تضاريس التنوّع الثقافي

إذا كانت موجة اللّجوء والهجرة التي اجتاحت أوروبا بشكلٍ خاصّ، والغرب بشكلٍ عامّ، في الفترة الأخيرة قد طَرحت مسألة التنوّع الثقافي مُجدَّداً وعلى نحوٍ حادّ، ارتباطاً بصعود ظاهرة الإرهاب الدّولي واستشراء العنف، فإنّ زاوية النَّظر إليها تختلف باختلاف المجتمعات الغربيّة ذاتها، وتعاطيها مع هجراتٍ سابقة منذ أواسط القرن الماضي، بانتقال أفراد ومجموعات إليها من الدُّول المستعمَرة سابقاً، الأمر الذي ولَّد احتكاكاً وتناقضاً يتراوح بين الاندماج والإقصاء، وبين الشمولية الثقافية السائدة، والخصوصية التي تُريد الحفاظ على مكوّناتها وهوّيتها.

لكنّ الخصوصية والهوّية الفرعية في العديد من الدّول الغربية، كانت هي الأخرى محطّ مُناقشة وجَدَل طويلَين، وشدٍّ وجذبٍ قبل موجة الهجرة واللّجوء؛ ففي كندا شَهدت حركة الدّفاع عن اللغة والثقافة الفرنسية، في مقاطعة الكيبك، نشاطاً هدفه تأكيد سياسة الاعتراف بالتعدّدية الثقافية. وفي الولايات المتّحدة نَشطت حركات اجتماعية وسياسية مُناهضِة للتمييز العنصري، بالترافق مع حركة الحقوق المدنية التي قادها القسّ مارتن لوثر كينغ، والتي اضطرّت واشنطن إلى الاعتراف بها في العام 1964. وفي البلدَين، لا تزال قضيّة الهنود الحُمر قائمة، على الرّغم من إعلان الأُمم المتّحدة حول “حقوق الشعوب الأصيلة” الصادر عنها العام 2007؛ والأمر ذاته بخصوص الأبوريجان في أستراليا، والمورو في نيوزيلندا، والسام في إسكندينافيا.

إقرار قاعدة المساواة

ومنذ انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينيّات من القرن الفائت، بدأت قضايا الحقّ في الاختلاف والهوّية والتسامح والمواطَنة تظهر على خارطة السياسة الدّولية ارتباطاً بحقوق الإنسان، وارتفَع رصيد فكرة المساواة في الحقوق، وبين الهوّيات، صغيرها وكبيرها، على أساس احترام الخصوصيّات؛ وهكذا بدأت ملامح جديدة داخل المجتمعات الأوروبية والغربية تَبرز بحُكم وجود مشكلات قائمة مثل: كاتالونيا والباسك في إسبانيا، وإسكتلندا في بريطانيا، والصراع بين الوالونيّين والفلامانيّين في بلجيكا، ومشكلات التنوّع الثقافي في جنوب فرنسا وإيطاليا وغيرها.

الإشكالية بالتدرّج أصبحت واقعاً يحتاج إلى تسيير التعدّد وإدارة الاختلاف والتنوّع للجماعات الإثنية والثقافية وتقنين الأسس والقواعد النّاظِمة للعلاقات، بإقرارِ حقّ كلّ جماعة في التعبير الحرّ وواجب الدّولة حماية هذا الاختلاف والتنوّع وتنميتهما وتطويرهما. وإذا كان الخلاف قد استمرّ، فإنّه حول سُبل الإدارة والصِّيغ القانونية الكفيلة بحلّه سلميّاً، من خلال البرلمانات والاستفتاءات وحَشد الرأي العامّ، كما أنّ النَّظر إليه، وإنْ كان ينطلق من زاوية حقوق الإنسان (الفرد)، ولاسيّما حقّه في الكرامة، إلّا أنّه يتجسّد في إطار مجموعة ثقافية ذات هوّية؛ وبالطبع فإنّ مثل هذا الأمر يحتاج إلى إقرار قاعدة المساواة.

جرّاء هذا التطوّر، ذهب البعض لإبداء تخوّفه بخصوص التعارض بين قِيم الليبرالية والتعدّدية الثقافية، باعتبار الأولى تختصّ بالفرد، في حين أنّ الثانية تندرِج في إطار المجاميع الثقافية، ذلك لأنّ المجتمعات التي نتحدّث عنها، هي مجتمعات متعدّدة الثقافات والهوّيات، مع وجود هوّية جامعة، الأمر الذي يقتضي تأكيد مبادئ المساواة انسجاماً مع العدل.

ويذهب كاتب مثل ويل كيميليكا إلى الدعوة لتغيير بعض عناصر النظرية الليبرالية من موضوع المواطَنة، التي تُميّز بين الفضاء الخاصّ والفضاء العامّ؛ فالأوّل يمتاز بالحرّية الكاملة ولا يحقّ لأحد التدخّل فيه، والمقصود الفرد، في حين أنّ الفضاء الثاني يتعلّق بالعموم، وهو حقل الممارسة السياسية، والفرد الحرّ يُصبح فيه مواطناً، له موقع قانوني وحقوق وواجبات، ويتمتّع بالمساواة مع المواطن الآخر.

بهذا المعنى، لا يوجد تمييز صريح وفاصل بين الفضاء الخاصّ والفضاء العامّ في المواطَنة، لأنّ وضع هذا التمايز سيؤدّي إلى تهميش المجاميع الثقافية وإنكار التعدّدية وإلغاء التنوّع الديني والإثني واللغوي، تلك التي تستصغرها الثقافة المُهيمِنة، وخصوصاً باتّباعها سياسة آحادية، ولاسيّما في مجال التربية والتعليم والثقافة واللغة وغيرها من المجالات.

الفرد دائماً موجود في سياق ثقافي، ولا يُمكن فصله بحسب هذا التوجّه عن مواطنة ثقافية تعدّدية معيّنة، وأيّ فصل بين الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ، يُلحِق ضَرراً بالمجاميع الثقافية الأخرى غير “السائدة” في الدّولة. فالدّولة، بحسب وجهة النَّظر هذه، مُلكٌ للجميع وليست لفئة أو مجموعة ثقافية معيّنة، وبالتالي لا ينبغي لها إقصاء أو تهميش أحد من المجاميع الثقافية الأخرى، التي تفترض التعامل معها على أساس المساواة، باللغة والثقافة والتاريخ والهوّية. وقد كان ثمن الإنكار فادحاً، ليس في العالَم الثالث الذي شهد حروباً ونزاعات مسلّحة فقط، بل في الغرب أيضاً، ومنه أوروبا الشرقية.

تصلّب فرنسي شديد

فما إن تفكّكت الكتلة الاشتراكية، حتّى انقسم الاتّحاد السوفييتي السابق إلى 15 دولة، وانشطرت يوغسلافيا إلى ستّ دول، وانشقّت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتَين، وشهدت الجمهوريات المُنقسِمة، باستثناء تشيكوسلوفاكيا السابقة، حروباً ونزاعاتٍ وتوتّراتٍ لا حدود لها، ولا يزال بعضها مستمرّاً.

ولعلّ عدم الاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية سيكون فادحاً، بارتفاع منسوب اللّجوء والهجرة وتدفّق مئات آلاف جديدة إلى أوروبا والغرب، وهذا سيضع مسألة التعدّدية الثقافية في الميزان على نحو جديد، وخصوصاً في فرنسا التي تُواجِه مطالب التعدّدية والتنوّع بتصلّب شديد؛ في حين أنّ هذه المسألة وجدت بعض الحلول في بلدان أخرى، كما هي بريطانيا والبلدان الأنكلوساكسونيّة على أساس الاندماج، والتعامل مع اللّاجئين كبَشَرٍ لهم حقوق وليسوا دخلاء- حتّى وإن نشطت مجاميع يمينية بالضدّ من ذلك – ولاسيّما بالتوازن بين ما هو كَونيّ وشامل وبين ما هو وطنيّ وخاصّ، وبين هوّية عامّة وهوّيات فرعية.

*باحث ومفكّر من العراق
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى