‘لاعب الشطرنج’ .. يقهر الوحدة باستحضار القرين

يقول الروائي النمساوي هيرمان بروخ أن “الخلق الوحيد للرواية هو المَعْرِفة، والرواية التي لا تكشفُ أي شذرة مجهولة من الوجود هي منافية للأخلاق”. طبعاً هذه العبارة هي خلاصة لتأملات وقراءات صاحب «موت فرجيل» ناهيك عن تعمقهِ في خصوصيات هذا الجنس الأدبي عبر مقاربات فعلية وتفحص آليات كتابة الرواية، وما أضاف إليها من خلال تجربته في التأليف.

وبالاستناد لما ذُكِرَ آنفاً، أن الرواية متداخلة مع دروب المعرفة والفلسفة، ولا بُدَّ للروائي أن يتكفلَ بتقديم عمله بصورة تَحدو بالمتلقي لطرح الأسئلة حول المسكوت عنه، وجوديا وسياسياً ولاهوتياً وفلسفياً. وهذا الأمرُ هو ما يتوقعه القارئ من الروائيين الأفذاذ أمثال الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الذي ما أن تقرأ له عملاً حتى تتأكد من ما يتضمنهُ من أبعاد فلسفية وما يثيره من أسئلة إشكالية.

وإذا كان المؤلف في رواية «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» يَعتمدُ على ما ينقله الراوي عن ردود أفعال نُزلاء الفندق حيال هروب السيدة هنرييت مع شاب فرنسي، والاختلاف الحاد في الرؤية بين السارد والشخصيات الأخرى لفعلة زوجة الرجل الثري، ومن ثُمَّ ما ترويه السيدة الانكليزية (س) عن الإعصار الذي ضرب حياتها في غضون (أربع وعشرون ساعة). كل ذلك يخدم ما يسعى إليه الكاتبُ، وهو مناقشة موضوع شائك، الأخلاق والأحكام الصادرة على بعض تصرفات المرء التي قد لا نفلح في تفسيرها، والإحاطة بدوافعها، فإن مؤلفَ «عالم الأمس» يطرحُ في رواية «لاعب الشطرنج» من منشورات مسكيلياني 2017 مسألة الإرادة والمعاناة الناجمة عن انشطار الذات في ظل ظروف قاهرة. وذلك يكون بتفويض شخصية السيد (ب) وهو من الشخصيات الأساسية ليحكي عن تحديه ومعاركته لإكراهات السجون النازية.

• إشارة العنوان

مع أن مضمون الرواية يتطابق تماماً مع ما ينبئ به العنوانُ، إذ يلم المتلقي علماً من الصفحة الأولى، أنَّ العمل يدور حول اللعبة الملكية، ويشيرُ الراوي إلى خصائصها، مؤكداً أن لعبة الشطرنج من بين كل الألعاب، هي الوحيدة التي اخترعها الإنسان للتحرر من قيد الصدفة، والإعلاء من شأن الذكاء البشري، ناهيك عن تذكير القارئ بعدد المُربعات المرسومة على الرقعة والبيادق التي تتقاسمها، والأهم من ذلك فإن الشخصية النابغة في تلك اللعبة مرصودةُ، وذلك بعدما يعرفُ الراوي عن طريق أحد أصدقائه أن بطل العالم في الشطرنج ميركو كزنتوفيك، سيصحبهم على ظهر المركب المُبحر من نيويورك صوب بوينس أيرس.

إلى هنا لعلَّ المتابعَ لأعمال ستيفان زفايغ يكتشفُ عناصر مشتركة في روايتي “لاعب الشطرنج” و”أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة” إنسحاب الراوي ليكون في موقع المروي له، والتشابه في طبيعة المكان المحتوي على الحدث. في الروايتين يكون المكان مُتحركاً مثل المركب أو مؤقتاً كالفنادق، وغالباً تُوظفُ مثل هذه الأمكنة في متن الأعمال الروائية التي تبحثُ عن موضوع فكري أو سياسي.

• العبقري المُتعجرف

يتوارى الراوي تاركاً المجال لصديقه الذي يسترسلُ في سرد حياة بطل العالم في الشطرنج ونشأته، وذكائه المحدود في الدراسة، بحيثُ عجز عن كتابة جملة صحيحة أياً كانت اللغةُ ما دفع بأحد مُنافسيه أنَّ يتهكمَ عليه قائلاً ان جهل ميركو عليم بكل شيء. كان بطل العالم يستنجد بأصابع اليد لمعرفة نتائج العمليات الحسابية، زدْ على ذلك إن بطلَ العالم تكفل أحد القساوسة برعايته حينَ يموتُ والده غرقاً، هكذا تتشكلُ صورة واضحة عن شخصية ميركو، والظروف التي نشأ فيها.

وفي مقلب آخر من الرواية يعودُ الراوي من جديد إلى المسرح ليشرحَ الأساليب التي اتبعها من أجل استدراج البطل للحديث، غير أن الأخيرَ أبدى جلافة في التصرف وتبين كرهه لمخالطة الناس، ولم ينجح شروع الراوي في ممارسة لعبة الشطرنج في حجرة التدخين، في اختراق حصار بطل العالم، كان يمرُ بهم مرور الكرام مظهراً نوعا من الاستخفاف بحلقتهم، يشارُ إلى أن أسماء لاعبي الشطرنج المشهورين تردُ في سياق الحديث عن ميركو وتقدمُ المترجمة سحر ستالة، توضيحات عن كل شخصية تُذكر ضمن الرواية، في الهامش، لا يتنازل اللاعبُ إلى مستوى من يلعبون الشطرنج في حجرة التدخين إلا بعدما يتلقى عرضاً مُغرياً من شخصية ثرية، ماك كونور الذي يصادف أن يكون موجوداً من بين المسافرين، وإن كان تفوق الفتى اليوغوسلافي في الشطرنج قد جعله مغروراً مُتعجرفاً، فإنَّ الثراء الفاحش والأموال الطائلة التي يمتلكها كونور هي من أسباب فساد طباعه، إذ لا يقبل بوجود من يكون أعلى شأناً ومقاماً إلى جانبه.

من هنا يشتدُ التنافسُ بين القطبين، أخيراً يوافق بطل العالم على أن يلعب مع اللاعبين من الدرجة الثالثة مقابل مبلغ مالي لا يستهان به. في هذا المقطع السردي لا يوجدُ ما يمنحُ الزخم في تيار القصة، إذ تحدى البطلُ خصمه الثري الذي استعان بستة لاعبين آخرين، ولكن ذلك لا يرجئ هزيمته ولا يصمدُ كثيراً، فبالتالي يسقطُ ملكه، وما كان منه إلا أن يطالب بجولة أخرى ثأراً لخسارته، ولا يمانع بطلُ العالم في أن يقوم بجولة أخرى،

وبهذا تتوالى المشاهدُ ويشدُ مناخ الرواية المتلقي إلى الوقائع دون أن يدع المؤلفُ فرصة التوقع، وما عليك سوى تتبع ما يعرضه. يتكئ صاحب «فوضى الأحاسيس» في هذه الرواية على الانتقال بين قصتين، بينما القارئ يكون مندمجاً في قصة بطل العالم، ومتابعة فوزه على مُنافسيه في المركب، يقطعُ المؤلفُ هذا المشهد، ويبدأُ بعرض قصة جديدة، ويأتي هذا متسقاً مع حيثيات الأجواء السائدة ولا يكون التحول مُفتعلاً في بناء الرواية.

• المُفاجأة

يكمن جانب كبير من فرادة «لاعب الشطرنج» في تضافر أجزائها، وترابط القصص بسلسلة سردية مُحكمة، وربما الأهم من ذلك هو التنوع في أساليب العرض، واستنطاق الشخصيات، عندما يلعبُ كونور جولة أخرى لاستعادة الاعتبار، ويتشاور مع فريقه قبل أن يحركَ بيادقه، يظهر من يمنعه من الانتقال إلى الاتجاه الذي يريده، هنا نكون أمام مفصل آخر من الرواية.

ويتصاعدُ التوترُ أكثر حينَ تمشي اللعبة حسب توجيهات الشخص الذي يبدو في العقد الرابع من عمره، ويشي ذبول ملامحه بأنَّه مرًّ بظروف قاسية، وأغربُ ما في الأمر أنَّ الرجل يؤكد عدم رؤيته لرقعة الشطرنج منذ خمسة وعشرين عاماً، ولم يمارس هذه اللعبة في شبابه إلا لتزجية الوقت، لذلك لا يقبلُ أن يلعب أمام بطل العالم، وبعدما ينجحُ الرجل الثري وفريقه في الخروج بالتعادل بفضل ملاحظات من يرافقهم في الرحلة نحو بوينس أيرس، يتفاجأ بطل العالم بانقلاب الموقف، وفقدانه للأفضلية، ما يعني انسحابه من الواجهة ليتصدرَّ رجل القدر وقصته المشهد. فهو بدوره يكشفُ سره للراوي عندما يتوسط الأخيرُ لإقناعه أن يلعبَ مع بطل العالم، إذ شهد (ب) مرحلة الاحتلال النازي لمدينة فيينا، وانتشار الغستابو على نطاق واسع، وشرعوا في مطاردة المطلوبين، فكان (ب) من الذين أدرج اسمه في لائحة الشرطة السرية، كونه يعمل في مكتب المحاماة، إضافة إلى ما يمتلكه من الأسرار حول البلاط الملكي، لذلك فمن الطبيعي أن يكون مراقباً بواسطة مستخدم يشتغل في مكتبه، إلى أن يُزِج به داخل السجن، هنا يبرز المؤلف براعة في تقديم صورة عن سيكولوجية الإنسان السجين، إذ أن تكرار الأشياء والتحقيقات المضنية من الأمور التي تبعث على ملل قاتل لدى السجين.

ويقولُ (ب) كنت سعيداً بمجرد الإنتقال من مكان إلى مكان آخر، وهذا ما يذكرك بما يتفوه به ابن الكاهن في رواية «الساعة الخامسة وعشرون» قائلاً من سخريات القدر أن يكون السجينُ سعيداً بنقله من زنزانة إلى أخرى، لا يجدي شيء لمعالجة الأجواء الخانقة في السجن، إذ يستعيد (ب) ما حفظه سابقا من الأشعار والأناشيد وفقرات من القانون المدني، ومحاولات لإجراء العمليات الحسابية، والتكهن بنوع الأسئلة التي من المفترض أن يجيب عليها خلال الاستجواب، كل هذا لن يكون إلا ضرباً من العبث، ومن ثُمَّ يجد خلاصه في معطف في غرفة التحقيق حين يجازف بأن يأخذ ما في جيب المعطف فإذا به كتاب يضم مئة وخمسين مباراة مشهورة للشطرنج على مر التاريخ، يقوم بلعبتين في يوم واحد، ويتخذ من المخدة رقعة وفتات الخبز بيادقَ، ليس هذا فحسب بل يحاول أن يلعب مع قرينه وينشطر إلى شخصين، الأمر الذي يقوده إلى حالة هستيرية، لأن لعب الشطرنج ضد نفسك أشد تناقضاً من القفز فوق ظلك.

يخضع (ب) للمعالجة إلى أن يستعيد حالته الطبيعية ويصدر الحكم عليه بمغادرة النمسا، ينتهي العمل بمباراتين في الأولى يكسب (ب) أمام بطل العالم وفي الثانية ينهار نتيجة مماطلة ميركو كزنتوفيك.

يظهر ستيفان زفايغ في «لاعب الشطرنج» قدرة الإنسان على قهر الوحدة، ما يعني أن خيارات المرء لا تستنفد. طبعاً هذا الطرح مناقض تماما للسيناريو الأخير في حياة (فايغ) الذي انتحر. تكرر الحالة نفسها لدى همنغواي الذي يمجد في «الشيخ والبحر» إرادة الإنسان دون أن يحول ذلك بينه وبين الانتحار.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى