«نبّاشون» سوريون … وسط الخراب (محمد برادة)

 

محمد برادة

قد يبدو غريباً، للوهلة الاولى، أنْ تَمِيلَ روايةُ «النبّاشون» (دار الآداب) للكاتبة السورية سوسن جميل حسن، إلى نوع من التباعُد عن الظرفية الساخنة المتصلة بانتفاضة شعبها ضدّ نظام كاتم للأنفاس، لتنسج محكياتٍ عن فئات مهمشة نشأت على أطراف مدينة اللاذقية، حيث أصوات البشر تُجاورُ أصوات الحمير والبغال وتتبادل الصدى في مناخ يجمع بين الواقعي والفانتاستيكي. إلا أن الانتباه إلى بناء الرواية، الأقرب ما يكون إلى الأليغوريا، يلفتُ النظر إلى قصدية هذا التباعد، الرامي إلى البحث عُمْقياً عن أسباب هذا الاختلال في تهميش فئات واسعة، وتشييء المرأة، واستغلال الدين لغير ما وُجد من أجله.
ولكيْ تستقيم القراءة التي أقترحها، أبادر إلى القول إن الشكل الأليغوري الذي تتزيّا به رواية «النباشون» لا يندرج ضمن المفهوم المرتبط باستعمالاتها في القرون الوسطى، وبخاصة في القرن الثالث عشر، حيث كانت الأليغوريا تقوم على الترميز والتشابه لتأويل النصوص الدينية وتجسيد الأفكار والمواعظ، وإنما أقصد الشكل الأليغوري كما أعاد تحديده والتر بنيامين (1892-1940)، الذي جعل من العلائق، لا من التشابُه، أساساً للتعامل مع العالم الخارجي، للمزاوجة بين الصورة والفكرة، من دون ربط الواقع في الأليغوريا بالتاريخ. على هذا النحو، جعل بنيامين من الأليغوريا فضاءً للجدلية الصاخبة يتمُّ داخله الهدمُ والبناء وتنبثق فيه دلالات جديدة…
قد لا تكون «النباشون» مُتطابقة تماماً مع تصوّر بنيامين للأليغوريا، لأنه يَقرنُها بالكتابة ذات النّفَس الشعري، التي لا تتوخى لغتُها التواصل وحسب… لكن «النباشون» تلتقي معه في تقليص البُعد التاريخي واستحضار الطبيعة في معناها الشمولي، وإدارة الجدلية من خلال سلوك ذوي المال ومُستغلي الدين وتحكمهم في رقاب الناس، وتشخيص انهيار حيوات المهمشين وإصابتهم بالجنون… كل ذلك يضعنا أمام شكلٍ أليغوري لا يكتفي بالرمز، بل يعتمد مبدأ الجدلية بين الشخوص، ويستنطق الصورة والتفاصيل بدَلاً من المفاهيم.
في هذه الرواية، يحتلّ «جمعة» النبّاش وحماره أبو طافش مكاناً بارزاً، لأن السرد بضمير الغائب يجعلهما مركزاً للتبئير وعاملاً مُحركاً للأفعال والحبكة.
وَرِثَ جمعة عن أبيه حرفة جمْع الزبالة من قمامات المدينة، يصاحبه حمارُه أبو طافش، الذي يبادله الحديث ويفضي إليه بهمومه وأحزانه. وما يسعفه على ممارسة هذا العمل الشاق، هو حبه لابنة الجيران «جميلة»، التي وعدها ببناء منزل لائق قبل التقدم لخِطبتها من والدها حمّود العتّال. والفضاء الذي يسكنه جمعة وعائلة جميلة وآخرون هو فضاء ليس له امتدادات في الماضي ولا يعطي لساكنيه هوية تميّزهم. والحمار أبو طافش هو أيضاً يحس بالغربة والامتهان لمزاولته حرفة تبعده عن الطبيعة والتواصل مع العشيرة، غير أن ذاكرته تمنحه قوة للاستمرار، «صحيح أنني لم أعش في البرية منذ زمن طويل، من آلاف السنين، لما كنا نحن الحمير نعيش بأمان الله بعيداً من عيونكم، أيامَ الهناء والأمان، لكن نحن ُغيْركُم، ذاكرتنا لا تموت ولا تتبدّل. مثلما ورثتُ هذه الذاكرة عن أبي وأمي سأورثها لأولادي…» ص 15. في مقابل مجتمع الحمير والبغال المتماسك، المحافظ على ذاكرته ووحدته، يبدو مجتمع البشر الذي ينتمي إليه جمعة معرضاً للتفاوت والنفاق وسطوة الجنس والدين. يتجلى ذلك أساساً من سلوك حمود والد جميلة، الذي يستولي عليه الشبَق الجنسي، فلا يكتفي بزوجته دنورة أمّ الأولاد، بل يتردد على «البيت المستور» لإطفاء شهوته الجموح، مهملاً حاجات أسرته، معرضاً نفسه للهوان، متقمصاً أيضاً دور رجل الدين للحصول على مال يُنفقه في سوق الملذات، وهذا السلوك يجعله قريباً من الشيخ يحيى إمام المسجد، الطامع في أن يتزوج ابنته جميلة، حبيبة جمعة، التي طال انتظارها فقررت الالتحاق بمعمل فرْز أوراق الدخان، إلا أنها تعرضتْ في المعمل للتحرُّش الجنسي، وأراد أبوها أن يفرض عليها الزواج من الشيخ حمود، فأصابها الاكتئاب ثم سُرعانَ ما انزلقت نحو الجنون. بدوْره جمعة عثر أثناء النبْش في حاويات الزبالة على رسالة مجهولة قادتْهُ إلى بيت دلال الفتاة الموسرة التي تسكن وحدها في فيلا فخمة، فوجدتْ فيه الشخص الذي يطفئ عطشها بعد أن طال انتظارها لزواج لم يأت، فأرغمته على مضاجعتها من دون أن تعرف اسمه أو يعرف هو مَنْ هي… أما الحمار أبو طافش، فبعد أن لاحظ ما آلت إليه حال جمعة وأهل المدينة، وبعد تبادُل الرأي مع عشيرته من الحمير والبغال، قرروا النزوح عن المدينة والعودة إلى براري الطبيعة، بعيداً من لعنة الفوضى والجنون!
تشييء المرأة
بناءُ الرواية على هذا النحو المُركب، من الوصف الواقعي وحضور أصوات الحيوانات وتداخُل المحكيات في تأثير متبادل وأفق الجنون، الذي يبدو النهاية الوحيدة الممكنة لسكّان المدينة من النبّاشين، هي العناصر التي تضفي على هذه الرواية غلالة أليغورية تخييلية تنطوي على رؤية للعالم، وتستجيب لجدلية العلائق ولا تقتصر على أن تكون ترميزاً لصراع بين الأهواء والنزوات، بين الخير والشرّ. ولأن بناء الرواية هو على هذا النحو، فإنه يميل إلى التجريد، إذ لا يتقيّد بفترة تاريخية محددة، ويكتفي بالإشارة مرة واحدة إلى مدينة اللاذقية، ويتجنب «تمثيل» الأبعاد السياسية المُتحكّمة، وعناصر القوّى الرافضة، ومن ثمّ غدتْ الشخصيات أقرب ما تكون إلى رموز لآفاتٍ وسلوكات تكمن وراء تدهور المدينة وانفجارها. غير أن محكيات النص تنطوي على أسئلة مبثوثة في الثنايا، مثل: ما سرُّ التفاوُت بين الناس؟ ما الذي يقود الحياة والعلائق إلى التدهوُر داخل المجتمع؟ وإذا كنا لا نعثر على إجابات كُليّة على هذه الأسئلة، فإننا نجدُ عنصريْن اثنيْن، على الأقل، يحيلان إلى إشكاليتيْن بارزتيْن: تتصل الأولى بتشييء المرأة، من خلال وضعية كل من الأم دنورة، التي يعتبرها زوجها مجرد جسد لمتعته الجنسية، والتحرش الذي تتعرض له جميلة في المعمل فترفضه، بينما تستجيب له منال، ثم رد فعل دلال البورجوازية على تعذر زواجها من رجل يليق بالأسرة وقبولها بممارسة الجنس مع جمعة من دون حب… وتتجلى المسألة الثانية في استغلال الدين من أجل تحقيق أغراض شخصية على نحو ما يجسده سلوك كلّ من الشيخ يحيى وحمّود العتال، ذلك أن الدين عندهما يتحول إلى وسيلة لخداع الناس والتستّر على الأخطاء والازدواجية… من هذه الزاوية، يتضح أن الكاتبة لا تتقصّدُ التفسير التاريخي أو السياسي لاختلال المجتمع، وإنما هي تسعى إلى تحديد أسباب جوهرية تعلو على السياق الملموس، المحدود في فترةٍ زمنية. يُقوّي هذا الانطباع أن الرواية لا تشتمل على وعي مُضادّ يقاوم الاختلال والقهر والتفاوت، وبدلاً من ذلك نجد أفق الجنون الذي يلفّ جميلة ومعها جمعة، الذي ينتبه بعد فوات الأوان إلى انهيار حلمه البسيط، «… وهو الآن يقف مخبولاً، يكاد لا يتعرف على نفسه، يشلُّه العجز الهائل المقيم في أعماقه. ما الذي يمكن فعله أمام حلم تحوّل في لحظة خاطفة إلى كابوسٍ واقعي؟ هل هي المرة الأولى التي ينتبه فيها إلى الواقع في حياته؟ أم أن الحياة تغيّرتْ فغيّرت الواقع معها؟» ص 296. وعلى عكس غياب الوعي وعدم الانتباه إلى تحولات العالم عند جمعة، نجد أن أبو طافش وعشيرته من الحمير والبغال متنبهون إلى الأزمة ومصممون على مغادرة المدينة قبل أن يُغرقها الطوفان، «… أما معشر الحمير والبغال، فمن طبيعة أخرى، لا تغويهم الأمور التي تغوي البشر، ولا يسعون إلى امتلاك ما لا يحتاجونه في حياتهم (…) وقال له بغْلُ برهوم: يعني نحن ماذا نريد يا عمّ غير أن تكون حياتنا بأيدينا نعيشها مثل ما يحلو لنا، وليس مثل ما يرسمها هؤلاء البنو آدم الذين يحسبون كل شيء على أساس ما تتطلبُ مصلحتهم؟» ص285. وتأتي خاتمة الأليغوريا حاملة لمشهدٍ لا يخلو من السخرية والدلالة في آن، ذلك أن حمير المدينة وبغالها قررت الرحيل بقيادة امرأة تشبه جِنيّة قد تكون هي جميلة التي فقدت عقلها ونزحت بعيداً من المدينة، «… والسؤال الوحيد يلوب على الألسنة والوجوه: أين ذهبوا؟ من قام بهذا الفعل الخائن؟ والكلّ يتهم أحد الرجال الذي كان يحلف الأيمان الغليظة ولا أحد يصدقه، بأنه رأى بينما كان عائداً ليلاً من سهرته في بيت أحد أقربائه على بُعْد خمسة كيلومترات من حيِّهم، رأى قطيعاً منطلقاً على الطريق المحاذي للبحر، كله حمير وبغال، وأن جنيّة منبوشة الشعر تركض معهم، وتصرخ بأصوات غريبة.
في ضوء هذه القراءة، تبدو رواية «النبّاشون»، على رغم تباعُدها عن الأحداث الراهنة التي تُخلخلُ سوريا، مُلامِسة ً لها من منظور مُغاير يتوخى الغوْصَ في ما وراء العابر. من ثمّ يمكن القول إن استيحاء الأحداث الكبرى لا يتمّ فقط من خلال الاستحضار المُباشر، بل يتحقق أيضاً عبْرَ التباعُد والترميز وتمثيل العلائق الكامنة وراء تشويه الوجود البشري ووراء تحطيم أحلام المواطنين. وهو ما سعَتْ إليه سوسن حسن في هذه الرواية المُتدثرة بغلائل الأليغوريا والمُتوسّلة بلُغةٍ مُعبرة ودقيقة تستوعب أصواتاً آدمية وأخرى تنطق بلسان الحمير والبغال. وهذه العناصر جميعها خففتْ من حدّة واقعية السرد، وأضفتْ على النصّ مسحة غرائبية جاذبة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى