الحرب لعنة !..وصانعو الحروب يشعلونها من دون أن يرف لهم جفن، وربما يشعرون بالسعادة وهم يتفرجون على ماجنته أياديهم من دم وموت ودمار وتشريد، أو ربما ينتشون وهم يشمون رائحة البارود وهي تفوح من أجساد البشر المحروقين.
تعود المسألة إلى 8 تشرين الأول عام 1973 ، أي قبل خمسين عاما من اليوم ، وكانت الحرب قد اندلعت، وكان السوريون والعرب سعداء بالحرب ، فقد أحسوا أن حرب تشرين تعيد لهم الشعور بكرامتهم التي هدرت في حزيران عام 1967 ، وأن بإمكان حلمهم باسترجاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة أن يتحقق.
يومها قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف دمشق، تسللت من لبنان، ورمت أحمالها فوق ساحة الأمويين وما كان يسمى بالحي القنصلي بدمشق (شارع الحسن) إضافة إلى حي أبي رمانة، وكنا مجموعة طلاب ثانوي في بيت صديقيّ بسام وعصام الحمزاوي ، وهو ملحق في حي الروضة نراقب القصف بالعين المجردة.
وسريعا وجدنا أنفسنا نتفرق، فنزلنا من البيت إلى الشارع، واتجهت أنا نزولا نحو قصر الضيافة، لأشاهد بأم عيني عمليات الإنقاذ في المركز الثقافي السوفييتي الذي دمره القصف الاسرائيلي، وكان يقع في ذلك الوقت مكان نقابة الأطباء حاليا..
والمشهد كما أستعيده الآن كان مفاجئا لي في ذلك العمر (17 سنة)، فالجثث متناثرة في الأرض والجرحى يصرخون وهم ينقلون إلى سيارات الإسعاف، وتدافع الناس يساعدون رجال الإنقاذ، فإذا بي أندفع بينهم لأساعدهم ، وفجأة لاحت أمامي أشلاء طفل بين الأنقاض، فحملته في حضني واتجهت إلى سيارة الإسعاف التي أقلعت مباشرة إلى أحد المشافي الخاصة القريبة، وفي السيارة أحسست برخاوة جثه الطفل ودفء الدم المخلوط بالتراب، وعرفت أنه ميت، وكانت تلك أول مرة أندمج مع الموت وأحس برهبته، ففزعت.. وضعت الجثة على أرض المستشفى، وسمعت صوت ممرضة تسألني إذا كنت أجيد حقن الابر، ثم وجدت نفسي أحقن المصابين بابر لا أعرف نوعها ..
نعم . وقتها عرفت أنها تعني الموت والخراب، فكرهتها، وظل السؤال يراودني دائما عن فائدة الحرب وجدواها، وكلما تقدم بي العمر، واتسعت مداركي أستعيد السؤال نفسه، فإذا الحرب أكبر بكثير من الأحاسيس التي شعرت بها ، ورافقتني في أكثر من حالة في بيروت والجنوب اللبناني وفي الحرب الحالية على السوريين، وخاصة عندما صورت فيلم كويريس وذهبت إلى هناك أثناء الحصار ، وكنت أقفز بين الجثث هربا من الحمم التي تطلق علينا !
أنا لا أحب الحرب، ولست فارسا أدعي مقدرتي على خوضها، وبالمعنى العام لا أحد يحب الحرب ، ولكن ماذا لو فرضت عليه، تلك هي المسألة، فالحرب تفرض على الناس، وعلى هؤلاء أن يتعايشوا معها ، ومع تفاصيلها من موت ودم ودمار .
يمكن للقارئ أن يتعرف على الكثير مما قيل فيها ، وغاندي أمسك الفكرة من طرف آخر عندما ذهب إلى فكرة السلام الذي هو نقيض الحرب،فليس هنالك طريق للسلام، بل إن السلام هو الطريق، كما قال.
هل حقا السلام هو الطريق إلى السلام أم أن خوض الحرب هو الطريق الأمثل؟!
تلك هي حال العرب مع التاريخ والعدوان والاحتلال والاستعمار والظلم، وخاصة هذا الذي نعيشه اليوم في فلسطين وسط جلبة الآلة العسكرية الإسرائيلية والأمريكية، وهي تحصد الحضارة والإنسانية بآلتها الضخمة !