أمين ألبرت الريحاني شاعراً وناقداً ومثقفاً شمولياً (زهيدة درويش جبور)

 

زهيدة درويش جبور

حين بادرت الى تقليب صفحات كتاب «أمين ألبرت الريحاني في ميزان النقد الأدبي»، الصادر عن جامعة سيدة اللويزة، تملّكني بعض من الشكوك والمخاوف. فما الذي يقال بعد كل ما دبّجته أقلام كتاب ونقاد وأدباء اجتمعوا في كتاب واحد هو في الواقع رصد لمسيرة إبداعية وفكرية تمتد على ما ينوف عن أربعة عقود؟ إنه العمر بين دفتي كتاب، بل هي جولة أفق في عالم أمين ألبرت الريحاني الفسيح. فأمين الريحاني الثاني – ولكل امرئ من اسمه نصيب – ليس فقط أميناً على إرث عمه الأديب والسياسي المحنّك والرحالة الذي زرع لبنان في قلب كل قارئ حصيف، بل هو أيضاً المثقف الشمولي الأصيل، والناقد الثاقب الرؤيا، والمفكر المتأمل في مسائل الوجود، والشاعر المرهف الإحساس حين يسكب قلبه حبراً على الورق. ينطبق عليه ذلك التعريف للمثقف الذي أطلقه المفكر الفرنسي باسكال في القرن السابع عشر والذي عاد اليوم ليفرض نفسه من جديد في عصر تتداخل فيه العلوم والاختصاصات ويكمل بعضها بعضاً. فالمثقف هو الذي يأخذ من كل علم بطرف أو هو كما وصفه فيليب آرياس في منتصف القرن الماضي: «المفكر الفضولي، الواسع الاطلاع، وصاحب الذوق الرفيع». نعم يبدو أن الكتّاب والنقاد الذين نسافر معهم عبر هذا الكتاب الى عوالم أمين الريحاني قد أجمعوا على أن الرجل يتمتع بهذه الصفات التي تجعل منه مثقفاً ومفكراً بامتياز، أغنى الأدب والنقد والثقافة العربية بنتاج نجح الكتاب الذي بين أيدينا في توثيقه بحيث يمكن اعتباره بحق بيبليوغرافيا شاملة توفر على الباحثين والطلاب الجامعيين الكثير من الجهد والعناء والوقت، إذ تقدم لهم في مؤلف واحد كل ما كتب من مقالات نقدية وأوراق بحثية في أعمال أمين الريحاني الأدبية المتنوعة.
بدأت رحلة الريحاني في دنيا الكلمات شعرياً مع «لمع مشرقية» عام 1966 وظل الشعر يراوده ولو بشكل متقطع على مدى السنوات، وربما كان يعود إليه كلما شعر بالحاجة الى استعادة العفوية والطراوة والإحساس بالحرية، وهي متع قد يزهد فيها الناقد التزاماً بضوابط التحليل الأكاديمي والدراسة الموضوعية. مما يخولنا القول إننا هنا في صدد تكامل واضح بين الكتابة الإبداعية والكتابة النقدية كأنهما في لعبة «مرايا متعاكسة» وهي عبارة عنون بها المؤلف كتابه الثاني في النقد الأدبي الذي يضم مجموعة من المقالات. ولأن الشعر لغة الحرية، لم يلتزم الريحاني مدرسة شعرية واحدة، فقد كتب قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة، ولقح بالشعر النثر، لأن الشعر يولد حيث يشاء ولا يحدد بشكل. تلك قناعة أعلنها الريحاني منذ ديوانه الأول الذي يغتني بأخصب المعاني الشعرية لأن صاحبه كما جاء في مقالة أحد النقاد «قناص ماهر في اصطياد المعاني والخواطر والخلجات»، بل هو ذلك «الرامي الأعمى»، عبارة أطلقها صلاح ستيتيه ليعرف الشاعر – كل شاعر – يغامر في غابات المعنى المعتمة ولا مرشد له سوى ذلك المصباح الذي يوقد زيته من اشتعال الذات في أتون التجربة. هكذا تصبح الخطوات على الورق أشبه بالحج إلى المطلق كما ورد في مقالة لشوقي أبي شقرا، وهو الكبير في دنيا الشعر – الذي لفت كذلك الى الاهتمام الذي يوليه الريحاني لبنية القصيدة بحيث «تلتف كلماتها بعضها على بعض في مثل الصوف الذي نخلق به كنزة جيدة»، ويأتي بنيانها متراصاً وتتماسك أجزاؤها في وحدة عضوية.
ينأى الريحاني عن السهولة ويعرض عن الكتابة البوحية مدركاً أن شجرة الشعر وإن كانت تتغذى بما يعتمل في النفس من أحاسيس ومشاعر، إلا أنها لا تعطي ثمارها الذهبية إحساساً بالجمال وابتداعاً لعالم بكر، إلا بعد تحويل هذا النسغ الى سائل متلألئ بالضوء. مما يتطلب الصبر والتعب ومكابدة عناء «الحفر في صخر الكلمات» ليتفجر منه الماء المحيي. لكننا نستدرك بالقول إن لكل قصيدة لغتها التي تتناسب مع لحظة شعرية خاصة تملي صورها وإيقاعاتها التي تتطور على إيقاع التجربة. وتلك توغّل في الذات الفردية وإصغاء لما يساورها من أسئلة ومخاوف وقلق وإحساس بالمأساة وصولاً الى التعبير عن جوهر الذات الإنسانية، فتصبح الأنا هي نفسها النحن. ألم يقل الشاعر الفرنسي: «عندما أحدثكم عن ذاتي فأنا أحدثكم عن ذواتكم»، ويوافقه الريحاني مؤكداً: «إن صدق التجربة يجعلك تكتب من الذات وإليها، وكلما توغلت في الذات باتت الكتابة الشعرية متوجهة الى الآخرين». تحضرني هنا أبيات من قصيدة «موكب» لغيوم أبولينير يصف فيها رحلته في عتمة الذات المتشظية المسكونة بالحزن ليكتشف من ثم ذاته الجديدة وهي تولد في القصيدة مختزنة تجارب البشر كلهم:
«كل هؤلاء الذين ظهروا فجأة ولم يكونوا أناي / حملوا إلي واحداً واحداً / أجزاء ذاتي المتشظية / بنوني رويداً رويداً / كما يشيّد البرج العالي/ الشعوب تراكمت وظهرت أنا / وقد كونتني الأجساد كلها/
وكل ما في الحياة البشرية».
يلامس الريحاني القلوب في دواوينه التي تتنوع موضوعاتها، فقد أنشد الحب والمرأة، وغنّى الوطن في قصائد تكشف عن تجذر في الأرض وانتماء أصيل الى التراث الثقافي المشرقي. لكنه لا يخفي ثورته على الجمود الذي تعاني منه الثقافة العربية، ويعلن غضبه كما فعل من قبل أدونيس في «أغاني مهيار الدمشقي» وفي «مرثية الغبار»، فيقول: «أزيل غشاوات الرؤى القديمة / أكتشف السراب أمطره بكبريت ونار…/ وأنفض عن غدي الغبار / لأخترق بعيني سنيناً آتية / تشتاق إلى أساطير فتية».
هذا الطموح الى التغيير والى التجديد الواعي للثقافة العربية من دون قطيعة مع التراث، بل على العكس مع استلهامه وإعادة اكتشافه من خلال مقاربات تعتمد المنهج المقارن، يتجلى في كتابات الريحاني النقدية التي شملت مختلف مراحل الأدب والثقافة العربية منذ ما قبل الإسلام وصولاً الى العصر الحالي مروراً بالحضارة الإسلامية وعصر النهضة. وقد ساعده اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية والأنكلوساكسونية بشكل خاص، ومعرفته الوثيقة بمصادر الثقافة العربية، من جهة، واعتماده في النقد منهجاً استقرائياً لا يفرض على المادة المعالجة قيوداً من خارجها، بل يطور المقاربات تبعاً لخصوصيات هذه المادة ومقتضايتها، فجمع بين المرونة والتمسك بالقواعد، وبين التحليل الموضوعي والذاتية التي يحتّمها كل تذوق للنصوص الأدبية. فالناقد البارع هو الذي ينفذ الى ما تكتنزه النصوص من أبعاد خفية، وهذا ما لا يتوافر له إلا إذا مارس النقد بكليته، أي بالفكر، والإحساس، والمخيلة، والثقافة والمعرفة. هذا النوع من الكتابات النقدية يصبح كتابة إبداعية بحد ذاته. وقد ارتقى النقد كما مارسه الريحاني الى هذه المرتبة، كيف لا وهو الذي يضع على نفسه شروطاً قاسية حيث يقول: «أنا كناقد أدبي مطلوب مني أن أختبر مواطن الإبداع العربي قديماً وحديثاً وفي شتى الأغراض الإبداعية، كما هو مطلوب مني أن أختبر وأعرف مواطن الإبداع لدى كل الشعوب لأتمكن من المقارنة». لكن الريحاني لم يكتف بالنقد الأدبي بل جاوزه الى طرح مسألة تحديث اللغة العربية وعصرنتها متسائلاً: «لماذا لم يقم عرب القرن العشرين بما قام به عرب القرن العاشر على الصعيد اللغوي؟» إن هاجس التحديث هذا هو الذي دفعه الى وضع كتابه «لغات عربية» حيث يطرح مسألة شائكة ويجري عملية مسح علمي على اللهجات العربية ومناطقها وأقاليمها والبيئات التي نشأت فيها مُركزاً على اللهجات الرئيسة وأهمها لغة تميم ولغة الحجاز ولغة هذيل. كأني به يعود الى الأصول والينابيع ليجد إجابة عن سؤال العلاقة بين الفصحى والعامية.
لن نبالغ إن قلنا إن الريحاني لم يترك فناً من فنون الأدب إلا وخاض غماره، ولا باباً من أبواب البحث الأكاديمي الرصين إلا وطرقه، فقد كتب السيرة وأدب الرحلة والمسرحية الفلسفية، إضافة الى كل ما سبق وأشرنا إليه. ولا بد من التأكيد أخيراً أن معرفته الواسعة بالثقافة العالمية وانتماءه الأصيل الى الثقافة العربية يجعلان من نتاجه نموذجاً للتثاقف القائم على وعي ثاقب وحس نقدي بعيداً من عقد النقص والانبهار بالحضارة الغربية. وللبرهان على ذلك، يطيب لي أن أقتبس من كتاب «عشبة المدائن» هذه السطور أختتم بها ورقتي: «المسافة بين بغداد وواشنطن هي المسافة بين عقل صلب حتى العطب السريع يتحرك من خلال تفاعله البدوي، وعقل مرن حتى الانعطاف الكلي يتحرك من خلال الجدلية الحادة التي تسخّر المنطق في سبيل لعبة الجدلية الخطرة، إنها المسافة بين البداوة الطائشة والحضارة الخبيثة».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى