نوافذ للحوار| سيف الرحبي: أتجاوز التصنيف النمطي للكتابة (اسكندر حبش)

 

اسكندر حبش

سيف الرحبي، من الأصوات المميزة في الكتابة العربية الراهنة، فعبر سلسلة من المجموعات الشعرية، كما عبر مجموعة من الكتب السردية، افسح له مكانة في خارطة الكتابة، ليطل بها على مشاهد متعددة.
آخر اصدارته «نسور لقمان الحكيم» الذي يقع في هذا «الالتباس»، أي الذي يقع بين الكتابة الشعرية والسردية. هو الآن في زيارة إلى بيروت بعد غياب استمر لسنوات، وفي المناسبة كان هذا اللقاء.

غبت لسنوات عن بيروت، هذه زيارتك الأولى بعدها. لِمَ كانت هذه القطيعة؟

^ بكل أسف حصل ذلك ولا أعرف لماذا. لكن ظلت بيروت كالعادة في الذاكرة والوجدان، مكاناً وأصدقاء وثقافة. نتابع نتاج هؤلاء الأصدقاء وهذه المدينة التي اتسمت بهذا العطاء والثراء الثقافي والفكري حتى في ذروة المآسي والنكبات التي ألمت بها وبغيرها. فبيروت ليست للبنانيين وحسب، إنما هي للذاكرة الثقافية العربية بصورة عامة، كتابة ونشراً ووعياً بالمعنى الشامل لهذه الكلمة. صحيح أن الظروف لم تجعلها تستمر في سياق دورها الريادي التنويري الحر الخلاق، كما كانت في الستينيات والسبعينيات، لكنها ظلت تقاتل الشروط القاسية والظلام والفتن التي تتناهبها من كل حدب وصوب. ظلت مدينة مميزة صداقة وألفة وعمقاً تعبيرياً لا ينضب. ومن المؤسف أن ليس ثمة مدينة عربية تقوم بمثل هذا الدور حالياً. إننا أمام مشهد هذا الحطام والفعل الإبداعي الفردي الذي يقاتل ضد القطيع.
حين أغيب عن بيروت فترة، أحس بذلك الفقد والانفصال الذي ربما لا أحسه مع مدينة أخرى.

والكتابة بين هذه الأماكن كلها هل تأثرت أم أن الكتابة أصبحت مكاننا الأخير الذي نلجأ إليه؟

 أعتقد في هذه اللحظة العبثية الدامية والفظيعة، في ظلّ هذه الإبادات والقتل الجماعي العشوائي والمجاني غالباً، كما أرادت له ورسمته قوى محلية إقليمية ودولية، أن تكون هذه المنطقة العربية وعلى الرأس منها بلاد الشام والهلال الخصيب التي تمتد من سيناء المصرية إلى الهضبة الإيرانية، أن تكون بؤرة هذا الحريق وهذه الاستباحة المجانية والعشوائية في القتل والخراب على نقيض إمكاناتها الحضارية والروحية، وعلى نقيض مخزونها العظيم من التراثات الأدبية والفكرية والدينية والفلسفية والمتراكم والمترسب عبر الأزمان والأجيال والقرون. في ظلّ هذا المناخ الأسود الحالك، يطال السؤال حتى الكتابة نفسها: ماذا تعني الكتابة في هذه اللحظة؟ كان الفيلسوف الألماني أدورنو يتساءل «ماذا يعني الأدب أو الكتابة بعد أوشفيتز؟»، ونحن بهذه المنطقة ربما نتساءل ماذا بعد هذا الأرخبيل من «الأوشفيتزات» والإبادات التي طالت كل شيء مادي وثقافي وروحي، وقد تصدرت المشهد هذه الطائفية الظلامية المتطرفة البغيضة التي لم تكن موجودة على هذا النحو من الفظاظة والحدة، حتى في أكثر العصور ظلاماً وانحطاطاً.
بالفعل ماذا تعني الكتابة في هذا الجو القاتل، المدوخ، الراعب، وماذا تعني الحياة، حياة الآخرين، حياة البشر، حين تستباح على هذا النحو، وماذا تعني القيم الأخلاقية والروحية بالنسبة إلى الجنس البشري بصورة عامة؟ إنه لأمر مخجل ووضيع أن نكون في هذا العصر ونشهد هذه الفظاعات وهذه الانتهاكات لأبسط حقوق الإنسان بالحياة والكرامة.
ربما تستحيل الكتابة وهي عزلاء ومجردة من أي فعل حقيقي لهذا المشهد الدموي الكاسح. هل تبقى نوعاً من فعل فردي لحماية الذات من الانهيار؟ هل تستطيع أن تحمل نوعا من فعل احتجاج على ما يهيمن ويسيطر من ظلام وانحطاط من طوائف وجماعات وتصورات تفوق كل وصف بربري أو ظلامي؟
في النهاية، هذه النخب الثقافية التي تكتب قدرها الكتابة، وأتكلم عن الجانب الذي لم يتورط في اصطفافات طائفية أو مصلحية ضد إنسانية الإنسان وكرامته وضد موقف الكتابة الحقيقي ونبلها وتعاليها على الصغائر والحساسيات باتجاه جوهر الإنسان وكرامته وفحواه.

«الهجانة» التعبيرية

نلاحظ في الفترة الأخيرة تواتر كتاباتك السردية باطراد. أولا، هل أن الشعر لم يعد يستطيع التعبير عن كل شيء؟ وثانياً، لمَ هذا الذهاب في اتجاه كتابات تغرف من أدب الرحلة والرواية الخ؟

^ بداية، أنا لست غريباً على صعيد الكتابة عن هذه «الهجانة» التعبيرية، أول كتاب أصدرته في دمشق في بداية الثمانينيات، كان يحمل هذه الإرهاصات الهجانية التعبيرية، هذه المنطقة الملتبسة شعرياً وسردياً، واستمرت عبر السنوات الثلاثين الماضية تخترق كل ما أكتب من شعر ونثر إذا صحت هذه الثنائية، وهي غير صحيحة في الحالة التعبيرية التي نحاولها، وقد وجدت نفسي عبر السنين والكتب المنجزة المختلفة، أقيم في هذه المنطقة التي تتجاوز إذا صح التعبير، التصنيف النمطي للكتابة، وتتوسل أشكالا تعبيرية مختلفة تبدأ من الرحلة والشعر والسرد ولا تنتهي بالتأمل والترحل في تخوم المكان والروح البشري المتشظي والممزق، فالحالة الكتابية تحفر مجراها في هذا السياق من غير تنظير مسبق ومن غير توسل تخطيط نظري منجز كهذا. أقذف نفسي وكتاباتي في خضم هذا السديم المتماوج بالأمكنة والشخوص والأزمنة والحروب المحتدمة في الواقع والمخيلة. كتابة تغرف من معين الشتات بقدر ما تغرف من بيئاتها الوحشية الأولى من صحارى وجبال وبحار تشكل عنف المسوّلة الأولى للخليقة والكتابة.

كتابك الأخير، «نسور لقمان الحكيم»، يقع في هذا الالتباس، هل تصح هذه الصفة؟ ولمَ هذا العنوان؟

^ بالضبط، هو يقع في هذه المنطقة من الالتباس التعبيري أو التعددية التعبيرية. والكتاب ينقسم إلى جزءين، الجزء الأول يتضمن رحلة إلى الجبل الأخضر وهو سلسلة جبلية من عُمان تسمى بهذا الاسم وتمتد من داخل عمان الحجري حتى رأس الخيمة، ومن ثم عبر البحر إلى جبال غوروس الإيرانية. هذا الجبل من الذاكرة العمانية له مكانة مميزة على المستوى الخرافي والأسطوري والمستوى الواقعي التاريخي. ومن المفارقات أنني كنت منذ ثلاثين سنة أصدرت كتاباً حين كنت مقيماً في دمشق بعنوان «الجبل الأخضر». هذا الكتاب الذي كُتب عن بعد، ها أنا الآن أتسلق الجبل واقعياً وحسياً وليس فقط عبر المسافة والحنين، إنها مسافة الزمن والغيابات المتراكمة. وبما أن الكتاب يتوسل هذه البيئة الأزلية الوحشية، كان عنوان «نسور الحكيم» التي تقول الحكاية إن لقمان عاش بعمر 10 نسور وكل نسر عاش 600 عام. إنه تعبير، ربما، عن أزلية المكان وقدمه وتجذره في الزمن والطبيعة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى