الدولة والمجتمع: هلاك القرى وازدهار المدن

يتابع الدكتور محمد شحرور في كتابه “الدولة والمجتمع: هلاك القرى وازدهار المدن” سلسلة الدراسات القرآنية والمجتمعية التي بدأها منذ العام 1970 في محاولة منه لتبيان الأصول الفقهية الصحيحة لفهم الدين، ومحاولة إسقاطها على الواقع العربي. ولا شك أن الكثير من القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية التي طرحها في كتابه هذا، أو الكتب السابقة تثير الكثير من الاستفهامات والتساؤلات، كما تشير في الوقت نفسه إلى أهمية مشروعه البحثي في الحالة الراهنة.

وربما يبدأ التساؤل والاستفهام من عنوان الكتاب، الذي قد يوحي بأن المؤلف قد استند في دراساته على النظريات الاجتماعية والتاريخية محللاً وناقداً لها، أو مقارباً على سبيل المثال النظرية الخلدونية، أو النظرية الهيغيلية، في بناء الدولة والمجتمع. وهو وإن ناقش بعض ما تعرض له ابن خلدون من علاقة التاريخ بالمجتمع وبناء الدولة، وكذلك ما أشار إليه هيغل في أن الدولة هي غاية الروح في تحققها عبر التاريخ، إلا أنه في دراسته تتبع سير التاريخ للدول والمجتمعات كما ورد في التنزيل الحكيم، وكذلك مسيرة تطور المجتمعات الإنسانية من عصر الأمومة إلى الأبوة، إلى عصر المساواة والتعددية.

ويشرح شحرور بالتفصيل أن كل مجتمع أحادي، هو مجتمع متخلف يحمل بذور هلاكه وعذابه، بل هو الذي يعطي الأسباب للدول الخارجية ذات الاطماع الاستعمارية للتدخل. وهذا ما ينطبق تماماً على المجتمعات العربية التي كانت عرضة لسلسلة استعمارات خارجية ليس بدءاً من الاستعمار العثماني، وليس انتهاء بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وكذلك الاحتلالات المتعددة التي نراها في أكثر من بلد عربي بعد فشل الثورات التي حملت اسم “الربيع العربي”.

يقع الكتاب في عشرة فصول، يؤكد من خلالها الكاتب أن التنزيل الحكيم لا يدعو إلى إلغاء التعددية والملكية الخاصة، بل يقدم مفهوماً أساسياً في حركة سير المجتمعات يرتكز على أن التاريخ الإنساني يسير إلى الأمام ونحو التطور والتعددية، وهلاك التخلف والأحادية، وذلك مع حديث عن نشوء المدن وصراع سلطة المعرفة وسلطة القانون، إضافة إلى نقاش حول ثنائية الشورى والحرية في التنزيل.

يرى شحرور، بداية، أن الإسلام هو دين وثقافة مجتمعاتنا العربية، لكن وبفعل تحوله إلى ظاهرة تديّن اجتماعي، لا فردي، أدى إلى ظهور حركات الإسلام السياسي كرد فعل على فشل الحركات القومية واليسارية في النهوض بهذه المجتمعات لتقدمها على المستوى السياسي، التي فشلت هي أيضاً، أي حركات الإسلام السياسي، في تقديم نظرية معاصرة في الدولة. كما وقفت هذه الحركات أمام كل محاولات التجديد والتنوير التي دعت في نهاية القرن التاسع عشر إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني والتي كان من روادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وذلك في نهاية الحكم العثماني.

وبالعودة إلى الإسلام التاريخي، “إسلام الواقع”، كما يسميه المؤلف، يرى أنه وعبر العصور التاريخية لم يقدم مؤسسات سياسية تضمن حرية الرأي والرأي الآخر (حرية المعارضة)، الأمر الذي قاد إلى غياب فرع مهم من فروع التشريع، هو الفقه الدستوري الذي ينظم بنية الدولة وشرعيتها. كما لم يقدم – الإسلام التاريخي – مؤسسات قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية، فكانت النتيجة المنطقية وجود مؤسسة بديلة هي مؤسسة الطغيان السياسي التي نعيشها منذ قرون.

أما من الناحية الاجتماعية والفكرية فيرى شحرور أن العرب والمسلمين يعيشون اليوم على هامش الحضارة، فالكثير منهم تقوقع تحت شعار المحافظة على التراث، والمحافظة على طرق استنباط المعرفة، رغم أن تغير الصيرورة والتعددية هما القانونان الوحيدان في الكون، بالإضافة إلى قوانين حتمية تنطبق على المجتمعات الإنسانية ككل وتتبع الجدل الإنساني وهي:

القانون الأول: الثنائية التلازمية بصراع المتناقضات، أي (هو وليس هو)، ويعمل هذا القانون ضمن المجتمع الإنساني، فيؤدي إلى تطوره وتغيّر صيرورته، وهذا القانون يعبّر عن ذاته في الأضداد، فالغني لا يبقى غنياً إلى أن تقوم الساعة، وكذلك الفقير والمستعمر والضعيف…

القانون الثاني: هو الثنائية التقابلية بقانون الزوجية، وهو ما أطلق عليه المؤلف (التكيّف)، وهو علاقة غير تناقضية بين شيئين في مستوى التأثير، كعلاقة التأثير والتأثر بين الحرية والوحدة، وبين الوحدة والعدالة الاجتماعية، ضمن مستويات معقدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وتحديد هذه العناصر الثلاثة يؤلف علاقة جدلية غير تناقضية وغير ضدية، وطبقاً لهذا المبدأ يحدد المؤلف سببين رئيسين للحروب، هما تراكم التناقضات الداخلية، وتراكم المعارف والتكنولوجيا.

الأسرة.. الأمة..القومية..الشعب

يرى شحرور أن ظاهرة الأسرة بدأت بالتشكّل مع ظهور الدين، وأخذ المجتمع الإنساني بشكله البسيط ينقسم إلى ثلاث فئات متمايزة عن بعضها البعض، الأولى: كانت ممثلة بالسلطة السياسية، وتميزت بالقوة الجسدية والعضلية، والثانية: ممثلة في رجال الدين، وتميزت بالقوى المعرفية ولعبت الدور الاستشاري للشريحة الأولى في بعض الحالات كحالة الحرب، والثالثة: هي بقية الناس، وقد مارست هذه الفئات نشاطها ضمن ما يسمى المجال الحيوي للمجموعة، ونمت باندماج الأسر مع بعضها بالغلبة، فتوسع المجال الحيوي للمجموعة واتسع عددها. ومع اتساع عددها ظهر المجتمع كبنية لها خصوصية تحددها العلاقة بين الفئة الأولى/ السلطة السياسية، مع الثانية/ السلطة المعرفية، متضامنة ومتكافلة يدعم بعضها بعضاً، وتعيش على حساب عمل الآخرين، وإن كانت الأسرة محددة بالمحيط العائلي، حسب رأي ابن خلدون، لكن لها نوع من السلطة السياسية تتمثل بسلطة الأب والأم على الأبناء.

وفي مفهوم الأمة يستند الكاتب إلى قوله تعالى في سورة البقرة (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس)، واستناداً إلى هذا النص القرآني يؤكد المؤلف أن مفهوم الأمة وجد قبل أن يبعث الله أي نبي، وما نراه اليوم من اختلاف الثقافات وتطورها بين الأمم يعود حسب شحرور إلى سببين:

الأول، العلاقة الجدلية بين حرية الفكر وانطلاقة العقل، وبين الأطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة ضمن مجتمع ما، وهي علاقة داخلية ضمن الأمة الواحدة.

الثاني، علاقة تأثير متبادل بين الثقافات المتعاقبة والمتزامنة، وهي علاقة داخلية في الثقافة الواحدة بحالة التعاقب الزمني والتاريخي، وخارجية في التلاقح بين الثقافات المتزامنة التي يعاصر بعضها بعضاً.

وفي مفهوم القومية يشير إلى أن القرآن الكريم حفل بكثير من الصفات أطلقت على مجموعة من الناس (هم القوم)، بعيداً عن مسألة اللسان الواحد، أو الألسن المختلفة ومثال ذلك: في مجال التفكير (لقوم يتفكرون)، وفي التعقل (لقوم يعقلون)، الإيمان (لقوم يؤمنون)، التذكر (لقوم يذكرون)، التقوى (لقوم يتقون)، العدل (لقوم يعدلون)، هذه الصفات نتفق فيها مع المؤلف أنها تنطبق على كل مجموعة عاقلة، وبغض النظر عن اللغة الناطقة بها.

وهنا يشير إلى أن مفهوم الأمة، ومفهوم القومية متداخلان، فقد توجد أمة واحدة ذات ثقافة مشتركة، وسلوك مشترك تتألف من قوميات عدة، وقد توجد قومية واحدة، فيها ثقافات عدة (أمم).

وفي الحديث عن مفهوم الشعب يستند أيضاً، إلى قول الله تعالى في سورة الحجرات (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فالشعب، وفق سياق الآية، هم مجموعة من الناس العاقلين (ياأيها الناس)، ومن ثم إن لهم لساناً واحداً، أو ألسنة عدة، وينتسبون إلى قومية واحدة، أو قوميات عدة، ولهم سلوك ثقافي واعي ومختلف. فالشعب- في كونه أمة أو أمم عدة، أعم من مفهوم الأمة والقومية لأنه يتضمنهما معاً، ويحتوي على معانٍ إضافية ليست موجودة في الأمة، ولا في القومية. وفي هذا يتوافق شحرور مع رأي ابن خلدون الذي اعتبر أن عنصر (الشعب) كأحد العناصر المهمة للدولة، وهو لا يكتفي بذلك، بل يؤكد أولوية هذا العنصر على السلطة بشكل خاص، أي أنه كي تكون هنالك سلطة لا بد من وجود شعب، الذي يسبق بوجوده عملية تشكّل الدولة وصيرورتها.

القرى وهلاكها…نشوء المدن وازدهارها

ورد ذكر القرية في القرآن الكريم أكثر من مرة، وفي الشرح والتفسير وجد المؤلف أنه بالرغم من اختلاف أسباب النزول وزمانها، لكنها تتفق في أمور أساسية في كونها اللبنة الأولى لبناء المجتمع. فالقرية هي تجمع سكاني في منطقة جغرافية ما بغض النظر عن عدد السكان والمساحة، وهي مجتمع أحادي يبدأ من أحادية المهنة، إلى أحادية السلطة، وما بينهما من أحادية الملة، وأحادية الثقافة، وأحادية الرأي.

وسواء اتفقنا مع المؤلف أم لم نتفق، فإنه يرى أن ما يتميز به مجتمع القرية هو الظلم، وهو- حسب المؤلف- الإصرار على الخطأ كالثبات على الآبائية لقوله تعالى (وكذلك ما أرسلنا من قبلك من قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) – سورة الزخرف، أي ارتكاب الخطأ مع الإصرار عليه، مع العلم يمكن الأخذ بخيارات أخرى.

كما يتميز مجتمع القرية أيضاً بطبقة المترفين الذين لا يخضعون للمساءلة، فهم طبقة ما فوق القانون، وهي التي تسبب الفساد والخراب، ومجمل هذه المزايا التي ظهرت في مجتمع القرية، ساهمت على المدى في هلاك القرى وأدت إلى نشوء المدن وازدهارها. وفي هذا يعرض المؤلف بالتفصيل مفهوم المدن في التنزيل الحكيم، ومدى ارتباط نشوئها بمبدأ التعددية، فالمجتمع المدني هو مجتمع تعددي (تعدد المهن، المذاهب، القوميات، اللغات، السلطات…) ويمكن لجميعها أن تعيش بسلام ضمن منظومة قانونية، واقتصادية واحدة، وفق مرجعية إنسانية ضمن مجال حيوي واحد اسمه “الوطن”، ويسمّى أفراده “مواطنون”. وفي هذا يرى شحرور أن قانون سير التاريخ يقوم إلى أن تقوم الساعة على صراع التناقض بين الأحادية والتعددية، وبين الثبات والتطور.

وكان النبي محمد (ص) قد دشن عصر المدن انطلاقاً من مجتمع المدينة المنورة، حيث لعب دوراً محورياً في بناء دولته على أساس تعددي وفق مرجعية أخلاقية عالية ترسمت معالمها بفضل ما دعا إليه (ص) من قيم إنسانية عالية، والدولة التي أسسها تمثل قفزة نوعية من تاريخ الإنسانية، لأنه مهد لبناء دولة تعترف بالتعددية ابتداء من تعددية الملة، وصولاً إلى التعددية السياسية.

وفي جانب آخر يرى المؤلف أن المدن قامت بشكل ما على العنف، ومبدأ العنف في قيام الدولة وانهيارها هو مبدأ رباني (الإسراء الآية 58)، شهد به التاريخ ولا يزال…لأن الصراع بين الأحادية والتعددية هو في كثير من الحالات صراع دموي، وهذا ما يبرر الثورات والحروب، والانقلابات على رؤساء وحكومات أدت إلى انهيار مدن، أقيمت على أنقاضها مدن أخرى،. وفي هلاك القرى وبناء المدن يتقارب شحرور مع ابن خلدون الذي يفسّر بناء الدولة تفسيراً مادياً، فالدولة تكون بدوية عند اعتمادها على الضروريات، ومتحضرة عند اعتمادها على الكماليات، وعند الإسراف تتلاشى.

الحرية والديمقراطية….

رأى المؤلف أنه بغض النظر عن الشعارات الإيديولوجية التي طرحت على مر التاريخ، (يا عمال العالم اتحدوا، أمة عربية واحدة، الجمهورية الشعبية الديمقراطية) إلى ما هنالك من الشعارات، وعبر تنظيمات وأحزاب مختلفة،( علمانية، إسلامية، ليبرالية، راديكالية)، فإن كل نظام حكم أحادي يحمل بذور فنائه في ذاته أو من خارجه، وكل نظام حكم تعددي يحمل بذور تطوره في ذاته، وآلية تطوره تتمثل في حلّ الأزمات التي يمر بها، وأثناء ظهورها بغض النظر عن كونها سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وقد تظهر الأحادية فيها أحياناً، كأحد الحلول كما ظهر أدولف هتلر كحل لأزمة ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى، وكما ظهر الحزب الشيوعي بعد انهيار القيصرية.

أما المجتمعات العربية فهي لا تزال حتى اليوم تمر في مرحلة انتقالية بين الأحادية والتعددية، وهذا ما يراه المؤلف السبب في تعثر حركة نهوضها وتطورها. ولتجاوز هذا التعثر يدعو شحرور إلى بناء نظم معرفية جديدة، بعيدة عن إسلام القرن الثاني الهجري، وقراءة القرآن والسنة ضمن منظور القرن الحادي والعشرين، وضمن النظم المعرفية السائدة في هذا القرن، انطلاقاً من التأكيد على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأيضاً، السعي نحو تقديم نظرية وممارسة في الشورى والحكم تعتمد على معطيات القرن الحالي، والبنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة، أي نظرية القول والفعل في الدولة وبنائها، وماهية بنية الدولة المعاصرة، وأسسها وكيفية تحقيقها.

وهذا ما يؤكد عليه الدكتور ساري سالم أستاذ علم الاجتماع بقوله “لا يمكن اليوم إنتاج أو إعادة إنتاج نهضوية، أو حتى استراتيجيات تنموية في عالم كل ما فيه متغير بسرعة وعمق، فلم تعد التمركزات التقليدية والتعصبات الإيديولوجية (الدين، القومية، الهوية، وحتى الثقافة المحلية نفسها) تؤدي كما كانت دائماً، وظائفها التقليدية بفعالية”.

والنضال الذي يدعو إليه شحرور يجب أن ينصبّ على الخروج من مرحلة الفكر الأحادي الذكوري، إلى مرحلة خلق مؤسسات الحرية ومؤسسات الديمقراطية، والسبيل إلى ذلك العلم والحرية، والتعددية وحقوق الإنسان، فالحرية كتوأم للعلم لا تنمو إلا بنظام تعددي ومؤسساته، كالبرلمانات والمجالس التشريعية، وكذلك الصحافة التي تضمن وتعبّر عن وجود الرأي والرأي الآخر. ولهذا بات من الضروري أن يدرك العقل العربي، ويتعلم ثقافة دخول الديمقراطية في البنية الأساسية للدولة المدنية، وفي الممارسة البنيوية لهذه الشورى، عن طريق تطبيق مبدأ التعددية، بتطبيق التعددية الحزبية في الممارسة السياسية التي تعبّر عن الرأي والرأي الآخر بمنهجية علمية منظمة. فحرية الأحزاب السياسية من أساسيات الحياة التعددية المعاصرة، والوعي أن الإسلام فيه يمين وفيه يسار، واليمين فيه أجنحة، وكذلك اليسار، وأن الموقف اليميني اليوم يمكن أن يكون يسارياً غداً، وهذا ما يتفق مع قول ابن خلدون في مقدمته: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وأن الدولة تبقى مؤسسة دائمة التعرّض للتبدل والتغيير”.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى