في تجديد الفكر الديني: مساهمة في الحوار الدائر حول الإسلام والحداثة(*)

تمـهيـــد

تندرج مسألة «الإسلام والحداثة» في إطار تجديد الفكر الديني من خلال أسئلة شائكة ومعقّدة تتعلّق بالرابط الذي يمكن الإسلام أن يطلّ فيه على عالم الحداثة. فرغم التطوّر الهائل الذي حصل في العالم على مستوى العلم والتكنولوجيا والاتصالات والمواصلات والإعلام والمعلومات، بما فيه الطفرة الرقمية (الديجيتل)، فإن الإسلام، وبالأحرى الفكر الإسلامي، لا يزال يراوح عند بوابة الحداثة، بل حتى دونها، ويخشى كثيرون الدخول فيها أو اجتياز عتبتها؛ فهناك ما يشدّهم إلى الخلف، ويحجب عنهم النظر إلى المستقبل بزعم الأصولية والسلف الصالح وغير ذلك من التبريرات.

الحداثة (Modernity)، تعني نقض القديم والتقليدي، وإطلاق الحرّية للعقل والتفكير في حركة نهوض وتطوير وإبداع هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك، وهدفها تبديل النظرة الجامدة للأشياء والكون والحياة، والتقليل من سلطات المقدس، ولكنها في الوقت نفسه تشترط التغيير والتجديد وتخطي الأساليب القديمة؛ فالماضي أصبح ماضياً، ولا يمكن استعادته أو العيش فيه، مثلما سيصبح الحاضر ماضياً وقديماً، وتلك سنّة الحياة، إذْ إن التغيير هو السمة المطلقة في الحياة، وما عداه فهو نسبي.

الأمر الذي يحتاج إلى تحديث (Modernization) هو الفكر الديني، وهذا له مدلول تاريخي ودينامية لتحوّلات بنيوية، مثلما حدثت في أوروبا منذ القرن السادس عشر حتى تبلور في الثورة الصناعية والثورة العلمية – التقنية التي رافقتها والتي قادت إلى الثورة الفرنسية عام 1789 وثورات أوروبا في القرن التاسع عشر.
والفكر الحداثي (Modernism) يعني التخلص ممّا يحول دون تقدّم الفكر وتطوّره، ولا سيّما حبسه في إطار من التقليد والمحاكاة للماضي، وحسب ألان تورين، فالحداثة تحتاج إلى عقلانية (Rationalism) وإلى انفجار معرفي، بحيث يصبح التركيز على العقل والعلم، فهل يصل الإسلام والفكر الإسلامي إلى ذلك؟ أم أن ثمّة معوّقات تقف حجر عثرة أمامه؟ وهل سيتمكّن الفكر الإسلامي من اجتياز بوابة الحداثة، الأمر الذي سيعني دخول عالمها، وبالتالي هل يستطيع تكييف التعاليم الإسلامية بحيث تستجيب لروح العصر بتقديم قراءات جديدة تنسجم مع التطوّر الكوني‏ .

أولاً: الديني والعلماني

إذا كانت أسئلة الجدل بين الدين والعقل قد صيغت في الماضي البعيد والقريب على أنحاء مختلفة ومتباينة لمفهوم الدين نفسه، فإن سؤال الدين من داخل الدين سيطرح إشكالاته النقدية هذه المرّة في ضوء البحوث المنهجية المهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب الديني، إلى مهمات تجديد الفكر الديني ذاته، لأنه لن يكون في الإمكان تجديد الخطاب من دون تجديد الفكر، ولا سيّما بجعله يستجيب للتطورات والمتغيّرات ويتساوق مع روح العصر.

كما أن سؤال الدين من خارج الدين يشتبك مع سؤال الدين من داخله، لأن كليهما ينشغلان بالهمّ الفكري والإنساني والروحي، سواءٌ كانت تفسيراته مثالية أو مادية، بأسبقية الوعي أو بألحقيته، باعتباره انعكاساً للوجود المادي‏ .

السؤالان: الدين من داخله والدين من خارجه، يتداخلان من خلال علاقة السياسي بالديني، وكيف يمكن التواؤم بين الديني كمنظومة وبين السياسي، كمتحرك قابل للائتلاف، والاختلاف، وعلى أي قاعدة يمكن البناء، وما هي عوامل التلاقي وعوامل التعارض، وهل يمكن تحديد حقل كل منهما ليتم بالتالي احترام حقوقه وواجبات الدين والسياسة كحقلين منفصلين.

وإذا كان الأمر قد اقتصر في الكثير من الأحيان على تفسير العقائد الدينية، التي يتعلّق بعضها بالظواهر الغيبية وتعطّش البشر الروحي للشعور بالطمأنينة الداخلية، ولا سيّما في ظل عجز الإنسان عن تفسير وحلّ الكثير من الأسئلة التي تواجهه، فبعضها الآخر يتعلق بجانبها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بالقدر الذي يمكن أن تكون جزءاً من الصراع الدائر بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة، كسياق لصيرورة وجودية لامتناهية، وبالقرب أو البعد من المُثُل والقيم التي تروّجها الأديان والفلسفات والأفكار، وخصوصاً التي تريد تأمين سعادة الإنسان ورفاهه، سواءٌ في الدنيا أو الآخرة، ولنا في تفسير هيغل للدين مثـلاً، فقد كان بالنسبة إليه يعني الرغبة في السمو الإنساني نحو الأعلى والأكمل ومن خلاله يتجسّد «الإله»، وهو ما قام فيورباخ بنقده، ومنه استمدّ ماركس رؤيته في شأن الدين‏ .

وضمن هاتين الرؤيتين؛ التاريخانية والغيبية للدين، أو المثالية والمادية، ابتدأ النقاش المثير للجدل في زمن الحداثة وما بعدها ليزداد الإشكال المتعلق بالوعي الديني، إلى أن أصبح الكلام على مقدرة الدين على مواجهة العصر وتحدّياته ينحصر في مجموعة من الدراسات والأطروحات والأفكار والمقترحات النظرية، لكيفية طرح التجديد ضمن التباس العلاقة بين النقل والعقل وبين الشريعة والزمن، أي بين الثابت والمتحرّك، أو بين القطعي الدلالة والظنّي الدلالة، أو فلنقل بين القابل للانفتاح على الفكر والعصر، وبين المغلق على النص والزمن!

من هنا كان لا بدّ من فتح ملفات التجديد والاجتهاد والحداثة لمقاربة الهواجس المشتركـة بين الديني والعلماني في زمن الحداثة‏ ، على أن يتم انتهاج أسلوب الحوار الموضوعي الهادف إلى إتمام التكامل بين الدين والدنيا، لأن المسألة لا تتعلق بقيم السماء فحسب، بل إن الإشكالية تكمن في الأرض، ويدور الصراع حول القيم والمفاهيم التي يجسّدها الدين والفكر فعـلاً لا قولاً، وارتباطاً بمفاهيم الحرية والعدالة وسعادة ورفاهة البشر.

لقد وضع هيغل مفهوماً واضحاً للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية محدّدة، معتبراً أن الحداثة بدأت مع عصر التنوير، وقال إن الحرية مكوّن عظيم الأهمية للحداثة، وأنها بمنزلة «الروح». ومرّت فكرة الحداثة بتطورات عديدة من ديكارت، صاحب «الحداثة الفلسفية» (أنا أفكر إذاً أنا موجود) إلى ماكس فيبر الذي ربطها بتطور العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية، تلك التي مهّدت لمنجزات كبرى في إطار الثورة العلمية – التقنية.

وعلى الرغم من تلقينا النصَّ الديني بكل الاحترام والتقدير، إلا أن المسافة الزمنية بين زمن النص الأول وبين زماننا الحالي، تدفعنا إلى البحث والتساؤل عمّا إذا كان الموجود بين أيدينا حالياً من معطيات وشواهد، أو الذي وصلنا، هو نفسه من «وحي» اللحظة الأولى، أو فلنقل هل العلاقة اليوم بين وعينا الفكري وتطبيق حَرفية (نصيّة) النص تؤدي إلى ذات النتيجة المطلوبة في زمن الوحي الأول والمتلقي الأول؟!

ويمكن أن نسأل بعبارة أخرى: هل المكوّنات الدلالية للنص واحدة وثابتة في كل المسافات الزمنية بموجب وحدة النص نفسه ووحدة مصدره المقدس؟ وهل ما يطرأ على الزمن من تغييرات ومستجدات أساسية وجوهرية، تفرض التقيّد بحرفية النص أو تسمح بالتغييرات؟ وإلى أي مدى يمكن التحرك لربط النص والعصر وأسلوب التلقي؟

لقد وصلنا النص الديني عبر طرق النقل البشرية من خلال الفعاليات الاجتماعية والمدارس الفقهية، وكان للعقل والوعي البشري التأثير الأول والأساس في عملية النقل والتدوين والتصنيف والانتقاء والعرض. وفي حالات كثيرة، ومن خلال مناقشة النص بالنص ذاته، نجد أن بعض العلماء قد لجأوا إلى التشدّد في التزام الحَرفية (النصّية) تغطية لهشاشة مقدرتهم المعرفية أو لضعف في مقدرتهم العقلية التي من المفروض أن تعمل على استنباط ما يتناسب مع العصر ومتغيّراته وتيسّر كل ما له علاقة بالدين بحيث يصبح مقبولاً ومنسجماً مع متطلبات عصره.

ولو أخذنا في الحسبان أنَّ قسماً غير قليل من مكوّنات الماضي قد فُقدت، إمّا لعدم تدوينها المباشر أو لاختلال في دقة النقل، كأن يُنقل جزء من الحدث لا كامله، فإن ذلك يشكّل مشكلة الوقوع في نصف الحقيقة، أو بمعنى يمكن القول: إن ما نُقل هو انطباع أو تصوّر أو تفاعل الناقل مع الحدث وعنه لا الحدث نفسه، مع احتمال أن يكون الحدث المنقول منتقصاً من مجمل معطياته وملابساته؛ ودرجة الاحتمال هنا عالية.

هذا إضافة إلى تعارض المعطيات نفسها وتناقضها، ما يعني أنَّ الحدث الماضي ذهب ولم يعد في الإمكان تمثله أو تصوّره بالكامل، كما كان لغياب أكثر أجزائه المكوّنة له ولحصول التشويش في الجزء المنقول منه، يجعله غير دقيق أو لا يفي بمتطلّبات إجلاء الحقيقة كاملة.

أضف إلى ذلك تعرّض النص الديني الشفاهي نفسه لتحوُّل نوعي في طبيعته زمن صدوره، ولا سيَّما بانتقاله من الشفاهة إلى التدوين، وهذا التحوّل لم يعد تحوّلاً شكلياً، بل ينال من نظام الاتصال وحال العلاقة لا بين المتكلم والمستمع فحسب، بل بين نص ومتلقٍّ، ما يعني أن المتلقي الأول قد انتهى إلى الأبد ولا يمكن استرجاعه، وأن مُبَلِّغ النص لم يعد حاضراً مع نصه، بل أصبح النص هو المعبّر الحصري له.

وهكذا حلّت الكتابة المدوّنة بدلاً من صوت المتكلم، الذي بلَّغ الوحي، وفقد الكلام قوة التأثير الموجودة في الخطاب الشفهي ومجمل التأثيرات المرافقة (نبرات، إيماءات، حركات جسدية معبرة…)، التي لا يمكن النص المكتوب أن ينقلها، وبالتالي فإن كل مكوّنات أو ملابسات حدث التبليغ والتلقي الأول ستكون غائبة‏ .
والتجديد لا يعني تغيير النصوص، بل يعني تغيير الفهم لتلك النصوص بما يتناسب مع الحال المعاصر. وللأسف فإن بعض علماء العصر اعتادوا ألّا ينظروا إلى النصوص الدينية إلا من خلال الفقه القديم والتراث، ولا سيّما الموروث منه كونه يمثّل القدرة على فتح مغاليق الفهم الصحيح للحاضر، وأن أي خروج عن نص الفقيه هو خروج عن الملّة. بينما المطلوب هو التدبّر والبحث عمّا يتوافق ويتناسب مع واقع اليوم، الذي أصبح مختلفاً، اختلافاً جذرياً عن واقع الأمس البعيد في زمان الفقه القديم.

إن الاجتهاد، مَلَكَة فطرية مكتسبة، تحصل للفقيه، ويُمْكِنُه – من خلالها – أن يختار من النصوص والاجتهادات ما يتلاءم مع الظروف المستحدثة، وما يتناسب مع واقع الحياة المتجدّد وما يمكن استنباطه من الأحكام والقواعد.

ثانياً: عن فكرة الإسلام دين دولة

إذا ما أخذنا مقولة أن الإسلام دين يصلح لكل زمان ومكان‏ بحسب نصّيتها وحرفيتها، بما فيها من أحكام وقواعد خضعت لزمانها وكانت تعبيراً عنه، فإن هذا يعني أن الإسلام ليس بحاجة إلى التحديث والتجديد والتناغم مع التطور العلمي والتكنولوجي والعولمة والحداثة وما بعدها؟ لعل استنتاجاً مثل هذا سيقود إلى التحجّر والصنمية والجمود، من خلال نص لا يمكن تكييفه لمتطلبات الزمن، أو إعادة قراءته بما امتلك الإنسان من تطور عقلي واكتشافات علمية!

وهكذا فإن مثل هذا الحكم سيعني إقفال باب التطوير والتجديد للفقه الإسلامي ووضع حاجز لا يمكن اختراقه بين الماضي والحاضر، في حين أن أي فكرة أو فلسفة أو دين ستكون صالحة بقدر ما يمكن تكييفها وتحديثها وعصرنتها، بما يتمشى مع تطور العصر والزمن.

وإذا ما أقرّينا بأن قواعد الدين الإجمالية هي كلّية وشاملة أي عامة ومجرّدة، فعلينا أن نبحث في الجزئيات والتفاصيل، لأن أمرها متروك للاجتهاد ومفتوح على الزمن فهي غير محصورة الحدوث في واقع واحد، وهذا ما يدعو إلى استنباط الأحدث من الاجتهاد الدائم المستمر.

وإذا كانت البشرية قد تقدّمت في شتى الميادين وخطت خطوات جادة في ميدان العلم والمعرفة والثقافة، وأضافت كمّاً هائلاً من المعلومات يزداد ارتفاعاً، بحكم المعطيات الجديدة، فإن الفقه الذي لا يواكب الزمن بما يجب عليه، سيبقى عاجزاً عن تلبية حاجات الإنسان المتطورة التي لا تتوقف، والسبب الأول هو أنه لا يتسع ليشمل المجالات المتغيّرة والمتحرّكة، أو أنه اتّسع إلى حدٍ ضئيلٍ جداً، تاركاً الكثير من المسائل المعلقة من دون جواب، أو حتى تركها متقوقعة على ذاتها في إطار الزمن الماضي. ولعل ذلك لا يلبّي الكثير من الحاجات المعاشة والمستجدات المستمرة، وهكذا ستكون آلاف الموضوعات الفردية والمجتمعية، غير خاضعة للبحث والتمحيص في بوتقة الفقه، لأنه بصراحة لا يمكنه النقاش حولها، لافتقاده الأدوات اللازمة والضرورية لذلك‏ .

وما من شك في أن الإحساس بالزمن وخوض غمار الواقع وتحدياته على مستوى الأفكار والعلوم من موقع الإيمان بفريضة النقد الذاتي والمراجعة الفكرية، بهدف المواءمة لروح العصر الاجتماعية، سيضع العقل السكوني أمام تحدّيين أساسيين: الأول يتعلق بتحديد الهدف من أي اجتهاد أو تجديد، الأمر الذي يستلزم أن تكون له الأولوية في البحث والاستنباط، وبما أن النص القرآني هو نص مفتوح على الزمان والمكان، فإنه يحرّك العقل باستمرار نحو قراءة الواقع بحثاً عن حياة إنسانية أفضل، ولعل الأفضل دوماً هو ما استجدّ من الحداثة والعصرية.

أمّا التحدي الثاني، فهو اختيار الوسائل المناسبة للتجديد في إطار رحب من الاجتهاد والحرية، من دون وصاية مسبقة أو تابوهات ومحرّمات، باستثناء ما يتعلّق بثوابت الدين وقيمة الإنسانية كما يقال.

إن الإسلام، بحسب المفهوم القرآني، وإن استمدّ قوانينه وتشريعاته من الوحي وبيّناته المثبتة في الكتاب، إلا أن مقوماته الموضوعية تتصل بالشرط الإنساني، أي بآليات التطبيق الفعلي الذي يغدو مع الزمن جزءاً من التاريخ؛ وإلى أن يتخلص العقل الديني من موروثات التفسير الحرفي (النصّي) المغلق للكتاب، فإن الحداثة ستظل غير قادرة على الانتقال من حافة الزمن إلى حيث يجب، أي عمقه وجوهره، وهكذا تبقى أسيرة قوالب وصيغ جاهزة وجامدة لمناهج التفكير، وتدريجاً تنقطع عن الحياة، كلما انقطعت وشائج الصلة بينها وبين العالم المتغير وعلومه وتقنياته السريعة والملهمة.

هناك حواجز فقهية ومعرفية اصطنعها بعض المجتهدين تحتاج اليوم إلى إعادة النظر في مبانيها ومسوّغاتها وصلاحياتها، فهي وضعت في زمان غير زماننا. وكَيلا تستمر فتاوى المعاملات على الأقل في استهلاك القديم واجتراره ضمن أطر تجاوزتها الأيام فلا بدّ من ضرورة البحث عن أدوات جديدة متطوّرة في أصول جديدة تساعد على تطوير نظام الاستدلال بوسائل عصرية، لأنّ إهمالها يخالف منطق العقل والتاريخ ويحول دون تحقيق غاية الدين من هداية الإنسان التي هي أقوم. وإذا أردنا العودة إلى الإمام علي في هذا الشأن فقد جاء على ذكر ذلك بقوله: «لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»‏ ، ولعل في ذلك إدراك عميق ومبكّر لأهمية تساوق الدين مع واقع التطور والحياة المتغيّرة.

كما يجب التشديد على ضرورة تبادل الآراء والاطلاع على ما استجدّ من تطورات ومتغيّرات، وخصوصاً أننا نعيش في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات والمعلومات، ولا سيّما ما يتعلق بالطفرة الرقمية (الديجيتل)، وبكل ما له علاقة بالثورة العلمية – التقنية السيبرنيطيقية.

ولعلّ التطورات التي حصلت خلال العقود الخمسة ونيّف الماضية، تكاد تزيد بعشرات ومئات المرّات عن التطورات العالمية على مدى خمسة قرون أو ما يزيد، بل لكل ما أنجبته البشرية في تاريخها، وهو الذي يدفع ويساعد على الاجتهاد استناداً إلى قول الرسول (ﷺ): «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، أي هناك حرية للخطأ، والخطأ مع الاجتهاد، حق مسموح ويمكن أن يعطي صاحبه أجراً، لطالما حاول وسعى للاجتهاد وأخطأ فيه.

هكذا يصبح مبدأ اختلاف الآراء والأفكار، أحد العوامل الأساسية في الوصول حيث يريد الفكر من التلاقح والتفاعل، سواءٌ على المستويات النظرية أو العلمية وفي الحقول العملية والاجتماعية كافة، وعلى الرغم من أهمية الاجتهاد الشخصي ودور الفرد في التاريخ. فإن الأعمال الكبرى تحتاج إلى عمل جماعي وطاقات منتجة تصبّ بعضها مع بعض لإحداث التغيير المنشود، وحسب رأي الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، أي إعطاء فسحة للعقل وللتفكير والاجتهاد.

لا تكمن المأساة في استنادها إلى النص، بل في منهجية انحباس قراءة النص ودلالاته قراءة أحادية، وضمن ظواهر التأثيم والتحريم والتجريم، وأحياناً دون معرفة كافية، ولا سيّما بعلوم العصر، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى ويبعث على التشاؤم والقنوط، بل والعزلة، وخصوصاً إذا كانت الأحكام تتعارض مع المعطيات العلمية، لما أنجزه العقل البشري، وهذا الأخير «نعمة ربانية» لا بدّ من استثمارها على أحسن وجه، إذْ إن أي محاولة لاغتيال العقل أو اعتقاله ستلغي إمكان الحوار بين المقاربات المختلفة لنشاط الفكر الإنساني، بل ستعمل على تعميق الاختلاف المصطنع بين العلم والدين، اللذين سيبدوان في تناقض لا يمكن الجمع بينهما.

ثالثاً: فكر اللغة ولغة الفكر

يجب أن ينطلق التجديد الديني من وقفة صحيحة على قنوات الإنتاج المعرفي والثقافي لتفسير النصوص مع الأخذ في الحسبان، أن لكل عصر من عصور «الفكر الديني» أساليبه في استخدام «النص الإلهي» تحت شعار «حاكمية» هذا النص على الواقع، وتتم قراءته أحياناً بطريقة متعسّفة أو إرادوية تبعاً لخلفيات المرجع القارئ. كما أن دور القراءة لا ينبغي أن يكون استعادة ما نقله السلف، بقدر ربط ذلك بالواقع من خلال نقده بما يستجيب لجوهر الدين وقيمه الإنسانية، ولا سيّما في محاربة الاستغلال والظلم والدعوة للحق والعدل والكرامة الإنسانية.

ولأن الفكر الديني عند بعض المتكلمين باسم الدين يقوم على «فكر اللغة» وليس على «لغة الفكر»، فقد وقع أحياناً بالماضوية والجمود، ولأنه يستند عند بعضهم إلى مرجعية «التفسير التاريخي للنص»، فقد اتُّهم بتصدير المشكلات التاريخية على واقع لا يتحمّل شيئاً من مسؤولية تلك المشكلات إلّا بمقدار إهماله في أن يجد لها حـلاً ليتسنى له تجديد وعيه بالدين على قاعدة: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون﴾‏ .
وإذا كان التقديس يشمل الشروحات والتفاسير الأحادية، فإن ذلك يُعدّ من عوامل جمود الفكر الديني، ولتجديده يجب أن يواجه تحدّيات الاختبار بدءاً من إشكال المنهج ومن إشكال تجديد شخصية الفقيه المفتوح على تجديد أصول الفقه الإسلامي ومبانيه، ليتمكن بالتالي الإطلاع على علوم العصر بحيث يكون قادراً على الإجابة عن الأسئلة الشائكة والمعقدة لواقعنا المعاصر.

وأياً تكن درجة التشابه بين مشكلاتنا ومشكلات السلف الصالح، فإن المنهج الصحيح في حلّها هو أن نضيء فهمنا نحن للنص الأول حتى ولو كان متعارضاً أو متناقضاً مع فهم من سبقنا من الفقهاء؛ فثمة فارق جوهري بين أن نبحث عن حلول لمشكلاتنا الراهنة في كتب السلف الصالح الذي أثرى فكره وعصره بتجربته العلمية في قراءة النص، وبين أن نصبّ عقولنا وفاعليتنا الفكرية على المشكلات التي تعترضنا لنجد لها الحل من واقعنا وزماننا مراعين ألّا تجيء نتائجنا الفكرية متعارضة مع تطورات الحياة ومتغيّراتها، وليس في هذا النموذج من معنى تجديد الفكر الإسلامي ما يجافي دعوة القرآن الكريم إلى الانحياز إلى الأحسن والأكمل والأجمل من الأفكار والأقوال والأعمال.

وأقول إنّي أرى أن الدعوة إلى التجديد تتكامل مع الدعوة إلى العلم والتعلّم، وما هي إلّا بحث عن الأجمل والأكمل والأحسن، ولا أعتقد بأن أحداً ما يمكنه الوصول إلى أعماق مفهوم القرآن بعيداً من التدبّر والتفكّر من أجل تجديد الوعي بالنصوص المدوّنة، وقد تم تأكيد الدعوة إلى إعمال العقل واحتكام الإنسان إليه في تدبّر أمور دينه ودنياه.

ومن الجدير بالذكر أن هناك بعض الكوابح من داخل وخارج الفكر الإسلامي تعوق إرادة التجديد، منها:

1 – عدم القناعة بالتجديد والاستكانة لما هو قائم من فكر تقليدي متوارث ومستنسخ، وذلك لا يعني سوى النقل لما هو متعارف عليه ومتداول، فالجديد قد يكون غريباً، وكل غريب مريب.

2 – انخفاض درجة الوعي بأهمية التجديد وعدم الشعور بالحاجة إليه، ناهيك بعدم القدرة على تحمّل مشاق البحث والتدقيق واستنباط الأحكام بما يستجيب للزمن الراهن.

3 – الخشية من الانفتاح على الآخر، بحجة الحفاظ على العقيدة ونقاوتها ومنع اختلاطها بعقائد أخرى، وكذلك الخوف من «العامة» الذين استمروا على الفكر السائد واعتادوا تقليد ما قبلهم، وبالتالي قد يمكنهم الإعراض عن المجددين أو اتهامهم بالبدع وما شابه ذلك.

4 – تعارض التجديد مع المصالح والامتيازات التي يحصل عليها بعض رجال الدين باسم الدين. وهذه المصالح والامتيازات قائمة ومستمرة، بل ومزدهرة، حتى وإن اتخذت لبوساً طائفياً أو مذهبياً‏ .

ولعل مثل هذا الأمر يؤدي إلى التقوقع والانغلاق والنظر إلى الآخر بوصفه «عدواً»، الأمر الذي قد يؤدي إلى حجب روح التجديد بحجة الثقافة الغازية أو «الغزو الثقافي»، وهنا نستحضر الصورة النمطية منظوراً إليها عكسياً، فبقدر الإسلاموفوبيا‏ أو (الرهاب من الإسلام) وهي النظرة السائدة في الغرب للنظر إلى الإسلام، بوصفه ديناً يحض على الكراهية والعنف والإرهاب، هناك الويستوفوبيا (الغربوفوبيا)، أي النظر بعدائية إلى كل ما هو قادم من الغرب بوصفه شراً مطلقاً.
وإذا كان الغرب السياسي بفلسفاته وأنظمته يستهدف فرض الاستتباع على المسلمين والإسلام وكبح جماح تنمية شعوب العالم الثالث ومنعها من تمثّل هويّاتها الثقافية، فإن الغرب في الوقت نفسه مستودع للعلم والتكنولوجيا ولخير ما أنجبته البشرية من أدب وفن وجمال وعمران، بما فيه تأييد بعض حقوقنا العادلة والمشروعة، ولا سيما من جانب بعض الأوساط في الغرب الثقافي‏ .

لقد جرى تشويه صورة العرب والمسلمين على نحو صارخ، ولا سيّما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، بحجة أن بؤرة الإرهاب والعنف تكمن في الإسلام ذاته كدين. وتم اختزال تلك الصورة لتنطبق على أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وغيرهم ممن انخرط في تنظيمات القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الربيبة، أما الإسلام بصورته الاعتيادية، فهو أمْيَل إلى الاعتدال والتسامح؛ وللأسف، فقد اختلطت صورته والتبست قيمه عبر تنظيرات أيديولوجية بعضها مغرض مع سبق الإصرار، وبعضها ساذج وهو ما نطلق عليه «الإسلاملوجيا»‏ أي «الإسلام ضد الإسلام»، وهي محاولات لا تقلّ خواءً عن الافتراضات المسبقة، لكنها أشد خطراً من السابق، حيث تتم محاولة إلصاق كل ما هو عنفي وقاسٍ وإرهابي بالإسلام.

ومع تغيّر شكل ووجهة الصراع الأيديولوجي في أواخر الثمانينيات نشط فرانسيس فوكوياما لتقديم نظريته «نهاية التاريخ» عام 1989‏ متخذاً من الإسلام عدوّاً جديداً بعد انهيار الشيوعية، ثم جاء دور نظرية «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»‏ التي روّج لها صموئيل هنتنغتون منذ العام 1993، والتي تجسّدت في بيان المثقفين الأمريكان الستين بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر والذي كان أقرب إلى البيان الحربي منه إلى إعلان ثقافي، على الرغم من دعوته إلى الحوار، لكن الأجواء التي سادت كانت كلها تشجع على التهميش والاستئصال، وهو ما جرى التعبير عنه خلال الحرب العالمية ضد الإرهاب الدولي، التي وجدت ضالّتها في احتلال أفغانستان عام 2001 واحتلال العراق عام 2003، وما صاحب ذلك من أعمال إرهاب وعنف منفلتة من عقالها وفي تعارض مع القواعد القانونية والإنسانية الدولية.

وقد جرت عدة محاولات لأبلسة الإسلام وصيغت نظريات جعلت الصراع بين الأديان، وبوجه خاص مع المسلمين والإسلام، أمراً لا مفرّ منه، ولا سيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، فكان لا بدّ من البحث عن عدوّ، وإن لم يجدوه، فلا بدّ من تصنيعه، فما بالك حين يأتي بعض المتأسلمين ليقدّموا الذرائع لهم، وخصوصاً بما يقومون به من أعمال إرهابية هي ضد الإسلام والمسلمين أساساً قبل أن تكون ضد الآخرين.

ولولا الأزمة العالمية الاقتصادية والمالية التي عصفت بالولايات المتحدة وبالنظام الرأسمالي العالمي وانهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين كبرى وانخفاض سعر الدولار بوجه خاص لكانت الحملة المعنونة «القضاء على محور الشر» قد أصابت بلداناً أخرى كانت على لائحة التنفيذ.

ولعل الوجه الآخر لهذه الحملة كانت «إسرائيل» بحربها التي دامت 33 يوماً ضد لبنان تحديداً، عام 2006 ومن ثم حروبها على غزة؛ الأولى – التي دامت 22 يوماً في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 أطلق عليها اسم عمود السحاب. بعد حصار مفتوح وهو ما بشرت به كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة حين وعدت بقيام شرق أوسط جديد ولم يكفها الحديث عن شرق أوسط كبير، ولكن صمود الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني فوّت على واشنطن وحليفتها فرصة استكمال مخططاتها العدوانية. والثانية – عملية الرصاص المصبوب في العام 2012، أما الثالثة – فهي عملية الجرف الصامد في العام 2014.

وتستغل هذه التوجهات بعض أعمال العنف والتزمّت والتعصّب والغلوّ التي تتم باسم الإسلام وتريد إعادة الزمن إلى الوراء، أي إلى ما يزيد على 1400 سنة إلى الخلف، وتكفير وتأثيم وتجريم كل ما يعاكس نظرتها، وترفض أي تساوق مع التحديث والتجديد والمعاصرة، وهو ما ينبغي التوقف عنده ودراسته بعمق، لأن تلك الصورة النمطية المشوّهة التي لا تزال معلقة بذاكرة الغرب السياسي من غزوات الفرنجة الأولى، وحتى احتلال العراق، المفتوح على احتلال الهويّة والثقافة والدين والمستقبل، لا ينبغي لها أن تكون مبرّراً لحجب الفكر الديني في إطار ضيِّق والعيش مع الماضي والإبحار في التاريخ ونصوصه، من دون رؤية الحاضر واستشراف المستقبل، بعقل منفتح وفكر يقبل الآخر، ويتعامل معه على أساس المساواة والحقوق والعدالة، وهو ما يفترض أن يتم التمسك به لنا وله، ومن خلال التناظر والتباين وعلى أساس المشترك الإنساني، الذي يفترض التحرك من قاعدة واحدة أو من قواعد مختلفة، ولكن لأهداف واحدة أو موحّدة، مع احترام الخصوصيات والهويّات والتمايزات، ولكن في إطار عالم يستجيب للحداثة ومتطلباتها بحيث يتساوق الفكر الديني معها لخدمة الإنسان وسعادته ورفاهه.

(*) في الأصل ورقة قدمت إلى: ندوة «الإسلام السياسي بين المعارضة الاحتجاجية وتحمّل مسؤولية الحكم»، منتدى الجاحظ – تونس، بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 2016.

مجلة المستقبل العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى