نجيب سرور يبحر في ثلاثية نجيب محفوظ (أيمن محمود)

 

 
أيمن محمود
 

مؤلف هذا الكتاب، هو الشاعر نجيب سرور، كاتب مسرحي ومخرج وممثل، ومن أهم مجموعاته الشعرية: "لزوم ما يلزم"، و"بروتوكولات حكماء ريش".. ومن أهم أعماله المسرحية "ياسين وبهية"، ومن كتاباته وأعماله النقدية: "رسائل حول قضايا المسرح" وهي خطابات تبادلها سرور عندما كان يدرس في موسكو مع صديقه المخرج والممثل كرم مطاوع عندما كان يدرس في روما، "وتحت عباءة أبي العلاء"، وله العديد من المقالات والقصائد التي لم يجمعها، وهي منشورة في العديد من الصحف العربية.
في كتابه "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ" يقدم المؤلف دراسة في الثلاثية قائلًا: مهمتنا صعبة، بل غاية في الصعوبة، فالرواية هي "بين القصرين" والروائي هو "نجيب محفوظ" فلتدخل إلى ما بين القصرين، إلى عالم نجيب محفوظ، هذا العالم الرحب الشامل العميق الكبير المزدحم بمشاكل الفن ومشاكل الحياة، ولنعد أنفسنا للرحلة، فهي رحلة طويلة مع قلب يحتضن التاريخ.
ويبدأ المؤلف الرحلة، فيذكر أن أحداث الرواية تدور في أثناء الحرب العالمية الأولى وتبدأ بالتحديد في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1917، ويمكن تحديد الخطوط الرئيسة لتلك الفترة كما يلي، بأنها فترة نشوء البرجوازية المصرية في الريف وفي المدن، وإن البرجوازية المصرية هي يومها الطبقة النامية "التقدمية" التي كانت تتولى قيادة الحركة الوطنية، وأخيرًا أن المجتمع المصري كان ولا يزال مجتمعًا إقطاعيًّا؛ لأن الطبقة البرجوازية "التجار" والرأسمالية لم تكن قد سيطرت بعد على البناء الاجتماعي وإنما كانت تكافح في سبيل السيطرة عليه.
وفي هذا السياق نرى ملامح المجتمع الكبير في هذه الأسرة، فالأسرة تنظيم اجتماعي ينعكس عليه طابع التنظيمات الاجتماعية في مجتمع معين وفي فترة تاريخية معينة، ولهذا فنحن ننظر إلى المجتمع المصري من خلال اسم السيد أحمد عبد الجواد؛ لأنها صورة مصغرة مكثفة لهذا الواقع الكبير الصارخ بالتناقض وبالمعاناة.
ويؤكد المؤلف أن مفتاح الرواية هو أزمة المرأة من خلال شخصية "أمينة".. هي أزمة المرأة في المجتمع الإقطاعي. إن أمينة كائن بلا كينونة وبلا إرادة وبلا ذاتية، كائن مضغوط مقهور مطعون مسلوب الوجود مغلوب على أمره لا يتمتع بحق من حقوق الإنسان.
ويستخلص المؤلف بعض الدلالات التي توضح أن العلاقة بين السيد أحمد وأمينة هي علاقة على الترتيب بين "ذات" و"شيء"، علاقة غير متجانسة وغير متكافئة وغير إنسانية، قوامها الاستبداد المطلق في طرف والخضوع المطلق في الطرف الآخر تمامًا كعقد الإذعان على حد المصطلح القانوني، وهذا ينعكس على علاقة السيد أحمد بأبنائه فهي أيضًا علاقة ذات بأشياء. وأول بادرة تطل منها على الفتاتين "خديجة، وعائشة" تؤكد لنا أنهما تعيشان مأساة الأم، مأساة الشيئية على وجود المرأة في المجتمع الإقطاعي.
ولكن الملاحظ أن محفوظ يهاجم السيد أحمد في حدود الجزء الذي يتحمله من المسئولية عن الأزمة، أي الجزء الإرادي، باعتباره إرادة لها قدر من حرية إزاء النظام، وبصفته فردًا كان يمكنه أن يكون على كل حال أفضل مما هو لو شاء. والملاحظ أيضًا أنه يدافع عن السيد أحمد في حدود ما لا يتحمله من المسئولية عن الأزمة، أي الجزء اللا إرادي باعتباره إرادة مضغوطة هي الأخرى تروح تحت وطأة الجبرية الاجتماعية، جبرية الإطار الإقطاعي.
وبعد ما سبق يرى المؤلف أن نجيب محفوظ لم يحمّل السيد أحمد كل المسئولية، بل اتجه بالجزء الأكبر منها إلى الإطار الاجتماعي، فأصبحت القضية قضية نظام برمته لا قضية إرادة منفردة، وهذا مكسب كبير دون شك نسجله لكائننا بكل إعجاب.

• إدانة صريحة

 
يرى نجيب سرور أن نجيب محفوظ يدين السيد أحمد إدانة دافعة وصريحة وحاسمة فيما هو يؤكد الوحدة والتطابق بين الأب والابن، وذلك بعد زلة ياسين مع الجارية نور: في ثورة الغضب رأى السيد أحمد زلة ياسين جريمة تستحق الإبادة، وفي ثورة الغضب لم يعد يذكر أن ماضيه كله صورة مطولة متكررة من زلة ياسين، وأنه لا يزال دائبًا على سلوكه وقد انتصف به العقد الخامس، وشب أبناؤه فصار منهم الأزواج والزوجات، لا لأنه في ثورة الغضب ينسى حقًّا، ولكن لأنه يحل لنفسه ما لا يحل لأحد من ذويه، له أن يفعل ما يشاء، وعليهم التزام الحدود التي يريدهم أن يلتزموها".
ولا يكفي كاتبنا العملاق في هذا المجال توكيد التطابق بين الأب والابن، بل يدفع السيد أحمد إلى تبرير زلة ياسين بل والدفاع عنه والهجوم على زينب زوجة ياسين، مديرًا في رأس الأب أفكارًا وأسئلة ما كانت لتخطر على ذهنه لو لم تجمعها طبيعة واحدة وتطابق داخلي تام "ما كان يخلق بزوجة كريمة أن تفضح زوجها – مهما كانت الظروف – على النحو الذي فضحت به ياسين".
ورغم هذا يناقض نجيب محفوظ نفسه ويناقض موضوعية الشخوص فيقحم عليها هنا أحكامًا ذاتية إذ يقول: "مهما يكن من أمر فالطبيعتان مختلفتان" لم يكن السيد – كابنه – مغرمًا بالمرأة بلا قيد أو شرط، امتازت شهوته دائمًا بالرفاهية وحداها الانتخاب الرفيع، بل أثرت في ميزاتها ميزات اجتماعية ضمت إلى الميزات الطبيعية المألوفة، كان مغرمًا بالجمال الأنثوي في لحمه وتبخيره وأناقته، فلم تخلُ جليلة أو زبيدة وعشرات غيرهن من ميزة أو أكثر من هذه الميزات "فهو الفرق السطحي جدًّا" بل لا يمكن اعتباره فرقًا بينهما على الإطلاق؛ لأن ياسين أيضًا لم يكن مولعًا بالقذارة ولا زاهدًا في الجمال ولا معدوم الذوق وإنما كان يبحث على قدر إمكانياته.

 
• برجوازية

 
ثلاثية نجيب محفوظ ومسرحية "آل باريت ليبزيه": يقارن الكاتب بين هذين العملين قائلًا: إن أحداث الثلاثية تبدأ عام 1917 في القاهرة بشارع بين القصرين، وأحداث المسرحية تبدأ عام 1845 في لندن بشارع وينبول، والفرق بعيد – إذن – بين العملين في المكان وفي الزمان على حد سواء، وهناك بُعد آخر بينهما: فلقد كان المجتمع في ذلك الوقت يحاول أن يتخطى الطور الإقطاعي، وكانت البرجوازية المصرية تناضل من أجل السيطرة على البناء الاجتماعي، أما المجتمع الإنجليزي فكان قد تخطى فعلًا الطور الإقطاعي، وذلك منذ الانقلاب الصناعي في مطلع القرن السادس عشر، وهناك – أخيرًا – بعد بين العملين وهو البعد بين البيئتين المصرية والإنجليزية!
ويؤكد الكاتب أن الفروق واضحة، بل وصارخة، فمن أين يأتي الشبه بين العملين – بصفة عامة – وبين السيد أحمد عبد الجواد – نموذج نجيب محفوظ – وإدوارد ملتون باريت – نموذج بيزييه – بصفة خاصة؟!
السبب بسيط للغاية: ذلك أن الأساس الاقتصادي للمجتمع يتغير بسرعة أكبر نسبيًّا من تلك التي يغير بها ما يسمى بالرتبة العليا "أو الفوقية" من ثقافة وأفكار وقيم ومعتقدات، ومن هنا ظل السيد أحمد منتميًّا بأفكاره وحدوده إلى الطور الإقطاعي رغم أنه ينتمي بالوضعية إلى البرجوازية الصغيرة التي ترتبط بالبرجوازية الكبيرة في سيرها الحثيث إلى قمة البناء الاجتماعي، أما بالنسبة لإدوارد ملتون فالأمر أبسط بكثير إذ أنه ينتمي بوضعيته وأفكاره معًا إلى الطور الإقطاعي، فهو أحد ملاك الأرض، ومن هنا أيضًا كانت مأساة آل باريت، مأساة أسرة يخنقها الإطار الاجتماعي.

 
• رغبات مكبوتة

 
يشير الكاتب إلى العلاقة الرمزية بين ثورة الشعب عام 1919، و"الثورة" في منزل السيد أحمد، قائلًا: غاب القط السيد أحمد وسقطت فرصة نادرة للثورة، فأخذت الرغبات المكبوتة تعلن – في إلحاح – عن نفسها، الرغبات "الظمأى للحرية" على حد تعبير نجيب محفوظ، وكان ياسين أشد أفراد الأسرة تطرفًا ويسارية، فلعب دورًا ثوريًّا يستحق الإعجاب وقال لأمينة: لا تعارض بالله، إننا نحيا حياة لا يحياها أحد من الناس بل أريد أن أقول شيئًا جديدًا، لماذا لا تروحين عن نفسك أنت؟.
وكان ياسين ماكرًا حين دق لأمينة على هذا الوتر الحساس ليكسب تضامنًا من الجبهة العائلية في الثورة على إرادة السجان – ولم تدرِ كيف تعلن استسلامها الخطير، ولكنها نظرت إلى ياسين وسألته بصوت متهدج زيارة الحسين أمنية قلبي وحياتي، ولكن أباك.. ورددت عيناها بين الأبناء في خجل كأنها تنشد المزيد من التشجيع، فتحمست خديجة وعائشة للاقتراح، وكأنهما تعبران بحماسهما عن رغبتهما في الانطلاق.

 
• ثورة الأسرة

 
ويضيف المؤلف: بكل روعة يبني نجيب محفوظ دراميًّا ثورة الأسرة عامة، وثورة أمينة خاصة حتى يدفع الأخيرة إلى عتبة الباب الخارجي، كالسجين الذي استوفر مدة السجن المؤبد، لا يستطيع أول الأمر أن يميز المرئيات فيروح يدلل عينيه اللتين لا تحتملان النور المفاجئ، ويقف مذهولًا، جامدًا دون حراك.
في مثل هذه اللحظة تتجمع آلام السنين الطويلة، وأمام كثافة هذه اللحظة توضع وتخشع أعتى العبقريات الروائية، ولكن عبقرية نجيب محفوظ تقف أمامها واثقة بنفسها كل الثقة، راسخة كل الرسوخ.
وينتقل الكاتب إلى ثورة 1919، قائلًا: واشتعلت الثورة، وشملت أنحاء مصر، ويقول فهمي بحرارة: هذه هي الثورة حقًّا، فليقتلوا ما شاءت لهم وحشيتهم فلن يزيدنا الموت إلا حياء، فقال ياسين، وهو يهز رأسه عجبًا: ما كنت أتصور أن شعبنا بهذه الروح المكافحة.
والملاحظ في الثورتين، خروج أمينة لزيارة الحسين، ومطالبة الوفد بالسفر إلى لندن، وكذلك التشابه في نفي أمينة، ونفي سعد زغلول، وهنا لا مفر من المقارنة بين نهاية الثورتين، ألم تنتهِ الثورة العائلية بتثبيت سيادة السيد أحمد على البيت؟ ثم ألم تنتهِ ثورة 1919 بتثبيت سيادة الاستعمار والإقطاعي على مصر؟ وإذن ألم تكن الثورة في منزل السيد أحمد بمثابة "بروفة جينرال" لثورة 1919 على حد المصطلح المسرحي؟! ويأتي الكاتب إلى اللوحة الأخيرة من الثلاثية "بين القصرين"، وهو موت فهمي، وكم هي فاجعة اللوحة الأخيرة!
"كيف أصدق أن فهمي مات حقًّا؟" فهمي الذي وهبني العفو طويلًا، فهمي الذي تركنا في الصباح ممتلئًا صحة وعافية، مات؟ لم يكن موت فهمي أول ضربة تلقاها الرجل" الذي تعود حتى ذلك أن يرى كل شيء ينحني أمامه" وإن كانت في الواقع أقسى الضربات.
تلك الضربات، كانت سلسلة من الهزائم، ولكنها كانت أيضًا سلسلة من الانتصارات، الانتصارات على الطاغية في نفس السيد أحمد لحساب الإنسان فيه، هذا الإنسان الذي كان يتجلى أمامنا أكثر فأكثر.. في مظهر الألم.
يذكر أن كتاب "رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ " للكاتب والشاعر نجيب سرور صدر في طبعته الأولى عن دار الشروق بالقاهرة ويقع في نحو 297 صفحة من القطع المتوسط. (خدمة وكالة الصحافة العربية)

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى