نوافذ للحوار| سلام عبد العزيز: منطقة الجسد تحتاج فنية عالية للتعبير عنها

قلما يكون المتابع للمشهد الثقافي والأدبي شخصاً يبهجه الاحتفاء، وفي الوقت نفسه لا يشغله النقد، وعلى رغم أن للروائية سلام عبدالعزيز روايتان هما: «العتمة» و«دحرجة الغبار» فإنها لا تزال تجد منطقة وسيطة تتعامل فيها بواقعية مع «التهميش» الذي تعانيه، واصفة موقفها بأنها لن تهاجم النقاد أو تدمغهم بالتجاهل والمحاباة، وتعرض الروائية الشابة في حوار مع «الحياة» تعريضاً خفيفاً بتجارب أخرى ربما يكون كتب لها النجاح بأنها لا تحصل على الحفاوة لقاء «مجاملة» أو «علاقة شخصية»، ومع ذلك فإنها تحاول أن تظهر رافضة للانجرار إلى «المناطق المحمومة» و«إشباع فضول الفضوليين»، منزاحة من خلال هذا الحوار إلى أن رسم ومناقشة ملامح توجهها السردي ورؤيتها الفنية ورسالتها المقصودة في بناء شخصياتها وأعمالها الأدبيّة.. إلى نص الحوار.

> كاتبة لها روايتان الأولى بعنوان «العتمة» والأخرى «دحرجة الغبار»، ومع ذلك لم تلق على رغم جدية ما تكتبه الاحتفاء النقدي اللائق بها.

– لست معنية بذلك، وإن كان الاحتفاء يبهجني مثل كل الناس، تأكد، أن يحتفى بي وتفرد لي مساحة كهذه أمر أقدره، لكنه يقلقني، أنا لا أطلب من أحد أن يصدقني، لكني في البدايات أسعى بجهد أن تكون لي شخصيتي الروائية التي ما أزال أفتقر إلى الكثير من ملامحها، ومساحة كهذه تحملني المسؤولية من جانب، ومن جانب آخر تواجهني بسؤال كبير: ماذا قدمت لأستحق ذلك؟ أدرك أن قراءة نقدية واحدة صادقة وليست نتاج «مجاملة أو علاقات شخصية» أكثر قيمة من لقاءات عديدة، وأكثر إثارة للبهجة في روحي، لكن لدي قناعة أنه لا فائدة من النقد إن لم يكن تلقائياً، أريد أن أقول أن النقد يهمني، لكنه لا يشغلني، وليس أحد هواجسي. هناك نقطة وحيدة في الأفق أوليها وجهي، هي أن أكتب ما عندي، أن تتطور أدواتي، أن تتنامى شخصيتي الروائية من دون أن أكون نسخة مكررة من أحد، كما لن أصب جام غضبي على النقاد وأدمغهم بالتجاهل أو المحاباة أو.. أو.. سأظل دوماً بمعزل عن كل هذا، وسأنتصر دوماً للسلام والجمال، وكل ما هو تلقائي وصادق.

> هل ما مرت به بطلتك «قبس» يقارب شيئا مما مررت به في حياتك الشخصية؟ أم هو تكثيف وتصعيد لمعاناة الكثير من النساء؟

– «قبس» ليست أنا، لكنها صياغة لأحلام نساء عديدات في كل الوطن الممتد، يحملون بدرجات متفاوتة توقها لاحترام إنسانيتها، للحرية المنضبطة، ولغد أفضل. ليس كشفاً أن أقول أن قبس انتقيتها من الواقع.. عرفتها في زمن مضى.. التقيتها مرات قليلة قبل زواجها، ثم عرفتها أكثر بعد القصاص! في السجن كتبت قبس قصتها من أجل أن تصل الحقيقة لأبنائها، كان ذلك هو كل ما يعنيها، ويوم نشر خبر تنفيذ القصاص منها عبر إحدى الصحف تجمدت متألمة مذهولة لدقائق لا أعلم كم امتدت، ثم التقطت قصاصة الخبر، دسسته بين أوراقي الخاصة، ولا يزال حتى اليوم.

> في روايتك الأخيرة «دحرجة» يغيب الدور الفاعل «للذكر»، فحضوره سلبي لا يدفع الحبكة، هل يمكن إسقاط ذلك على واقع «الذكر» في السعودية؟

– لعلنا نتفق أن فن الرواية يحتاج لتجربة حياتية ثرية توسع آفاقها، وتجربة روائية غنية، لا شك أني لا أمتلكها كوني أخوض ألق البدايات، ومع ذلك وبقراءة بسيطة للرجل العربي، سعودي أو مصري أو أردني .. إلخ، الرجل الشرقي واحد، ربما تتفاوت رحابة الأفق الفكري، تتسع هناك وتضيق هنا لكن في المجمل «كلهم سيان»! ما أكثر من يتكلمون بمنطق تقدمي، ويتعاملون معها بمنطق رجعي، على أية حال.. جميعهم ليسوا ملائكة، لكنهم أيضاً ليسوا شياطين. ونحن في السعودية رجالاً ونساء. لم نسقط من كوكب مختلف، ولا يمكن التعميم بأي حال من الأحوال على سلبيتهم. لكل شخصيته، ولكل عوالمه التي لا يمكن إسقاطها على المجموع، كما لا يصح القياس عليها إلا بأقل النسب. وفي دحرجة الغبار لم يكن هناك دور فاعل للذكر – هذا ما تظنه – لكن شخصية الشيخ خضر فعلت الكثير، يكفي أنه أوصل البطلة روحياً إلى بر أمان، سلام مع النفس وتصالح مع الكون.

> الذكر الوحيد الذي كان ذا تأثير هو «يوسف البار»، لكنه لم يستطع تخليص «قبس»، بل لجأ إلى الحكم و الرؤى الصوفية، هل لديك موقف مسبق من رجل الدين؟

– بخلاف ما جاء في السؤال، «يوسف البار» مثّل للبطلة الرجولة والشهامة والمسرة الروحية، أعاد لقلبها الدفء والشعور بالشغف للآخر وللحياة، لكن الذي أوصلها إلى بر الأمان هو الصوفي خضر، تطهرت من جريمتها ودخلت المعبر إلى السلام من خلاله، تعلّمت منه أن تحب الحياة وترتفع إلى فوق، إلى الأعلى وإلى الغد. إذن هما رجلان لعبا دوراً فاعلاً في حياتها. بالنسبة للشطر الثاني من السؤال: ليس لدي موقف مسبق من أحد، لا رجل الدين ولا العلماني ولا أي مخلوق، الحياة أكبر من هذه التصنيفات.. حين تسألني سؤالاً كهذا فأنت تمتحن وعيي، لأن من يتخذ مثل هذه المواقف الحدّية لا يمكن أن يكون مثقفاً حقيقياً مهما لبس من لبوس المثقفين، الحياة لنا جميعا.. ولا ثوابت فيها، الشمس غير ثابتة، والليل والنهار في حالة تعاقب، ورجل الدين قد يغدوا ملحداً والملحد قد يتنسَّك.. لا ثوابت في الكون، ولا أحكام مطلقة أقيّد بها وعيي.

> يتداخل الشعر والقرآن ونصوص الِنفري ضمن أسلوبك السردي، ما سبب هذا التناص؟

– إذا ما خلصنا إلى أن التناص يؤدي وظيفة فنية جمالية أو فكرية تخدم السياق الروائي وتنسجم مع البناء الفني أو الأسلوبي أو اللغوي في الرواية، فإن التناص في «دحرجة الغبار» جاء بحذر وبيقظة كاملة بقصد التكثيف وغنى المعنى، وبمراعاة لما سبقه وما يلحقه، ولو عدت لأي «ديالوغ» ستشعر بهذه المعمارية.

> سيطر جو من الطهرانية في روايتك الأولي، لكن شخصية «شرَّابة» في «دحرجة الغبار» حملت إسقاطات جسدية واضحة، وإن كنت مسكت الشعرة الدقيقة في طرح العلاقة بين الأدب والجسد؟

– لست أنا الحكم في ذلك، الشخصيات هي صانعة عوالمها وردود أفعالها. الأدب شأنه شأن جميع الفنون، انعكاس للوجود الإنساني. ما يحدث هو أن الفنان يرفع الحب عن فتنة حياة ما، بأسلوب ما، يفترض أن يضع على الورق أشخاصاً ميزتهم هي إنسانيتهم، فإذا لم تنعكس هذه الذوات البشرية بصدق، فهو يمارس تزويراً للحياة. حقيقة هذا الأمر منطقة شائكة بالنسبة لأي روائي، وكلما ازداد وعيه بهذه المنطقة الحساسة كلما اكتسب مساحات أرحب للتعبير بفنية عالية، ونبرة خافتة ذكية عن منطقة الجسد، ليس كفعل وألفاظ شديدة الفجاجة، لكن للتعبير عن أعماق الشخصيات وشكل صراعاتها، بعبارة أكثر دقة، استخدام الجسد كوسيلة للكشف الإنساني ليس إلا.

> في «دحرجة الغبار» اشتغلت كثيراً على اللغة على حساب السرد الموغل بالتفاصيل، هل هذا ما كان يتطلبه هذا النوع من النصوص؟

– هل فعلت ذلك؟! في الحقيقة لا أعلم. كل ما أعلمه، أني وبوعي تام سعيت أن أكثف الحدث، أن تكون اللغة معبراً له، ومعبرة عنه بأوجز عبارة وأبلغها، من دون أن أتغاضى عن كينونة الشخوص وخلفيتها البيئية، وربما، أقول ربما، إن القارئ العميق يلمس ذلك التفاوت في الحوارات، فالصوفي خضر حواراته عميقة وتلامس الروح، والنساء في بيئة أم هلال، والسوق تفاوتت لغتهم بين البساطة والانحدار حد السوقية أحياناً كثيرة.

> في «العتمة» ثمة جدلية مذهبية، حتى إنه قيل بأنك كاتبة تريد أن تطرح قضية خاصة بها وتشغلها؟

– أنت تجرنا بسؤال كهذا إلى مناطق محمومة، على كل حال لن أشبع فضولك وأجيب على السؤال المضمر بين حروفك، لكن ببساطة، ومن دون فلسفة، أردت إطلاق صرخة استغاثة لكلا الطرفين أن ينظروا إلى الغد، والتاريخ الآتي، بدلاً من أن ينفخ كل طرف في رماد الماضي ويؤججه بأثر رجعي. أن نؤمن أن الزمن الماضي ذاته لن يعود، وأن الحاضر والمستقبل لن يكون إلا بنا معا، وعلينا أن نجد صيغة حميمة نتواصل بها ونفتح الكوة المغلقة لنمد حبل نجاة لنا جميعاً.

> ألم تفكري وأنت ساردة انفتحت على النصوص القصيرة أن تكتبي نصوصاً سردية قصيرة؟

– فعلت ذلك في بداياتي الأولى، لكن أفق الرواية أكثر رحابة لطرح المشاعر والاستبطانات وخَلْق دُنيا. وجدت ذاتي في هذا النوع الذي تفكك من خلاله عوالم وتبنيها من جديد، أيضا بطبيعتي أميل إلى التركيز في عمل واحد، وبالتالي على جنس أدبي واحد أعطيه جل وقتي، فالرواية بخلاف الأجناس الأدبية الأخرى تحتاج إلى وقت وصبر، تحتاج إلى معايشة حقيقية وشخوص وأحداث تتكون في الداخل من دون إكراه أو تصنع، ولو فعلت خلاف ذلك فلن أحقق النجاح لا في القصة القصيرة ولا في الرواية.

… الربيع العربي أضاع البوصلة

قالت الكاتبة سلام عبد العزيز رداً على سؤال حول ما يعتبر غياباً للأنثى، وهل يمكن أن تعيد هذه الثورات أو التمردات الصوت للأنثى: «إن ثورات الربيع العربي «أضاعت العقل والبوصلة وليس صوت الأنثى فقط، ذلك الصوت الذي ازداد نحيباً وحشرجة بفعل الهدر المرعب للدماء في كل البقاع»، مشيرة إلى أن كل ما ترجوه أن يعود صوت الإنسان ويرتفع، «رجلاً كان أو امرأة. نحن في منزلق خطير للغاية، لا تكاد تهدأ منطقة في محيطنا حتى تشتعل أخرى. اختلط الحابل بالنابل، الأصدقاء باتوا أعداء. خرجت علينا كائنات مشوهة من جحور غابرة لتهدم كل الجمالات والقيم الإنسانية، متفاخرة بنحر البشر من دون وازع من ضمير! علينا أن نستوعب حجم ما يحاك ضدنا وننهض بقوة، ولا ننشغل بقضايا فرعية كالقضية التي يطرحها السؤال».

وتابعت أن السؤال عن دور المرأة في السعودية لم يعد سؤالاً صالحاً للواقع الإبداعي الحالي، «فقد كان مطروحاً بهذه الصيغة حين كان إبداع النساء يعلن عن نفسه فوق أمواج عاصفة من الرفض والتشكيك، أما الآن فقد تغير خطاب الاحتكار، وتمكنت المبدعة السعودية من فرض نفسها على الساحة. المهم أن يلقى العمل الاهتمام الجاد والدعم النزيه، في النهاية (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). أعود وأكرر، لنترك القضايا الجانبية المترفة، فدورنا الآن الالتحام مع قادتنا لنعبر ببلد عظيم كبلدنا إلى شط أمان!». ولفتت إلى أنه وبعد 100 عام «يظل الحلم هو البدايات. والعمل الدؤوب وبثقة هو المفتاح. تحدثت عن الفقدان، وهو تجربة كبيرة يمر بها كل إنسان، لكن المهم كيف ننجو من تشوهات الخذلان ولذع المرارة، أو برودة الروح حين يبتلع الغياب الأحباب! كيف نعانق الوجود بحب إنساني للكون من جديد؟ هي ذات الإجابة، حب الحياة. والتجديف بكل عنفوان. هذا البحر يجب أن لا ينضب، وأن يظل متدفقا».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى