أليكس جوسكي: هكذا خدعت الصين النخب الأميركية…يُقدم كتاب «جواسيس وأكاذيب: كيف خدعت أعظم العمليات السرية الصينية العالم؟» (دار هاردي غرانت 2022 ـــــ Spies and Lies: How China’s Greatest Covert Operations Fooled the World) دراسة لوكالة الاستخبارات الصينية، أو ما يُعرف بوزارة أمن الدولة. يرى مؤلف العمل الباحث الصيني الأسترالي أليكس جوسكي أن أعظم قوة لدى الاستخبارات الصينية، هي عمليات التأثير الناجحة على نطاق واسع ضد النخب السياسية والتجارية الأميركية وليس جمع أسرار عن الحكومة أو الشركات الأميركية. وفقاً لرواية جوسكي، فإن أي أسرار عسكرية أميركية استخلصتها الاستخبارات الصينية في العقود الأخيرة تتضاءل مقارنة بجهودها المذهلة والناجحة لخداع أعلى المستويات في عالم صناعة السياسة الأميركية بشأن أهداف وأولويات سياسة الصين الخارجية.
يبدأ جوسكي الحكاية مِن محاولة جورج سوروس اختراق الصين في الثمانينيات من خلال إنشاء صندوق الصين لدعم وتعزيز المجتمع المدني الصيني الناشئ. وقتها أصبح سوروس معروفاً بجهوده المماثلة في موطنه المجر، ثم في وقت لاحق في جميع أنحاء أوروبا الشرقية الشيوعية آنذاك. لكن على النقيض من مبادرات «المجتمع المفتوح» التي لعبت دوراً مهماً في أوروبا الشرقية ما قبل الشيوعية وما بعدها، قُوِّض صندوق الصين الذي أسسه سوروس، ثم تمت استمالته بالكامل في وقت لاحق، من خلال عملية استخباراتية متطورة بقيادة الاستخبارات الصينية.
سعت الحكومة الصينية إلى إيقاف جهود سوروس، وخصوصاً في أعقاب تظاهرات «ميدان السلام السماوي» عام 1989. لكن بكين لم تستهدف إغلاق الصندوق، لكنّها أجبرته على الشراكة مع كيان صيني محلي كان في الواقع واجهةً يقودها أحد كبار عملاء الاستخبارات الصينية. وقد تمكن هذا الكيان الصيني من استخدام ارتباطه بسوروس للحصول على شرعية دولية ومحلية. اللافت في العملية الصينية ضد سوروس أنه شارك فيها ساسة وأكاديميّون ورجال أعمال أجانب، ولم تكتف العملية بالمراقبة فحسب. توسّعت اللعبة مع إنشاء مجموعات مجتمع مدني صينية، توهمت النخب الأجنبية أنه يمكن استخدامها للتعرف إلى الصين والتأثير على سياساتها.
يقدم جوسكي دليلاً على أن الاستخبارات الصينية أمضت عقوداً في اختراق «مؤسسة السياسة الأميركية الصينية» (USCPF) لبناء علاقات مع كبار الخبراء الأميركيين في شؤون الصين. وكان كبار الأكاديميين الأميركيين في الصين، الذين تنقّلوا ذهاباً وإياباً بين الأوساط الأكاديمية، ومراكز الأبحاث، ومجلس الأمن القومي، منتسبين إلى USCPF أو أعضاء في مجلس إدارته. وهكذا، يشرح جوسكي بالتفصيل كيفية إدخال عملاء الاستخبارات الصينية السريين الرئيسيين إلى عقول صانعي السياسات الأميركية والنخب الأكاديمية، مع اعتماد تكتيك استخباري يهدف إلى دمج العُملاء الصينيين سرّاً في التبادلات الأكاديمية مع أفضل الجامعات ومنظمات الأعمال الأميركية.
خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اخترقت الاستخبارات الصينية كل المُستويات الرفيعة للنخب الأميركية. نجحت عمليات التأثير في إحداث تغيير ملموس على سياسة الولايات المتحدة بدعم من شبكة النخب الأكاديمية ورجال الأعمال الأميركيين وحافظت السلطة الأميركية على سياسة المشاركة لفترة أطول مما ينبغي.
وفي ادعائه الأكثر أهمية، يزعم جوسكي أنّ السرد الذي شاع في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنّ قادة الصين يسعون إلى «الصعود السلمي» على نحو لا يتحدى الولايات المتحدة، كان مخططاً متقناً لإدارة الأمن الاستراتيجي لتهدئة صناع القرار في الولايات المتحدة ودفعهم إلى عدم الصدام مع بكين. هذه كانت إحدى الخطط الاستراتيجية للاستخبارات الصينية التي قدمتها عبر ما يعرف بـ «منتدى الإصلاح الصيني»، وهو مركز أبحاث صيني تعاملت معه النخب الأميركية باعتباره نافذة مؤثرة على تفكير الحكومة الصينية، وعمل المنتدى على تعميم هذا المفهوم وأقنع النخب الأميركية بأن هذه هي السياسة الفعلية للحكومة الصينية. لقد سهّل مفهوم الصعود السلمي على حكومة الولايات المتحدة الاستمرار في التعامل مع الصين كشريك والتركيز على التهديدات المختلفة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى.
أخذت حكومة الولايات المتحدة رواية الصعود السلمي على محمل الجد أكثر من اللازم. لكن رغبة حكومتها في قبول هذا السرد، لم تتعارض مع مقاييس أخرى للسلوك الصيني. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين طُرح هذا المفهوم، لم تكن الصين تحدث الكثير مِن المشكلات في بحر الصين الجنوبي، وتوصلت في النهاية إلى تقارب مع الحكومة في تايوان، ولم تكن قد بدأت حتى بعمليات اقتحام منتظمة للمياه التي تسيطر عليها اليابان حول الجزر المتنازع عليها.
إن صنّاع القرار السياسي في الولايات المتحدة، الذين يواجهون تهديداً إرهابياً عالمياً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ويتعاملون مع حربين في العراق وأفغانستان، قد يُغفر لهم قبول سرد الصعود السلمي على ظاهره. وهو يتناسب مع تفضيلاتهم السياسية وكان مدعوماً ببعض الأدلة على الأقل. وربما كان صنّاع القرار السياسي في الولايات المتحدة متأثرين بالاعتقاد بأن نوايا الصين كانت حميدة أكثر مما كانت عليه في الواقع. ولكن من المرجح أن تكون تفضيلات صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة قد دفعت حكومة الأخيرة إلى هذا الاستنتاج حتى من دون تأثير الاستخبارات الصينية.
من خلال الكشف عن تاريخ عمليات الاستخبارات الصينية مع النخب الأميركية، يُضاء على مصادر يجهلها كثير من المحللين والصحافيين المعنيين بدراسة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة. بكين تبدو لاعباً مجتهداً وأكثر ذكاءً من الأخ الأكبر للماضي (الاتحاد السوفياتي) في إدراك أهمية وديناميكية مراكز الأفكار ولوبيات التأثير داخل واشنطن، وبالتالي نجحت بشكل نسبي في اختراق أعلى دوائر صنع القرار في النخبة الأميركية.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع سياسات الولايات المتحدة أن تقطع كل علاقاتها مع المجتمع المدني الصيني في محاولة لقطع الطريق على الاستخبارات الصينية. تحتاج الولايات المتحدة إلى أكبر قدر من المعلومات والتبادلات مع الصين. وطالما أن صناع القرار في الولايات المتحدة والصين يدخلون الاجتماعات والمؤتمرات من دون تحيزات أو مؤثرات مُسبقة، سيكون هذا مُهماً للسلام بين البلدين.