من ترك فيديل سبيتي في الثورة وحيداً؟

تكثر كتابة اليوميات عندما يقلّ المؤرخون، أو يعجزون عن اللحاق باللحظة الراهنة، وهي لحظة نادرة ومكثفة مازالت ممتدة ولم تستقر على حدّ حاسم. ربما يجد مؤرخون جدد في متون اليوميات العربية المتناثرة، بين سورية ولبنان والعراق ومصر وتونس، مادة خصبة لعمل طال ظهوره، فالتأريخ المعاصر والمرافق للحدث، من غير نمطيةٍ جامدة، يسعف النمط الأكاديمي الفقير الذي لم يغادر جدران المكاتب الدراسية بعدُ.

تكاد كتابة اليوميات، خصوصاً في العقد الأخير، تكون البديل التجريبي والملاذ الأقرب والأسهل تناولاً من أنواع كتابية أخرى، كالقصة القصيرة والسيرة الذاتية الأدبية والشعر، فاليوميات في وجهٍ من وجوهها تدوينٌ وبحثٌ عن صيغةٍ حميمة نابضة لتجسيدِ وقائع وأحداثٍ شخصية، كما أنها تمتصّ من حيث الأسلوب أشكالاً أدبية شتى من دون أن تقيد نفسها بأي منها، وهي بذلك جمعٌ وامتحانٌ فرديان وأدبيان في آن. إنها تتناول الذاكرة بما هي بيتٌ للفكرة والحلم، كما أنها لا تنأى عن مسارات الحاضر والمعيش اليوميين المضطربين، لفئاتٍ شابة ربطت فرديتها وقاسته بحال المجتمع وماضيه وحاضره.

تأخذ اليوميات كذلك من وسائل التعبير وتقنيات الاستعادة، المباشرةَ والإحالةَ والبحثَ والمقارنةَ والشهادة، وهي وإنْ كانت ضميرَ الفرد في أقرب أحواله إلى نفسه وهواجسها، تبقى ذات قيمة تاريخية واجتماعية.

وتحت عنوان «يوميات عربية»، يصدر الشاعر والصحافي اللبناني فيديل سبيتي كتاب «لماذا تركتني في الثورة وحيداً»، في إطار تعاونٍ، على نشر سلسلة يشرف عليها المركز العربي للأدب الجغرافي، بين منشورات المتوسط (ميلانو) ودار السويدي (أبوظبي).

يستعيد فيديل سبيتي طفولته وأخباراً متفرقة عن جده وأبيه، جامعاً ثلاثة أجيال في قبضة واحدة. ومن خلال سيرهم المتقاطعة، نتعرف إلى وقائع لبنانية متداخلة. تبدأ اليوميات بالبيت العائلي اليساري في قرية جنوبية، وتمضي إلى الحقل القريب حيث ملعب الطفولة الأول ومنه إلى بيروت، ثم تعود إليه. لكنّ البيت يتبدل كل فترة، حاله حال المدرسة والأصدقاء الذين ندخل معهم أحياء ضاحية بيروت الجنوبية (الغندور، المصبغة، الشياح)، وكيف تكونت على عجل أثناء النزوح الأهلي من القرى اللبنانية إلى أطراف العاصمة، ثم الهرب من بيروت الحرب الأهلية إلى القرية، فالعودة مجدداً إلى بيروت للدراسة الجامعية ثم الانصراف إلى الكتابة والعمل الصحافي وارتياد مقاهي شارع الحمراء وحاناته.

تجمع هذه اليوميات التحقيق الصحافي إلى التقصي الاجتماعي، وتدور حول السياسة والعائلة دورانها حول الأدب والصحافة، كما تترصد تشكلات وتبدلات المقهى والحانة وليالي السهر، إضافة إلى أنها تربط جدوى الشعار السياسي بقوة التجربة ومطباتها، وتقارن عين الغريب ونظرته إلى المدينة وأحيائها بعين المقيم غير المتنبه إلى ما هو حوله، لتمتحن عبر المقارنة جماليات المكان وذاكرته من خلال قراءة القريب واليومي، وهي في أثناء ذلك تدخل مدارس تشكلت على نحو بدائي يحرسها فقراء امتهنوا العنف ثم تحولوا عناصر مليشيات، وتمزج أرق الليل وبؤس العنف بطوباوية الحلم ورماد المصائر.

تشهد اليوميات على تقلبات بيروت، وتمددها في أحياء جديدة، كانت ملاذ فقراء غاضبين وعنيفين، دمجوا الثورة بالسلاح دمجاً «عصاباتياً»، وأخذت فتيان الأطراف الحالمين إلى مصائر مأسوية، وتفرد فصلاً لمقارنات تتناول أطوار السهر الليلي، وافتتاح حانات في شارع الحمراء ثم التعرف إلى حانات شارع مونو، والجميزة ومار مخايل لاحقاً. وهي في هذه المقارنات الليلية تخطو خطواً فريداً في تفحص مزاج الساهرين بين مياومي السهر وأسبوعيّيه، وتبيان اختلافاتهم وسماتهم بين منتمين إلى جماعة تغلق السهر على نفسها وتعيده وتكرره، وباحثين عن فردية ناشئة كما لو كانت تتحين الفرص لظهورها بعدما وضعت الحرب أيتامها ورسخت سطوة قادة ميليشياتها، فتلمع حين ذاك الميولُ الفردية المتخففة واللاهية واضحةً على مرايا كبيرة عُلّقت في حانات جديدة تتناسل زاحفةً من حانات شبيهة.

يمكن سرداً أساسُهُ البيت والعائلة وسيرة فردٍ في مدينة، أن يضيء على حقيقة عضوية ملموسة لمس اليد، ويرسخ بذلك وجوده وفاعليته، على رغم ما يكتنف تحولاته من إحباط يلقي بظلاله الكثيفة ويخنق محاولات نجاةٍ كثيرة كانت ولا تزال «الثورة» على مختلف معانيها وحدتها الجامعة واليتيمة. وكتاب فيديل سبيتي الجديد يرهن المحاولة هذه بمآلٍ عام/ خاص قيدَ التحوّل السائل إلى أفق غامض.

جاء السؤال/ العنوان «لماذا تركتني في الثورة وحيداً؟» على وقع طلب التعليل والتفسير، فهو بذلك يجد في الطلب -الشبيه بأمرٍ ملحّ- متنه وغايته، ذلك أن الترك وحيداً علامة من علامات التخلي، والأخير لا ينصرف إلى ضمير المتكلم «أنا» وحسب في عبارة «لماذا تركْتَني»، بل يمسّ مساً جوهرياً «الثورة» التي حينما تُركت عانت الوحدة ولبثت فيها عزلاء من غير معين. والشكوى هذه المتضمنة في طلب تعليلٍ كافٍ عن سبب التخلي، تكاد تكون جوهر الكتاب: السؤال وغايته القصوى. يبقى سؤال الكاتب سؤال ابن إلى أبيه، على عهد كان فيه الأب القدوة والمثال، كما أنه سؤال جيل كامل إلى أجيال سابقة، وفي هذا الجمع بين الأبوة المساءَلَة سياسةً واجتماعاً وثقافةً، يبرز الرابط العائلي الفردي إلى حال الجماعة العقائدية الثائرة وكيف استقرت الأرياف والضيع على أطراف العاصمة وغذتها من بؤسها كما تغذت على جديدها الواعد. لكنّ الابن، إذ لم يعد ابناً فقط الآن، يحفر السؤال وفي الآن ينحت المثال المشتهى، فلا يُبقي منهما (السؤال والمثال) بعد رفض حمل الشعلة المتوارثة، سوى الجوهر: «ها أنا أصير حقيقياً شيئاً فشيئاً، عينان وأذنان، وفم ولسان ودماغ. هكذا أفضل»، العبارة التي تختم الكتاب كما لو أنها تصفي الحساب مع السؤالِ الجرحِ الذي تغلب ألمُهُ على ضوئه.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى