أرجوكم تريّثوا ولا تنخدعوا بتهديداتِ بايدن “المسرحيّة” بوقف الدّعم العسكريّ لإسرائيل.. فاجتياح رفح بدأ عمليًّا
عبد الباري عطوان
تهديدات جو بايدن بتجميد صفقة من القنابل العِملاقة لدولة الاحتلال الإسرائيلي لمنع اجتياح جيشها لمدينة رفح مُجرّد “مسرحيّة” سيّئة الإعداد والإخراج للإيحاء بوجودِ خلافٍ بين الحليفين، وامتصاص الغضبة الثوريّة الطُّلّابيّة في الجامعات الأمريكيّة، بِما يُؤدّي إلى منعِ حربٍ أهليّة، وتعزيز فُرصه في الفوزِ بانتخاباتِ الرّئاسة في تشرين ثاني (نوفمبر) المُقبل، وإنقاذ حليفه المِصري المُتواطئ الذي يتحلّى “بضبْطِ النّفس” تَهَرُّبًا من التِزاماته الإنسانيّة والأخلاقيّة، ناهيكَ عن العربيّة والإسلاميّة الأهم.
بايدن كاذبٌ مُحترف، ويتفوّق على نتنياهو في هذا المِضمار، وتهديداته هذه ليس لها أيّ قيمة، ولن تمنع الجيش الإسرائيلي من اقتِحامِ المدينة للأسباب التّالية:
أوّلًا: القوّات الإسرائيليّة دخلت فِعلًا مدينة رفح، واحتلّت معبرها مع مِصر، ورفعت الأعلام الإسرائيليّة على سِواريه وأغلقته بالكامِل، ممّا يعني وقف المُساعدات على قلّتها، وفرض المجاعة على المدينة وكُلّ القطاع.
ثانيًا: القنابل التي هدّد بايدن بتجميدها، وليس منعها كُلّيًّا، (1800 وزن ألف كيلوغرام، 1700 وزن 500 كيلوغرام) يُوجد الآلاف منها لدى دولة الاحتِلال، وجرى استِخدامها في تدمير مدينة غزة، ومُعظم المُخيّمات الوُسطى، ومدينة خان يونس، وما يُوجد في ترسانة دولة الاحتِلال العسكريّة حاليًّا يكفي لتدمير مدينة رفح بالكامِل.
ثالثًا: القوّات الإسرائيليّة تُسيطر حاليًّا على محور صلاح الدين، أي فيلادلفيا الحُدودي مع مِصر، في خرقٍ للتعهّدات الإسرائيليّة للرئيس بايدن، ولاتّفاقات كامب ديفيد ووليدتها اتّفاقات أوسلو، وهُما اللّتان جرى توقيعهما في البيت الأبيض وبضماناتٍ أمريكيّة للطّرفين، المِصري والفِلسطيني.
رابعًا: نتنياهو مُتفاهمٌ مُسبقًا مع بايدن على كُل خطوة لقوّاته في الحرب على القطاع، فالثّاني لم يُطالب مُطلقًا بوقف إطلاق النّار واعتبر حرب الإبادة الإسرائيليّة دفاعًا عن النّفس، ولم يُوقف صفقات الأسلحة عن “إسرائيل” طِوال الأشهر السّبعة من بدء الحرب، وكافأها بحواليّ 26 مِليار دولار من المُساعدات الماليّة (كاش)، الأمر الذي أثار حسَد وحسْرة وغضب زيلينسكي الأوكراني.
خامسًا: لو كان الخِلاف بين بايدن ونتنياهو جديًّا لأرسل الأوّل (بايدن) حاملات الطّائرات إلى شرق المتوسّط، مثلما فعل في تعاطيه مع تهديدات “حزب الله” بتوسيع دائرة الحرب، حِفاظًا على هيبة أمريكا التي تمرمغت بالتّراب.
سادسًا: تهديدات بايدن تفتقر إلى الجديّة، ولو كان صادقًا لأوقف مُفاوضات القاهرة للوصول إلى هدنةٍ في قطاع غزة، وسحب مُمثّليه فيها فورًا، فكيف تستمر هذه المُفاوضات برعايةٍ أمريكيّة بعد اجتِياح مدينة رفح، ومُوافقة حركة “حماس” على مشروع الاتّفاق بعد التّعديلات الأمريكيّة ورفضها من قِبَل حُكومة نتنياهو؟
لن تخدعنا تهديدات بايدن وأكاذيبه هذه، فهُناك اتّفاق أمريكي- إسرائيلي مُسبق على اجتياح قطاع غزة، واستخدام “الحرب الجبانة” بقتل وإصابة مئات الآلاف من المدنيين لتثوير الحاضنة الشعبيّة الفِلسطينيّة الغَزّيّة ضدّ المُقاومة وإجبارها على رفع الرّايات البيضاء استِسلامًا، ولكنّ الصّمود الإعجازي، والتّلاحم الحالي بين الجانبين، والإدارة الدّاهية للحرب، وفشل العُدوان الإسرائيلي في تنفيذِ جميع أهدافه، كُلّها عوامل نسفت كُل حسابات الإدارة الأمريكيّة، وفجّرت الثّورة الطُّلّابيّة الأمريكيّة، وجعلت من الصّهيونيّة الأكثر كُرهًا في العالمِ بأسْره.
الرئيس بايدن أصدر تهديدات مُماثلة بوقف الأسلحة عن إسرائيل تحت ذريعة الاحتِجاج على استِشهاد سبعة من مُوظّفي الإغاثة الذين كانوا يعملون في إطار مُنظّمة “المطبخ المركزي” بصواريخٍ ومُسيّرات إسرائيليّة، مثلما توعّد بفرض عُقوبات على أربع وحَدات من المُستوطنين مارسوا أعمالًا إرهابيّة ضدّ الفِلسطينيين في الضفّة، وسحب جميع أقواله، ولم يُطبّق أيًّا منها.
من يُهدّد لا يُكبّر حجره، ويُنفّذ تهديداته بصمت، وهُناك أمثلة عديدة تكشف عن وجود قادة أمريكيين يقولون ويفعلون، ونبدأ بالرئيس دوايت أيزنهاور الذي أجبر فرنسا وبريطانيا بالقوّة من الانسِحاب من قناة السويس، وإنهاء سيطرتها عليها أثناء العُدوان الثّلاثي عام 1956، وأمَرَ القوّات الإسرائيليّة بإنهاء احتِلالها لقطاع غزة والانسِحاب فورًا، ويُفيد التّذكير في هذه العُجالة أيضًا بالرئيس جورج بوش الأب الذي أوقف جميع ضمانات القُروض لإسرائيل لإجبار إسحق شامير رئيس وزرائها في ذلك الحين، لحُضور مُؤتمر السّلام في مدريد.
بايدن الذي يتباهى بصُهيونيّته ودعمه للدّولة اليهوديّة العُنصريّة في فِلسطين المُحتلّة ليس من هذا الصِّنْف من الزّعماء، ويرتعد خوفًا من نتنياهو الذي “ضبعه” وتحدّاه، ورئيسه (أوباما) عندما كانا في السُّلطة، وخاطب الكونغرس دُونَ السّلام عليهما أو أخذ أذنهما.
وجود جندي إسرائيلي واحد على أرض رفح تحدّيًا لبايدن وتهديداته ورعايته لمُفاوضات القاهرة، كان كفيلًا بفرض عُقوبات سريعة على نتنياهو وحُكومته انتفاضًا لكرامته، ولكنّه لا يعرف الكرامة، وكُل أحاديثه عن حماية المدنيين في رفح دُموع تماسيح فلو كان صادقًا لما سمح بتدمير المُستشفيات، واغتيال أكثر من 35 ألف مُواطن مدني مُعظمهم من النّساء والأطفال، والصّور والفيديوهات تُوثّق ولا تكذب، فمدنيّو رفح لا يختلفون مُطلقًا عن أشقّائهم في غزة وجباليا وخان يونس والمُعسكرات الوُسطى الذين أبادتهم ودمّرت بُيوتهم طائرات الاحتِلال.. فلماذا لم يتحرّك بايدن لحِمايتهم؟
نتنياهو يستمتع بتحدّي بايدن وإذلاله ولو في مشاهد مسرحيّة، بتأكيده أنه سيمضي قدمًا في خططه لاقتحام مدينة رفح بهدف القضاء على 4 كتائب من حماس تتواجد فيها على حدّ زعمه، ولكن رجال المُقاومة الذين يتحرّقون شوقًا لمُواجهة قوّاته سَيُلقّنونه درسًا من الإذلال والهزائم سيقضّ مضجعه، ويحرمه من النّوم طِوال الأيّام والأشهر والسّنوات المُتبقّية من حياته خلف القُضبان.
قصف المقاومة الصّاروخي للقاعدة العسكريّة في كرم أبو سالم شرق مدينة رفح، وقتل خمسة من جُنودها وإصابة 14 آخَرين قبل يومٍ واحد من اجتياح قوّاته للمدينة كان رسالة ترحيب لنتنياهو وقوّاته، وتقديم عيّنة له لما يُمكن أن ينتظره وجيشه في المدينة الصّامدة، ومثلما هربت القوّات الإسرائيليّة من خان يونس بعد خسائر كبيرة في معركة السّيطرة عليها التي استمرّت أربعة أشهر، ستَهرُب مرّةً أُخرى من مدينة رفح وبخسائرٍ أكبر، وسيترحّم جِنرالاتها على أيّامهم في الحارةِ “الخانيونسيّة”.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية