقاءات مقهى «نايت آند داي»، هي شخصية الشاعر ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين، نجم صحيفة الأهرام اليومية، الذي كان يشيع البهجة فينا، إذ كان يلقي علينا النكات الساخرة بحذرٍ من رموز النظام. كان قصيراً، سميناً، خفيف الشعر، طفولي الوجه، وكانت له شجاعةٌ تضاهي شجاعةَ آرائه. فلكي يرسم صورة مصاحبة لمقال يشير إلى محدودية الحريات المتاحة في مجال التعليم العالي، نشر جاهين في الأهرام رسماً لعقل مغلق بقفل. ولمَّا كنتُ على علم بشخصيته البعيدة كل البعد عن العنصرية، فلقد ألمحتُ إليه ذات مرة أنه قد يُتهم بمعاداة السامية لنشره رسوماً كاريكاتورية تظهر الاسرائيلي دوماً بأنف معقوف. وإذ تفاجأ لذلك، وهو الذي لا يعلم شيئاً عن أبعاد معاداة اليهودية في الغرب، فقد عدَّل تماماً، اعتباراً من اليوم التالي، من تصويره لملامح المواطن في الدولة العبرية.
وكان ثمة تونسي مثير للاهتمام، هو إبراهيم طوبال، الذي لم يكن ينتمي إلى أي حزب، ولا كانت تربطه علاقات سياسية ببلده الأم، لكنه كان يبشر طوال الوقت بالثورة التي ستطيح بنظام الحبيب بورقيبة، من دون أن ننجح نحن في تحديد إذا كان جاداً في قوله أم لا.
أما زعيم المعارضة المغربية، المهدي بن بركة، فكان ينضم إلينا أحياناً في مقهى «نايت آند داي»، فيصغي باهتمام إلى كل ما يقال، ويحدثنا عن الوضع في بلاده أقل مما يحدثنا عن مشروعه الخاص بمؤتمر «القارات الثلاث» (أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية) الرامي إلى الجمع بين شعوب العالم الثالث في جبهة مضادة للإمبريالية. وهو لم يكن يخفي تعاطفه مع البعثيين رغم علاقاته الطيبة مع منافسيهم الناصريين، كما كان مؤيداً للحكومة في بغداد ضد الاستقلاليين الأكراد. وقد قامت أجهزة الاستخبارات المغربية، بالاشتراك مع بعض من رجال الشرطة الفرنسية، باغتياله في باريس بعد ذلك بعامين.
ومن الأعضاء الدائمين في مجموعتنا كان هناك الأخضر الابراهيمي، ذو الثلاثين ربيعاً آنذاك، إذ كان سفيراً للجزائر في القاهرة. كان الأخضر دبلوماسياً غير نمطي. كان مناضلاً في جبهة التحرير الوطنية قبل الاستقلال، وكان يأتي إلى مقهانا مرتدياً بنطاله الجينـز وقميصاً بلا سترة، منتعلاً صندلاً في قدميه، ليشارك في أحاديثنا بصفته مفكراً ملتزماً. وقد كان رغم ذلك شديد الكتمان، وكان لذلك أسبابه. فقد كان على علاقة وطيدة برجال القيادة المصريين وعلى رأسهم عبد الناصر، الذي كان يكنُّ له مشاعر التقدير والصداقة. وقد كنا ننصت إليه باهتمام بالغ لاسيما وأن ملاحظاته وتحليلاته كانت على درجة عالية من الحصافة.
ولقد تقلد الأخضر، الذي احتفظتُ بأواصر الصداقة معه طوال عقود، مناصب عليا في بلاده، لاسيما منصب وزير الخارجية، قبل أن يعمل كمساعد للأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة. وإذ أرسله هذا الأخير إلى مختلف الدول التي تشكل بؤراً للنزاع، لاسيما أفغانستان والعراق بعد احتلال القوات الأميركية لهما بقيادة جورج بوش، فقد أثبت الإبراهيمي أنه دبلوماسي بالغ الحنكة، وهو بلاشك رجل من أبرز رجال زماننا.
وقد ترتب على تيار الوحدة العربية الجديدة الذي ابتدعه عبد الناصر إسقاطُ أحد العوائق الرئيسية التي كانت تحول دون المصالحة مع اليسار؛ إذ لم يعد هناك ما يستدعي حبس الشيوعيين، الذي كانت قد تسببت فيه تحديداً معارضتُهم للوحدة مع سوريا والعراق. وقد كان لدى الماركسيين من كافة الأطياف أسبابٌ أخرى للتقرُّب إلى زعيم الثورة المصرية، قبل أن يتحولوا بصورة دائمة إلى الناصرية. إذ كانوا قد استحسنوا الإجراءات «التقدمية» التي اتخذها الريّس: مثل مشاركة مصر في مؤتمر باندونغ ثم التحاقها بحركة دول عدم الانحياز، وصفقة التسلح المبرمة مع موسكو، وتأميم شركة قناة السويس، والمعاهدة التي أنهت الاحتلال البريطاني، والاتفاق المبرم مع الاتحاد السوفياتي لتمويل وبناء السد العالي في أسوان، ليتحقق بذلك حلم يمتد عمره لعدة أجيال من المصريين.
وتصاعدت النقاشات بين المعتقلين السياسيين بعد الإعلان عن قرب الإفراج عنهم. فتساءلوا: هل يجدر بهم الانضواء تحت لواء الناصرية بلا قيد أو شرط رغم ما يشوبها من طابع استبدادي؟ أبرز أنصار التحالف أهمية المنعطف المتجه بوضوح إلى اليسار، الذي اتخذه عبد الناصر خلال العام الماضي بإصدار «القوانين الاشتراكية»، وتبني «الميثاق الوطني»، الذي يدخل بالبلاد إلى طريق «الاشتراكية العلمية» بدلاً من «الاشتراكية العربية» التي اعتُبرت منذ ذلك الوقت لاغية. كما أشاروا إلى ما كان من تنديد بـ«الرأسماليين المحتكرين المستغلين»، ومن تأميم لممتلكاتهم بمنتهى القوة. واحتفوا باستحواذ الدولة على شركات التأمين، وجميع المؤسسات المالية، ومن بينها المصرفان الرئيسيان، بنك مصر والبنك الأهلي المصري. وفي المحصلة، ضربت التأميمات نصف الاستثمارات الصناعية والتجارية.
ومن الأمور التي حظت كذلك باستحسان الشيوعيين «الناصريين» التوسع في الإصلاح الزراعي، وتقليص رقعة الملكية الفردية إلى النصف. كما تم تعديل النظام الضريبي بعمق لصالح الرواتب المتواضعة، بينما تم بتر المداخيل المرتفعة بنسبة تصل حتى 90% من قيمتها. كما تم وضع حد أقصى لرواتب كبار الموظفين ورؤساء المؤسسات. أما عمال المصانع فصاروا بمثابة أطفال النظام المدللين.
صاروا يتمتعون بأسبوع العمل ذي الساعات الاثنتين والأربعين، ويتولون بأنفسهم إدارة مؤسساتهم، ويحصلون على حصة قدرها 25% من الأرباح، تضاف إليها رواتبهم. كما ندد ناصر بـ«البرجوازية الجديدة» التي تكونت على هامش النظام «الاشتراكي». وأما «الميثاق الوطني»، الذي صار بمثابة الكتاب المقدس للدولة المصرية الجديدة، فقد أدان بلا أدنى سخرية «السلطة الشخصية». مع ذلك، فقد أدان الميثاق مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا، ونادى بـ«تعاون كافة الطبقات الاجتماعية».

حضر خروشوف.. وخلت مصر من السجناء الشيوعيين
ها هو السيناريو قد حيك، والديكور قد نُصب، وبقي تعيين ممثلي الناصرية اليسارية الجديدة. غير أن جزءاً كبيراً من أهل الفكر، الموزعين بين الاحتراز والإنكار والتشكك، قد فضلوا الاكتفاء بدور المشاهد. هكذا تجمَّل بالصمت ليبراليون، وماركسيون ومستقلون وشيوعيون طلقاء تحت المراقبة أو معتقلون. وأُلغيت منذ ذاك الحين الأحكام العرفية والرقابة على الصحف. وكلف عبد الناصر هيكل بحل ما عُرف تخففاً بـ«أزمة المثقفين»، فما كان من رئيس تحرير «الأهرام» إلا أن استهدف بين هؤلاء المثقفين أقطاب اليسار، الذي يمثل الأغلبية العظمى في المجتمع المدني. فخصص صفحة يومية في الجريدة «للآراء» (الحرة) وعهد بإدارتها إلى ماركسي شهير، هو لطفي الخولي، الذي جعل منها مركزاً للتجمع. كما صرح هيكل للخولي في ما بعد بتأسيس مجلة «الطليعة» لكي تكون بمثابة لسان حال شبه رسمي للماركسيين ، الذين عبروا عن تحفظهم عبر الرقابة الذاتية. منطقياً، كان ينبغي بالضرورة أن تكون الخطوة التالية هي تصفية المعتقلات، المأهولة بكوادر مهنية، ومفكرين من ذوي القيمة، وسياسيين من ذوي التجربة. فقد كان الحزب الأوحد، الاتحاد الاشتراكي العربي، في أمسِّ الحاجة لهم لتأطير ما يقرب من خمسة ملايين عضو. فكان في ذلك السياق، ومن ذلك المنظور، أن اختار عبد الناصر المبعوث الخاص لصحيفة «لوموند» الفرنسية للإعلان عن قراره الإفراج عن السجناء السياسيين. وبأثر رجعي، راحت أجزاء الصورة تتجمع لتؤلف لوحة متماسكة للمشهد السياسي السائد في تلك الفترة من الزمان.
مع ذلك، لم يلبث المعتقلون أن اكتشفوا مقاصد ناصر الخفية، لاسيما حقيقة اضطرارهم لدفع ثمن غالٍ لقاء حصولهم على الحرية. وبينما كان الإفراج عنهم يتم تقتيراً على مر الشهور، ألزم الرئيس المصري الشيوعيين على وجه الخصوص بتعهد مكتوب بعدم التصرف ضد مصالح الجمهورية وبحل كافة تنظيماتهم. وفي المقابل، عرض عليهم إدماجهم بصفة فردية، وبوصفهم «مواطنين»، داخل الحزب الأوحد وفي إدارة شؤون الدولة. وقد كان رد الفعل الأول للمعتقلين هو الاستنكار. إذ كان من المستبعد أن يتخلوا حتى عن هويتهم لاستعادة الحرية. فما كان منهم إلا أن أخطروا السلطة برفضهم القاطع للتوقيع على شهادة حسن سير وسلوك، وطالبوا بإلغاء القوانين المضادة للشيوعيين التي تنص على عقوبات مغلظة بالسجن، والتي أصدر العديد منها إبان الحكم الملكي.
علاقات
وبدا المأزقُ مستحكماً. فما كان من عبد الناصر إلا أن أذعن، نظراً لاستعجاله القضاء على أسباب الخلاف قبل أن يصلَ إلى مصر نيكيتا خروشوف، الأمين العام للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفياتي. وكان هذا الأخير قد رشق أنور السادات، الذي أتى إلى موسكو ليدعوه إلى افتتاح السد العالي بأسوان، بقوله المُراوح بين الجد والهزل: «لا أريد أن أخاطر بالتعرض للقبض عليَّ عندكم بسبب معتقداتي الشيوعية». وتؤكد تلك النادرة (التي رواها لي أحد أعضاء الوفد المصري) أن خروشوف لم يكن يَقدر أو بالأحرى لم يكن يريد الذهاب إلى بلد به المئات من الشيوعيين المعتقلين.
ويبقى أن حالات الإفراج الأخيرة قد تمت بالتحديد قبل يوم واحد فقط من وصول خروشوف إلى الأسكندرية في مايو 1964. ويجدر تذكرُ ذلك التاريخ جيداً : فتلك هي المرة الأولى، على مدار عشرين عاماً، التي تخلو فيها مصرُ من السجناء السياسيين الشيوعيين.
وقد كانت رحلة الزعيم السوفياتي إلى مصر بالطبع غير مسبوقة في الحوليات الدبلوماسية لكلا البلدين. إذ تظل هذه الرحلة فريدةً من نوعها سواء لأهميتها السياسية، أو للأبهة التي أحاطت بمجراها، أو لحرارة الاستقبال التي اختُص بها ضيفُ مصر، أو لمدتها التي أثارت الدهشة لفرط طولها. فطوال ستة عشر يوماً، كنتُ عضواً في مجموعة الصحافيين المرافقين لنيكيتا خروشوف في جولته الميمونة، التي صحبه فيها العديدُ من كبار المسؤولين الروس، مثل أندريه غروميكو، وزير الخارجية، والمارشال أندريه غريشكو، القائد الأعلى لقوات «حلف وارسو». كما أتى بصحبة الزعيم السوفياتي زوجته، وابنه سرجي، وابنته رادا وزوج ابنته السيد أدغوبي، ليُسبغ بذلك على رحلته طابعاً عائلياً.
وقد أضاف خروشوف إلى مهامه السياسية مباهج السياحة. فحضر حفلاً بالأوبرا، وشارك في رحلة بحرية في البحر الأحمر، وزار متاحفَ وآثاراً تاريخية، وبالطبع أهرامات الجيزة والمقابر الفرعونية بوادي الملوك في الأقصر. وبدا واضحاً أن كل ما رآه قد أدهشه وأسعده.
وعند نزوله من الباخرة في الأسكندرية، كان قد استُقبِل بوابل من طلقات المدفعية، والبالونات الطائرة، والنشيدين الوطنيين تعزفهما الجوقة العسكرية، قبل أن يصافح الشخصيات التي أتت إليه مرحبة، في مقدمتهم أعضاء الحكومة مكتملين، وجماعة البرلمانيين، والهيئات المشكَّلة، ورؤساء البعثات الدبلوماسية. كما نُثرت قصاصات الورق الملونة ووريقات الورود على طول مساره حتى ركب القطار الذي أقلّه إلى القاهرة.
وكان مئات الآلاف من المصريين، معظمهم فلاحون بالجلباب التقليدي وتلاميذ بالزي المدرسي، قد اصطفوا على طول السكة الحديدية، لتحيته في هرج واصطخاب. أما موكبه في شوارع القاهرة، تحت أقواس النصر المشيدة تكريماً له ولافتات الاحتفاء بالصداقة المصرية السوفياتية، فلم يُرَ له مثيلاً على أرض وادي النيل.
كان لدى جمال عبد الناصر أسبابٌ وجيهة لتهيئة ذلك الاستقبال لنيكيتا خروشوف. فقد كان قد طلب المساعدة تباعاً من ألمانيا الاتحادية، ومن المملكة المتحدة، ومن الولايات المتحدة لبناء السد العالي بأسوان، من دون أن يحظى طلبه بالقبول. فبعد أن قَبِل ناصر بالشروط الاقتصادية الجائرة التي كانت قد وضعتها واشنطن، إذا به يتعرض للصدمة ويستشعر الإهانة بسبب القرار المفاجئ المتخذ من قبل وزارة الخارجية الأميركية في 1956 بسحب عرضها التمويلي، بذريعة أن مصر لن تملك أسباب الوفاء بتعهداتها المالية. وواقع الأمر، أن وزير الخارجية الأميركي فوستر دالاس، كان قد رضخ للضغوط المتضافرة ما بين كل من اللوبي الصهيوني، ومزارعي القطن في ولايات الجنوب، الذين كانوا يخشون توسع المزارع المصرية، بالإضافة إلى جزء من الكونغرس المعادي لذلك «الفاشي» الذي مثله عبد الناصر في أعينهم. وكان عبد الناصر يشتبه برغبة واشنطن ولندن في الإطاحة به بواسطة انقلاب مماثل لذلك الذي تسبب في إسقاط محمد مصدق في إيران، قبل ذلك بثلاثة أعوام.
في تلك الظروف إذن قرر الريّس، بعد استنفاد كافة الوسائل، التوجه إلى موسكو بعد أن استحوذ على عوائد قناة السويس. وقد قدم له نيكيتا خروشوف هدية القرن بقبوله إمداده بالأموال وبالتكنولوجيا وبآلاف المهندسين والفنيين اللازمين لتشييد ما سُمي بـ«هرم الأزمنة الحديثة الأكبر».
ولقد كان لإنجاز هذا المشروع الضخم أهميةٌ حيوية على عدة أصعدة : فمن شأن السد أن ينظم تدفق مياه النيل، التي كان جزء كبير منها يضيع في البحر بسبب غياب السدود الحاجزة لها، ومن شأنه استصلاح وري حوالي 850000 فدان، ومضاعفة إنتاج الطاقة الكهرومائية في غضون ثمانية أعوام، والعمل بذلك على تعزيز التصنيع في البلاد. باختصار، سيحفظ السد مصر من الفيضانات المدمرة ومواسم القحط المتلفة، مع السماح لها بتلبية احتياجات سكانها الذين أخذ مستوى معيشتهم في الانخفاض بالوتيرة نفسها التي ارتفع بها عددهم. وكان تنفيذ المشروع ملحاً للغاية لاسيما وقد تقلص نصيب الفرد من مساحة الأرض المزروعة بمقدار النصف، في غضون أربعين عاما.
وقد كانت اللحظة الأهم في الاحتفاليات المنظمة بمناسبة افتتاح السد هي بالتأكيد الاحتفال الذي شهد تحويل مجرى مياه النيل لتغذية بحيرة صناعية طولها حوالي 500 كيلومتر. وقد حضر بضعُ مئات من الصحافيين القادمين من شتى أنحاء العالم، مراسم تشغيل أكبر سد في أفريقيا.

الحدث التاريخي
«لأبي مصر الحديثة»
وتراءى الاحتفال لأعيننا في صورةٍ تضارع أهمية الحدث، الذي لم تتردد الصحافة في وصفه بالحدث التاريخي. فقد كان الاستاد الرياضي الدائري يعج بمائة وعشرين ألف شخص، بينهم عشرات الآلاف من العمال والمهندسين المصريين، وبضعة آلاف من الفنيين السوفيات، الذين اجتهدوا جميعاً في العمل ليل نهار طوال اثنين وخمسين شهراً، لينتهوا من المرحلة الأولى من الأعمال قبل عام كامل من الموعد المحدد. وتعالت الهتافات المنغَّمة من الكتلة البشرية الحاضرة للترحيب بعبد الناصر «أبو مصر الحديثة»، وبخروشوف «صديق العرب المخلص»، اللذيْن كانا واقفيْن فوق صخرة، ومعهما ثلاثةٌ من رؤساء الدول العربية، ومن حولهما أقرب معاونيهما. وقد استثاروا هديراً من صيحات الفرح المدوية حين ضغطوا معاً على زر لتفجير شحنة من الديناميت لإسقاط السدادة الرملية التي كانت تغلق مدخل قناة تحويل مجرى المياه.
وقد شهدت ذروة المهرجان إطلاق ألعاب نارية وبالونات بألوان علمي البلدين، وتشكيل صورتين عملاقتين لناصر وخروشوف بواسطة لوحة بشرية مكونة من الآلاف المؤلفة من الشباب المصطفين على مقاعد الاستاد، بينما عزف الأوركسترا السمفوني العسكري أناشيد وطنية. وقد بدا الرئيس المصري في غاية التأثر. وتبدى وجه الزعيم السوفياتي متهللاً. وفي الخطاب الذي ألقاه الأخير، توجه بالحديث إلى «الرفيق» ناصر قبل أن يمنحه أسمى وسامين في الاتحاد السوفياتي، وهما وسام لينين ووسام «بطل الاتحاد السوفياتي». وقد أجابه عبد الناصر معلناً أن» شعب الجمهورية العربية المتحدة لن ينسى على الإطلاق ـ ومهما طال الزمن ـ المساعدة النزيهة الشريفة التي قدمها الصديق العزيز والأخ نيكيتا خروشوف».
غير أن الخطب التي سيلقيها الزعيم السوفياتي على مدار زيارته ـ والتي بلغت في مجملها خمسة عشر خطاباً ـ لن تكون دائماً سبباً لإسعاد مضيفيه المصريين. إذ لم يمتنع السيد المموِّل عن إعطاء دروس في الماركسية التطبيقية، ولم يُمسك عن تمجيد الشيوعية (أو كما وصفها «شباب العالم») في بلد يعتبر تلك العقيدة خارجة على القانون، كما لم ينتهِ عن الاحتفاء بمآثر النظام السوفياتي الاجتماعية في حديثه إلى عشرات الآلاف من العمال في أربعٍ من المجموعات الصناعية الكبرى. بل إنه لم يقْدِم في أي لحظة على تحية الاشتراكية التي تنتهجها مصر الناصرية، مع التسليم لها بفضيلة الولوج إلى درب «التنمية غير الرأسمالية». وقد اقتدَّ الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي لنفسه نجاحاً خالصاً بين مستمعيه، الذين كانوا يوسعونه تصفيقاً حاداً، على عكس ما كان أحياناً من رجال القيادة المصريين الحاضرين. كان عبد الناصر، الحاضر دوماً، يلزم الصمت، مكتفياً بابتسامة جامدة أو بوجه عابس، لكن محمد حسنين هيكل كان يتكفل بالرد على صفحات «الأهرام»؛ إذ راح يوجه نقداً لاذعاً للشيوعيين المصريين الذين اتُهموا، ضمن ما اتُهموا به، بالعمى السياسي.
لكن هيكل قد أغفل الإشارة إلى أن الشيوعيين مايزالون يرفضون حلَّ تنظيماتهم.
وقد تمادى خروشوف في الاستــفزاز إلى حد الهجــوم على الوحدة العربية «الشوفينية»، التي قارنــها بالحركة الوحدوية الروســية التي قامت إبان الحقبة القيصرية. وقال صــراحةً : «آمُل أن يتم تعديل شعار الوحدة العربية وتحويره ليصــبح: «يا أهل الطبقة العاملة العرب، عمالاً، وفلاحين، ومثقفين، اتحدوا ضد المســتغلين!» أما النزاع الإسرائيلي العربي، فلم يتطرق إليه في خطاباته سوى مرة أو مرتين، مع التركيز على ضــرورة حل جمــيع المشكلات بالطرق السلمية، والدعوة إلى «سلام عادل وعاقل»، وهو ما يمثل صيغةً في غاية الإبهام والالتباس، لقيت هي الأخرى استحساناً حماسياً لدى المستمعين. فمــا كان من ناصر إلا أن حذا حذوه بتأييد اقتــراح موســكو إعلان البحر المتوسط «منطــقة خالية من الأسلحة النووية»، إذ كان يخشى على وجه الاحتمال تزود إســرائيل بترسانة ذرية في ذلك الوقت.

سخاء سوفياتي مفاجئ
وقد انتهت الزيارة «التاريخية» للأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي إلى نتائج كان القادة المصريون يرجونها وإن كانوا لا يجرؤون على تصديقها. فقد أعلن نيكيتا خروشوف تباعاً أن موسكو ستموِّل المرحلة الثانية والأخيرة من بناء السد العالي بأسوان، وأنها ستمنح مصر قروضاً طويلة الأجل لتنفيذ الخطة الخمسية الثانية باهظة التكاليف، والتي تتضمن تشييد عشرين مصنعاً للصناعات الثقيلة، ضمن مشروعات أخرى. وقد أُغدق عبد الناصر بكرم «الأخ نيكيتا». وبلغت «الصداقة السوفياتية المصرية» أوجها، حتى أنها أثارت قلق القنصليات الغربية، وتسببت في استقالة السفير الأميركي بالقاهرة، جون بادو، الذي دفع بذلك ثمن الفشل السياسي لحكومة بلاده. فبرفض الأميركيين بيع السلاح إلى مصر، ثم رفضهم تمويل بناء السد العالي، ظناً منهم أنهم يزعزعون النظام الناصري بهذه الطريقة، فقد دفعوا بالريّس باتجاه القادة السوفيات.
فضلاً عن ذلك، فقد تعزز وضع الريِّس، الأمر الذي أصاب واشنطن بذهول عظيم. إذ نفعته المدائح التي كيلت له على الصعيد الداخلي، حيث بات يُنظر إليه منذ ذلك الحين على أنه «مؤسس مصر الحديثة» (بتعبير خروشوف). واشتد الجدال في ما بين الشيوعيين، وهو الجدال الذي كنتُ شاهداً عليه، ليتخذ توجهاً مغايراً تماماً. إذ لم يعد الأمر متعلقاً بتحديد إذا ما كانوا سيؤيدون أم لا الناصرية الجديدة ـ التي باتت الغالبية العظمى تُقِر بها ـ وإنما صار متعلقاً بإذا ما كانوا سيَقبلون الاندماج داخل الحزب الأوحد، ذلك التنظيم القومي غير الماركسي (الذي ينبذ صراحةً، بين مبادئ أخرى، مبدأ صراع الطبقات).
وقد تمكن أنصار حلِّ الحزب من التغلب على معارضيهم في نهاية الأمر. ولم تخلُ حجج هؤلاء «المراجعين» من جاذبية: إذ أكدوا أن عبد الناصر قد سلك بالفعل طريقاً يؤدي إلى الاشتراكية، بإدخاله إصلاحات تتجاوز كثيراً ما كان يحلم به أكثر الشيوعيين طموحاً.
كما يعد الحوار القائم بين صحيفة «الأهرام» والماركسيين دليلاً على حسن نوايا الريّس، مما يفتح المجال لمزيد من الخطى إلى الإمام. فما عساهم ينشدون خيراً من ذلك؟ وختاماً، يستخلص المراجعون وجوب إسهام الشيوعيين في تنفيذ تلك الإصلاحات، وتشديدها، والعمل على جعلها نهائية ومتعذرة على الإلغاء بترسيخها وتأصيلها. إذ يضيف أنصار حل الحزب أن الشيوعيين لا يكادون يملكون خياراً آخر، خاصةً وأن أدنى معارضة من جانبهم للنظام لن تكون عقيمةً فحسب، بل خطيرةً أيضاً بالنظر إلى شعبية عبد الناصر واتساع مجال سلطاته.
ولا يزال مجهولاً إلى يومنا هذا إن كان الكرملين، الذي كان يولي عبد الناصر تقديراً بالغاً، قد نصح الشيوعيين أم لا بإيقاف نشاط تنظيماتهم للانضمام ألى الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي تعتبره موسكو بمثابة تشكيل تقدمي خليق بأن يفضي إلى الاشتراكية. وكان رجال القيادة الروس يتوهمون في ذلك الوقت أن الحركات المعادية للإمبريالية في العالم الثالث إن لم يكن يسعها إرساء ديموقراطيات شعبية، فيمكنها على الأقل تأسيس دول تندرج في إطار التبعية السوفياتية. وألا يمثل تحول القومي فيدل كاسترو إلى الماركسية، قبل اتخاذ الحزب الشيوعي الكوبي قرار الانضواء تحت لوائه، سابقة جديرة بالاهتمام؟ مع ذلك، كان الكرملين يُجانب الصواب كلياً بإغفاله العداء العميق الذي يحمله عبد الناصر للشيوعية، والضعف الشديد الذي يعاني منه الشيوعيون المصريون، المنقسمون إلى عدة تنظيمات متنافسة.
يبقى أن تلك التنظيمات، الموؤودة حية، ما كان لها النشور من تحت الأنقاض مجدداً إلا في صورة مجموعات ضئيلة وهامشية، ثم بعد ذلك بوقت طويل، في صورة حزب يساري، هو «حزب التجمع»، الذي شهد مساره نجاحاً إلى حد ما. أما أعضاء تلك التنظيمات، الذين استعادوا حريتهم، فقد تم تعيينــهم بصورة لائقــة في وظائــف تتناسب وكفاءاتهم. وأما العناصر المتميزة ممن التحقــوا بالاتحاد الاشتــراكي العربي، فأُسندت إليهم مناصب في مواقع المسؤولية في وسائل الإعلام أو في داخل الحزب الأوحد.
هكذا عُهدت رئاسة معهد إعداد كوادر الحزب إلى الدكتور إبراهيم سعد الدين، المفكر الاقتصادي الشيوعي المعروف؛ وعُين أحمد فؤاد، وهو أيضاً رجل اقتصاد شيوعي، على رأس أربع عشرة مؤسسة منها بنك مصر؛ أما «الصاغ الأحمر»، خالد محيي الدين، أحد صناع الثورة الناصرية في 1952، فحصل على مبالغ مالية كبيرة لإطلاق صحيفة يومية يسارية. لكن عبد الناصر لم يدع أي مجال للالتباس حول طبيعة التعاون الجاري إرساؤه. إذ وجه تحذيراً صارماً لا لبس فيه إلى مجموعة من الشيوعيين السابقين ممن يشاركون في تحرير مجلة «الطليعة» الماركسية حين استقبلوه في مقر صحيفة «الأهرام»، قائلاً: «ليكن في علمكم، لن أسمح أبداً لكائن من كان أن يستقر على يساري…»، ثم أردف: «أو أن يدعي أنه جزء من السلطة…». وفي الفترة نفسها، صرح عبد الناصر لصحافي أميركي قائلاً: «لن أكون أبداً تابعاً أو ألعوبة لكائن من كان… فمصر مصممة على الاحتفاظ باستقلالها تجاه كافة الأيديولوجيات الأجنبية، ماركسية كانت، أو فاشية، أو عنصرية، أو استعمارية، أو إمبريالية، أو إلحادية، التي تعد جميعاً ـ لنقل ذلك عرَضاً ـ أوروبية المنشأ».
ربما نسي الريِّس التحذير الذي كان قد وجهه له نيكيتا خروشوف، قبل ذلك بست سنوات، في معرض حديث صحافي أجراه معه صحافي هندي، حين ذكره بأن هتلر وموسوليني كانا قد حاولا من قبله، وإن فشلا، القضاء على الشيوعيين «استناداً إلى مواقف منبثقة من القومية الشوفينية». ويمكن قياس التطور الذي حدث في رأي الكرملين بصورة أفضل، بالرجوع إلى الموسوعة السوفياتية الكبرى التي تروي، في 1952، أحداث الثورة الناصرية كما يلي: «في ليلة الثالث والعشرين من يوليو (تموز) 1952، استولت على الحكم مجموعة من الضباط الرجعيين بقيادة اللواء محمد نجيب، ممن تربطهم علاقة وثيقة بالولايات المتحدة». وقد غيرت الولايات المتحدة أيضاً رأيها في الريس تغييراً تاماً. فبعد أن كانت واشنطن تعتبره في البداية «موالياً للغرب»، لم يعد في نظرها في ما بعد سوى بيدق في يد موسكو.
هكذا تبدلت الرؤى لدى القوتين العظميين، لكن مصر بقيت في كل الحالات رهاناً عظيماً ـ وفي نهاية المطاف ضحية ـ للحرب الباردة، كما ستثبته جلياً مقبل السنين.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى