خالد زيادة يرصد تطّور النظرة الإسلامية إلى أوروبا

سعى الباحث والدبلوماسي اللبناني د. خالد زيادة في كتابه “تطّور النظرة الإسلامية إلى أوروبا” إلى استعراض هذا التطور عبر حقب زمنية طويلة وصولاً إلى الزمن الحاضر، بحيث يمكن مراقبة التغير والاستمرار، ليس فقط في نظرة المسلمين إلى أوروبا، بل في علاقتهم معها أيضاً.

وتعود بدايات تشكل صورة أوروبا في الآداب الإسلامية ـ وفقا للمؤلف ـ إلى ابن خرداذبة ـ صاحب كتاب “المسالك والممالك” ـ الذي يعتمد بشأن بعض بلدان أوروبا على رواية أسير لدى البيزنطيين هو مسلم الجرمي (حوالي 845) الذي كانت لديه معلومات عن الروم والبرجان والبزغز والصقالبة، ويبدو أنه كان مصدرا أساسيا لمعرفة العرب بالدولة البيزنطية ومادته عن الصقالبة كانت مفصلة وقد أخذ بها سائر الجغرافيين حتى القرن الثالث عشر في العالم الإسلامي.

وأضاف المؤلف “أما ما يقدمه ابن رستة في كتابه “الأعلاق النفيسة” حوالي 902 فإنه يشتمل على معلومات كان مصدرها أسير آخر هو هارون بن يحيي، ويتحدث ابن رستة بشيء من التفصيل عن القسطنطينية ورومية، ويقدم وصفا لكنيسة آيا صوفيا ووصفا للكنيسة العظمى في روما.

وما يذكره ابن رستة نقلا عن هارون بن يحيي سيتناقله الجغرافيون خلال عدة قرون قادمة، كذلك رواية ابن فضلان عن سفارته إلى بلاد الروس والصقالبة ستصبح قاعدة للعديد من الجغرافيين المقبلين”.

ورأى المؤلف في هذا السياق أن المعلومات التي قدمها المسعودي في كتابه “مروج الذهب” حول أوروبا أكمل مادة عرفها المسلمون في منتصف القرن العاشر، فهذه المعلومات مستمدة من الجغرافيين والمؤرخين والرحالة السابقين، وأضاف إليها المسعودي معلومات جمعها بنفسه وهو الكثير الأسفار، كما أنه يعتمد لمعرفة تاريخ اليونان والرومان ومصادر يونانية وسريانية.

وأشار المؤلف إلى أن كتابه هذا أراد به العودة إلى أصول نظرة المسلمين إلى شعوب أوروبا. و”كان دفعني إلى ذلك أن هذا الموضوع لم يتم تناوله من قبل بشكل شامل. ولعل الصعوبة ترجع إلى غياب أي ترسيمة تسمح بالتعقب المنهجي لنظرة المسلمين إلى أوروبا”.

وتختلف النظرة الإسلامية إلى أوروبا بحسب الفترة التاريخية أولاً، ثم فكر صاحبها واتجاهاته الدينية. فبداية كانت تلك النظرة فوقية وتتجاهل التأثير الأوروبي. ثم كان هناك اعتراف بها إثر الاحتكاك المباشر والتعرف إلى نهضة الغرب. وتراوحت المواقف بين رافض للتعامل معها ومعجب بها. بالإضافة إلى الفئة الثالثة التوفيقية. كذلك يختلف الموقف باختلاف فكر صاحبه أكان سلفياً متشدداً أم ملتزماً منفتحاً أم علمانياً. وقد رأى زيادة إن تطور أشكال متفاوتة من النظر إلى أوروبا لم يكن نتيجة لتطور أوروبا ذاتها، بل نتيجة أيضاً للأوضاع الداخلية للمناطق الإسلامية المختلفة.

وقال: عبر مضيقي البوسفور وجبل طارق كانت تحصل الاتصالات الإسلامية بأوروبا لكن الانطباع الذي بدأ يتكون في الشرق لم يكن مطابقاً للانطباع الذي تأصل في الشرق، فما الذي جعل العثمانيين يرهفون السمع إلى جلبة تقدم أوروبا العسكري، بينما ظهر المغرب وكأنه يتحاشى التنبه إلى الوقائع المستجدة في أوروبا القرن الثامن عشر.

بالنسبة للعثمانيين فإن الإشارات الأولى التي نبهت إلى مخاطر القوة الأوروبية جاءت مبكرة وسابقة للهزيمة العسكرية. إن دولة كبرى كالدولة العثمانية كان بإمكانها أن تفرز رجالاً يجمعون إلى سعة الأفق ودقة التأمل، مهما تضاءل عددهم. لكن الهزيمة العسكرية هي التي نبهت شخص السلطان، بالدرجة الأولى، إلى المخاطر التي تهدد دولته من جراء صعود القوة العسكرية الأوروبية. ليس هذا فقط، بل إن الذين هزموا واقعياً، أي قوات الإنكشارية، كانوا على نقيض مع شخص السلطان منذ بدايات القرن السابع العشر وقبل أن تأتي الهزيمة في نهايته.

من هنا نتفهم الإلحاح الذي أظهره خمسة سلاطين متعاقبين خلال القرن الثامن عشر على الإصلاح العسكري. إن الإصلاح العسكري كان يعني في ظروف العصر إدخال إصلاحات جديدة على النمط الأوروبي وفرضها على قوات الإنكشارية التي كانت بدورها ترفضها بدعم من بعض رجال الدين المتنفذين. وأضاف “من الطبيعي أن تسمح ظروف هذا الصراع الذي تواصل على امتداد القرن الثامن عشر بالتعرف إلى أوروبا أكثر وأكثر، وباتساع دائرة المؤيدين للإصلاح والمدافعين عنه.

ومن جهة أخرى فإن الأوروبيين أنفسهم ما كانوا بعيدين عما يجري في إستانبول، والفرنسيون الذين أقاموا على الدوام علاقات حسنة مع العثمانيين كانوا ينظرون إلى توظيف هذا الصراع ضمن تصورهم لمصالحهم. ولم يتباطأ الفرنسيون في تلبية جميع طلبات السلطان عبد الحميد الأول (1774 ـــ 1789) ووزيره المتحمس للإصلاح خليل حميد، وأرسلوا بعثة مكونة من عشرات المتخصيين الذين وضعوا في خدمة السلطان ومشاريعه الإصلاحية.

وهكذا فإن دائرة المدافعين عن الإصلاح، المنفتحين على أوروبا، كان بإمكانها أن تجد الظروف الملائمة لتعزز قناعتها، وترسخ أسس نظرة جديدة إلى أوروبا مبنية على الإيمان بأن تقدم أوروبا العسكري والعلمي يمكن أن يستوعب في الإطار العثماني لاستعادة القوة السابقة.

وأشار زيادة إلى إن غائية مشروع الإصلاح ضمن الصراعات الداخلية تحولت إلى اقتناع بقضية التقدم كما أبرزتها أوروبا، وخصوصاً فرنسا، لدى العديدين من المنفتحين على المدنية الأوروبية.

إن إبراهيم متفرقة أو أحمد رسمي والكثير غيرهما، وهم المعتمدون على دعم السلطان كان بإمكانهم، ليس فقط أن يدافعوا عن وجهات نظرهم بل أن ينتقدوا القوى التي تحول دون المضي في المشروع الإصلاحي. وأحمد رسمي في إنتقاده الصريح لرجال الدين والمحافظين، خطا خطوة واسعة تبشر بنمو فريق واسع من المتنورين المنفتحين على أوروبا ومدنيتها الذين سيبرزون خلال سنوات قليلة.

ولفت إلى أن الوضع لم يكن ذاته في الطرف الآخر من العالم الإسلامي، فلم يشهد المغرب أية صراعات داخلية من هذا الطراز، فالإدارة لم تكن سوى حاشية السلطان عبيد البخاري، والجيش لم يكن ـــ في عهد مولاي إسماعيل ـــ سوى مجموعة من العبيد: إن أي مهمة إصلاح لم تكن مطروحة طوال القرن الثامن عشر في الإطار المغربي، ولهذا فإن نمو القوة العسكرية الأوروبية كان يعني ازدياد خطر العدو الأوروبي، لكنه لم يكن ليعني أي أمر على الصعيد الداخلي. وكذلك فإن «التقدم» الأوروبي، وإن صار معروفاً وملموساً بالنسبة لبعض معاوني السلطان، فإنه لم يكن إلا ليزيد الصورة البغيضة للعدو القديم ـــ الحديث.

ويمكننا أن نستنتج أنه لم يكن كافياً أن يبرز وجه جديد لأوروبا حتى تتبدل نظرة المسلمين إليها، فقد كان لا بد للعامل الأوروبي من أن يدخل عنصراً قي الصراعات الداخلية ليسهم على نحو فعال في زحزحة النظرة التقليدية. كان ذلك في القرن الثامن عشر، وقبل قيام الثورة الفرنسية وبروز الوجه الاستعماري لأوروبا لاحقاً.

يتألف الكتاب من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. وتتضمن الفصول العناوين الرئيسية التالية: النظرة التقليدية إلى أوروبا، استمرار النظرة التقليدية وتبدلها – مسألة التقدم، صورة أوروبا الليبرالية، اتجاهات النظرة الحديثة، نحو نظرة نقدية.

ويتناول الكتاب بالتفصيل الرؤية الإسلامية لأوروبا في الغرب مع التركيز على بدايات القرن الثامن عشر عندما بدأ العثمانيون الاتصالات وتلقي التأثيرات الأوروبية في بداية القرن عينه، وصولاً إلى الحملة الفرنسية على مصر وما تلاها حتى القرن العشرين.

وتتجاوز أهمية الكتاب كونه كتاب تاريخ حيث الاتجاهات الفكرية المتوازية والمتقاطعة ما بين الإسلام والغرب تمتد مفاعيلها. وما نشهده اليوم من تفاوت في العلاقة بل فتور وتوتر يعود بجذوره إلى تلك النظرة المتبادلة: نظرة الغرب إلى الإسلام، ونظرة الإسلام إلى الغرب.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى