‘كتارسيس’.. الأنثى واستعادة الجسد

يرتقي سلم السرد النسائي العربي لمقام شهرزاد، تلك الساردة التي ركبت الحكاية حصانا لعتق رقبتها ورقاب بنات جنسها من سيف مسرور، وسلطة الذكورة كما تمثلها شهريار في سردية ألف ليلة وليلة، وقاومتها شهرزاد بالحكاية تلو الحكاية لحماية الدم النسائي من هدر محقق، ذلك هو الدم الذي يتدفق حبرا في شريان رواية “كتارسيس” للروائية التونسية حنان جَنّان، والتي تتمحور من وجهة النظر الأدبية، حول سؤال الكتابة ومقاربة النوع، أو بشكل آخر سؤال الإبداع والجنوسة، بما يخفيه من صراع خفي مستتر بين الذكورة والأنوثة، في مجتمع أبيسي لا يزال يرمي نون النسوة برجوم إخفاقاته ومظاهر تخلفه التاريخي والاجتماعي.

لقد ارتبطت الكتابة النسائية بالجسدانية، غدت معها كل كتابة نسائية محتملة، في عرف المجتمعات التقليدية، هي فيض من جسد، مقبول تارة حد التوثين، ومهمل ثانية بتهمة الدنس، ومحاط بالألغاز والأسرار لتخوم العماء، ولذلك اكْتُفِيَ به لذاته قرونا، وفُرِضَ عليه الصمت والانزواء واقعيا ولغويا، حيث أُلْحِقَ الإبداع النسائي في اللاوعي الجمعي، لغة وتخييلا وواقعا، بالكتابة البيولوجية، المرتبطة بالكتابة على الجسد أو به، واعْتُبِرَ الغنج والدلال والأنوثة والماكياج والزينة كتابة على الجسد، وكان الحمل والمخاض والولادة والرضاعة كتابة بالجسد الفيزيقي .

ومادامت اللغة هي حصن الأفكار والحامل لتمثلات المجتمع عن العالم والناس وتحديد الوظائف والمهام لكل جنس أو نوع، فقد حددت اللغة العربية، شأنها في ذلك شأن باقي اللغات الإنسانية، دور المرأة في العطالة والطعام، ولم تُفْرِد للنِّسوة كُوَّة الاستقلال في الخطاب بين جماعة الذكور، بل كَسَتْها صفة التبعية والانصياع على المستوى الصرفي اللغوي، مما يشكل صورة الأنثى في وعينا ولا وعينا الإنساني، وفق هذه الدلالة المرجعية اللغوية، سواء كنا رجالا أو نساءً، ولسوف تصبح كل كتابة نسائية عن الجسد الأنثوي فيما بعد، اختراقا لحجاب الوأد والاستكانة والغبن الإنساني، جرحا قاسيا وإيلاما وتنكرا للأعراف والتقاليد، باعتبارها كتابة بالمشرط لا بالقلم، وتهشيما لتلك الصورة المثلى التي ارتضاها المجتمع الأبيسي آية وثنية للمتعة والجمال، قبل أن يطوح بها في فيافي النسيان.

ولذلك ستكون كل كتابة نسائية، بمنطوقها ومفهومها، برؤيتها الكلية والتفصيلية، هي خطوتان على حسر التجاوز، تجاوز الكتابة البيولوجية والكتابة التجميلية، إلى كتابة خارج العرف، وخارج السواء الاجتماعي، إنها بصورة ما، وفي مجتمعات تقليدية، ضرب من الجنون أو اللاعقل، وإن كانت في جوهرها التنويري تحررا من أصفاد الماضي، عن طريق “فتح خزائن ذاكرة مثقلة وإخراج ما فيها” من ظلمات السنين إلى نور البوح .

ولا تخرج رواية “كتارسيس” عن التأطير المشار إليه سالفا، بالنظر لحجم القضايا المتداولة في المجتمع النصي، والسياق التاريخي المتراوح بين ما قبل الربيع العربي وما بعده، وصراع الذكورة والأنوثة، في عالم يعج بالمتناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية والنفسية حد الفصام أو الشيزوفرينيا، وهو ذاته المجتمع الذي لطالما حلمت نُخَبُه بالحرية وعبور جسر الخوف من التقليد إلى الحداثة، والذي دفع الساردة إلى الاعتراف في متن الرواية بأزمتها النفسية، في صيغة تراجيدية مركبة بين عقدتي الكترا وأوديب، قائلة: “كنت في النهاية الكترا أو أوديبة التي بقيت عذراء…”.

هذا المكون الصراعي ذي الصبغة التراجيدية، يفصح عن ذاته منذ العتبات الأولى لاستقبال النص الروائي، وهي على التوالي، نص العنوان، ونص الإضاءة الخاصة بالعنوان، ثم النص الروائي؛ وإذا كان نص العنوان “كتارسيس” ينتمي بالضرورة للمعجم الأرسطي في كتابه “فن الشعر”، ويستدعي فن المسرح الكلاسيكي بما يحمله من إيهام ومحاكاة لواقع معطى، عن طريق التخييل والاصطناع، فإن نص الإضاءة يؤشر على مفهوم التطهير من العنف بالخوف والشفقة، واعتباره متعة نفسية وجمالية تحرر المتلقي من الانفعالات الضارة .

وبالتالي فإن العنوان وإضاءته كعتبتين أساسيتين للمتن السردي، يثيران قلقا قرائيا لدى المتلقي، أهو بصدد نص روائي أو نص درامي، ومن المستهدف بالتطهير، أهي الساردة أم المجتمع المسرود له أم المتلقي، ما حدود العلاقة ودلالتها بين النص والعنوان، وما الذي يرفع الأحداث إلى مستويات تراجيدية، تتحول من الألم إلى الحزن إلى الصمت الطويل زمنا، قبل أن تجد مساحة بوحها والجهر باعترافاتها على ركح الحكي الروائي، مما يشهي القراءة ويفتح أفق انتظاراتها اللامحدودة.

تلك الانتظارات اللامحدودة توازيها على مستوى السرد، انتظارات حكائية أخرى، محتفظ بها إلى حين، لدى الساردة الممسرحة الكلية المعرفة، وإن بدت ديمقراطية في توزيع الحوارات وأحقية القول بين شخصيات المجتمع النصي، فهي متورطة في الأحداث بمحكيها وزمن حكيها، هي نكرة لا تحمل اسما داخل المتن الحكائي كباقي الشخصيات، شخصية فاعلة بداخل الأحداث ولاعبة خارجها، من الخارج أشبه بشهرزاد تؤطر الأحداث والحكايات، ومن الداخل بطلة بلا ملامح تمثل كل الإناث ولا تمثل أية واحدة بعينها، وهي تدعو مجتمعها النصي منذ الصفحة الأولى لدخول المطهر لدي عيادة نفسية كمقدمة لتقديم الأسباب.

ومن ثم يمكن القول بأن اختيار العنوان وإضاءته، هو اختيار قصدي، بدليل أن التطهير أو الكتارسيس المبتغى هو عيش السرد والحكاية، وهو في نفس الآن غاية الكاتبة من تلقي النص، تطهير المتلقي من متناقضات المجتمع النصي، وإعادة ترتيب مسبقاته الاجتماعية وبديهياته المتواطئ بشأنها عن المرأة والمجتمع والخيارات السياسية والصراعات المناطقية، وهي تطهير ذاتي لذات الساردة من معجم المتناقضات، المشكلة لألمها المزمن، والمحاولة النفسية للخروج بصورة موحدة لأناها الموزعة بين أنوات فكرية وجسدية ووجدانية متعددة. فهي الطالبة والباحثة المجدة وهي الأنثى المسلوبة الإرادة أمام حبيبها “كريم” تحت طائلة الحب، وهي الإنسان المتشبع بقيم الحداثة والاشتراكية من جهة الأب البيولوجي والثقافي والفكري، وهي المنصاعة لارتداء الحجاب والركون للقيم الروحية من جهة الخال أو الأب البديل، هي صورة الأنثى المثقفة والحداثية التي تسعى لامتلاك جسدها واستعادته من ملكية الحجب والأقبية المظلمة، التي تحيط كل عذراء حتى ليلة زفافها، لتقدمه لا للحبيب الزوج، الذي اختارته بمحض إرادتها، ولكن عربون إخلاص ووفاء للعرف الاجتماعي. وهي بعد اكتشاف ثمرة حبها امرأة تقف على مسافة كونية بين الإنسان وجسده الحامل للثمرة الحرام، التي وجب التخلص منها بأقصى سرعة قبل أن يفتضح أمرها.

تقف الساردة على مبعدة بين رؤيتها الشخصية للواقع، تدين الكل حتى أقرب الأقرباء، وتحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن حبها واختياراتها، بصفتها مثقفة ومحامية، من فئة متوسطة، وبين ما ينضح به الواقع من متناقضات وآلام مست أمها، فهي تهتك حجب القرابة الأسرارية بينها وبين أمها، وتضعها في موقف الإدانة والمساءلة التاريخية، قبل أن تعرف آلامها الدفينة، كامرأة قدمت قربانا لفتح الباب أمام تزويج أخواتها اللواتي كن يعتبرنها شؤما في وجوههن.

ومن نقطة زواج “فاطمة” أو الأم بِأَبِ الساردة، العائد من جامعة بغداد، مُدَرِّساً للتاريخ في مدينة بنزرت، وبعد تجربة حب فاشلة تنتهي بمقتل حبيبته عفراء، تكمن العقدة والحل، فالساردة، وفق سير الأحداث من وجهة نظر سيكولوجية، هي الصورة البديلة لإلكترا المتصارعة مع الأم لا بصفتها المزاحمة لحبها وإعجابها بالأب، ولكن بإهمالها وهجرها لفراش الزوجية، كما يتراءى للبطلة، وهي الصورة الأخرى لأوديب، حيث كانت ترى في صمت أبيها وانزوائه وانفراده معيقا، لطالما قطع حبل تواصلها مع الأم.

يجنح الخطاب الروائي في متن “كتارسيس” إلى تنويع صيغه على المستويين الموضوعاتي والجمالي، فعلى المستوى الموضوعاتي، احتفت الساردة بمظلمة الأنثى، في سعيها إلى استعادة جسدها من مخزن الودائع التقليدية، وعقد تصالح بينه وبين العقل الحداثي المتنور، ولن يكون ذاك التصالح ممكنا إلا بسيادة الحب والحرية والتواصل، في سبيل مجتمع ناهض بكل أفراده من الجنسين، وهو الأمر الذي دفع “فاطمة” الأم التقليدية، إلى الانفجار في وجه الأب، رمز النخبة المثقفة المؤمنة بالتغيير بمنظور اشتراكي آفل. تقول فاطمة من فرط غيظها: “اتهمتني بالجهل، وهذا صحيح، ولكن ماذا فعلت لكي تخلصني من جهلي؟ أنت الذي تعلم أجيالا بأكملها فشلت في تعليم أم ابنتك..”.

في حين يتعدد الخطاب السردي، باعتماد أساليب متعددة، منها الحوار الفصيح واللهجي، لاسيما في حديث الأم، والوثيقة ممثلة في رسائل “عفراء القصيرة، ومفكرة الأب، والإبحار في ذاكرة الساردة/البطلة بحثا عن صور مقابلة لوضعياتها الحكائية من متون مقروئها الشعري والروائي، وذخيرة مشاهداتها المسرحية والسينمائية، مما يجعل من رواية “كتارسيس” سردية نسائية متميزة بتلقائيتها في الحكي والسرد، واهتمامها الأثير بالأبعاد النفسية للشخصيات، في أدق تفصيلاتها وتناقضاتها، بين الواقع المختل والرغبات والآمال المحلوم بها فكريا وأدبيا واجتماعيا، بغاية تكسير صخرة الصمت، ومواجهة شهريار بقرينه المستعاد في كل زمان ومكان.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى