غباء العنصرية الثقافية ووقاحتها

أين يمكن لنا أن نضع العبارات التالية المأخوذة من معجم التراشق السوري: «لا بدّ من افتراض سيكولوجيا جمعية لعلويي سوريا»، «خوف السنّة من العلمانية»، «خوف العلويين من الديموقراطية»، «الأكثرية المسلمة المتخلفة»، «الأقليات القابلة للحداثة»، «العلوية السياسية»، «العلوية الثقافية»؟ هل يمكن أن ندرجها في إطار العنصرية في الوقت الذي يؤكّد أصحابها أنّهم لا يتكلمون على أيّ شيء بيولوجي ووراثي، بل عن أشياء سياسية ونفسية وثقافية؟

الفكرة الأصلية في العنصرية هي «العرق» أو «العنصر» والخوف المرضيّ من اختلاط الأعراق للحفاظ على نقاوة الدم. وهي نتاج حديث و «غربيّ» تعود جذوره الحقيقية إلى منتصف القرن الخامس عشر وظهور ثنائية ذوي الدم النقي/ ذوي الدم الملوَّث في إسبانيا والبرتغال، حيث أُريدَ لها أن تعلي من شأن نقاوة الدم على نقاوة الإيمان، فتشكّل عقبة كأداء أمام المُتنصّرين الجدد من اليهود والمسلمين وتحول دون ارتقائهم الاجتماعي.

لكنَّ عناصر أخرى متعددة راحت تضاف في مراحل تاريخية محددة لتشكّل جذوراً أخرى للعنصرية: استرقاق السود؛ الاستعمار؛ صيرورة العنصرية في القرن التاسع عشر جزءاً مكوّناً من بنية «التمركز الأوروبي على الذات» إلى جانب عناصر أخرى مثل الاستشراق، وإلحاق المسيحية بالغرب، وبتر علاقة اليونان القديمة بالبيئة الشرقية وضمّها تعسفياً إلى «الغرب» الأوروبي. وذلك لأن العنصرية كانت أمراً لا بدّ منه لتأكيد الوحدة الثقافية الأوروبية على مدى القرون.

بدأ التقارب بين نظرية العنصرية وممارستها مع منتصف القرن الثامن عشر حين ظهرت أولى محاولات تصنيف أجناس البشر وإيجاد أساس تشريحي للمفاضلة بينهم، وأولى محاولات تصنيف اللغات البشرية وإقامة تمايز في كفاءاتها الأدائية والعقليات التي تقف وراءها. واكتملت صياغة العنصرية مفهومياً وإيديولوجياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع «التمركز الأوروبي على الذات»، الذي أتاح للعنصرية قدرةً على إعادة إنتاج أفكار قديمة واختراع أخرى جديدة تحلّ بهذا القدر أو ذاك محلّ فكرة «العرق»، وتحافظ في الوقت ذاته على ما كانت تنهض به من وظائف وأغراض. فالمهم في النهاية هو القول بوجود طبائع محدّدة وخاصة تقف وراء الظواهر الاجتماعية والتاريخية، أو وراء الحضارة ذاتها التي تنهض بها جماعة من الجماعات.

يكفي العنصرية كي تقوم، إذاً، إنكار وحدة البشر بزعم وجود اختلاف جوهري بينهم، سواء أكان بيولوجياً أو مناخياً أو ثقافياً. والحال، إنّ تهافت الأسس البيولوجية للعنصرية كان من شأنه أن يدفعها في الاتجاه الثقافي. وربما كان من الممكن أن نطلق على هذا الشكل الأخير اسم «العنصرية الثقافية» التي تجعل من الفروق الثقافية (لا سيما الدينية والمذهبية) جواهر مطلقة لا يعتريها ما يعتري ما هو إنساني من تطور وتواصل وتمازج وتأثّر متبادل.

اللافت في هذه «العنصرية الثقافية» أنها لم تعد تدور بين الثقافات فحسب، بل ضمن الثقافة الواحدة أيضاً، ولم تعد مقتصرة على الغالب بل تعدّته إلى المغلوب، كنوع من ردّة الفعل المرضية والخوف المرضي. وسواء عند الغالب أم عند المغلوب، فإنَّ تصوّر نجاتك من العنصرية، لمجرد أنك لا تحيلها إلى البيولوجيا والجينات الوراثية، هو نوع من الغباء بعد مرور نحو قرن على تهاوي العنصرية البيولوجية، أمّا مهاجمة الذين ينتقدون العنصرية بأشكالها الجديدة الثقافية والسياسية معتقداً أنّهم يتهمونك بالعنصرية البيولوجية ويسيئون فهمك، فهو ضرب من الوقاحة التي تُضاف إلى ذلك الغباء.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى