“إهانة غير ضرورية” رواية تقف في مواجهة إهانات العالم…من المعلوم التأثير الكبير للمكان في الفرد وبالتالي في المجتمع، وهو ما تكشفه الفنون والآداب، ولعل من أمثلة ذلك ما ينتج من أدب في الخليج العربي. فنصوص كثيرة ترصد التغيرات الكثيرة التي طرأت على المجتمعات الخليجية، ولكنها هي ذاتها تتغير وتتطور. حتى في تناولها لقصص من التاريخ فإنها تطرحها بأساليب مجددة مختلفة تثير التساؤل بجرأة أكبر. وهذا ما نجده في رواية “إهانة غير ضرورية”.
“إهانة غير ضرورية” رواية تقف في مواجهة إهانات العالم
لطالما شدتني الأعمال الأدبية التي تنحاز فيما تتناوله لبشر الهامش. ففي الوقت الذي نعيش فيه احتفاء متواصلا بالإنجازات الكبرى والبطولات الحقيقية والزائفة وكل ما هو ساطع ومبهر، يأتي أدب الهامش ليحتفي بهشاشتنا المشتركة. تلك الصدوع التي تترك أثرها على أرواحنا قبل الأجساد وتوحدنا بذلك. إنه الضعف الجوهري، الذي يمكن إنسانا يعيش في المملكة العربية السعودية، بأن يلتقي بشخص آخر في كوستاريكا على سبيل المثال. ومن هنا كانت النقطة الأولى التي أسجل فيها اهتمامي بعمل السعودي إياد عبدالرحمن “إهانة غير ضرورية”.
النهاية الديستوبية
الرواية تكشف عالما موازيا هو عالم الفقر المدقع الذي يتقاطع بشكل مفارق مع التطور الباذخ للمكان المحيط.
تأخذنا إهانة إياد غير الضرورية إلى عالم هامشي شديد الضآلة هو عالم الحبشي “آدم” الذي تقوده الظروف التاريخية ليكون “آغا” في “مكة” و”المدينة المنورة”. ولمن لا يعرف هذا المصطلح، فإن سلالة الأغوات المكية، هي سلالة من الرجال المخصيين من ذوي الأصول الأفريقية. الذين امتهنوا جيلا بعد آخر خدمة المتعبدين في الحرمين المكي والمديني المقدسين بداية من 1161 ميلاديا حتى وقت حديث نسبيا هو العام 1979.
هو شرف ومفارقة كما يشير العمل الذي يقوم على رحلة مريرة من العذابات بدءا من عذاب الجسد، مرورا بعذاب الرحلة من وطن إلى مقام أبدي جديد. بينهما بحار وموت وامتهان أيضا. كما وانعدام لأبسط الحقوق الإنسانية الممكنة.، أما ما هي دلالة الإخصاء هنا؟ فبالتوازي مع كثير من المراجع التاريخية التي تربط إخصاء الخدم الذكور بالتأكيد على الإخلاص للمخدوم من حيث الانصراف عن كافة الشهوات نحو الخدمة والتبتل هنا في خدمة ضيوف الرحمن. تأتي الرواية لتقدم مفارقة مهمة حول ماهية الإخصاء وسؤال الجنسانية، هل هو جسدي أم نفسي؟
تكشف الرواية، الصادرة عن منشورات تكوين الكويت سنة 2023، أيضا فيما تكشف،
عالما موازيا، هو عالم الفقر المدقع، الذي يتقاطع بشكل عكسي وللمفارقة الشديدة مع التطور الباذخ للمكان المحيط، الذي شهد كغيره من مناطق الخليج وشبه الجزيرة نتائج الطفرة النفطية وتحولاتها، فأنت تحس بالجوع وتتشارك الرطوبة العطنة للمساكن العشوائية والتكدسات البشرية والاختراقات غير القانونية، التي يبررها ضعف قد وصل بأهله إلى القاع ومع انعدام الحيلة، فيأتي الاحتيال ليكون سيد الموقف.
كما تكشف العمل في موقع آخر عن تحول الضحية التاريخية إلى جلاد بدوره، ونحن نمر بالعقوبة الشنيعة التي أقدم عليها بعض الأغوات تجاه ذلك الشيخ الذي ادعى أنه مخصي، لتنطلق بعدها رحلة طويلة نحو المعنى يشارك فيها “آدم” ذلك الشيخ في ارتحاله وبحثه، ويدرك من جديد هوية أخرى له، هي آدم بمعزل عن عالم الأغوات، هوية متمردة لطالما حاول ذلك العالم القسري لجمها، إلا أن ذلك المعنى يتفتت في الوصول أخيرا إلى تلك النهاية العبثية لمصير الشيخ مدعي الإخصاء وعائلته، الأمر الذي يجعل “آدم” هنا يدخل في حالة من الاستسلام الممتد لفكرة اللاجدوى.
يتصاعد هذا الاستسلام تدريجيا وهو يروي حكايته من وسط حطام منزله وسط سيول مدينة “جدة”، محاولا أن ينجو بحياته قبل تلك النهاية الديستوبية، في رمزية لما تسحقه المدن اليوم في بشر الهامش بالمعنى الحرفي والمجازي. بالإضافة إلى سؤال مرعب يتردد صداه في روحك حتى بعد ترك العمل، فهل كان كل ذلك ضروريا حقا؟ وهل كان كل ذلك امتهانا فردانيا لبطل الرواية أم أنه إهانتنا جميعا نحن الذين نتابع بصمت، وبدون استنكار؟
لجوء متبادل
نعود من جديد إلى رمزية الإخصاء، فهل تحدث الجنسانية في الذهن؟ هذه نقطة مثيرة للاهتمام تستعرضها الرواية مع تطور الشخصية الرئيسية مع إدراكها لفكرة الجسد المخصي. باختفاء مكمن الذكورة كما يشير التشريح البيولوجي ومكمن الرجولة كما يعتقد المجتمع. إذ تأخذ شخصية “آدم” على عاتقها إبراز ذلك من خلال الربكة التي يدخل فيها الذهن والجسد بين المشاعر الجياشة تجاه تلك الفتاة بمفهوم عذري ساذج للحب. كما يدرك لاحقا متى ما حصل الصدع بينه وبين تلك الفتاة باعترافه الذي باغتها. ثم تلك الربكة الأكبر وهو يحار بين الجسد وثورته في علاقته مع “راجح” وبين المشاعر المربكة التي تكونت تجاهه لاحقا بشكل لا منطقي كما هو عرف المجتمع.
المثلية
من هنا قد يطرح سؤال مهم: هل كانت مثلية البطل ضرورية؟ وهل هي مثلية ذهنية واعية أم أنها نتاج لذلك العنف القسري الذي مورس على الجسد؟ في الحقيقة ليست هناك إجابة واحدة لذلك. وهو ما أحبه دائما في الأعمال التي تطرح أسئلة جوهرية قابلة للتأويل كهذا العمل. لكن هناك إحالات في بعض التفاصيل جعلتني أعود إلى سؤال الفرنسي ميشيل فوكو فيما طرحه حول تاريخ الجنسانية وشكلها الأحادي. وعن مدى الفصل الحقيقي بين اللذة الجسدية والأخرى الذهنية وفي أي مرحلة تاريخية تحديدا حصل ذلك الافتراق.
ناقش فوكو ذلك منطلقا من التاريخ المسيحي. لكن أظننا ونحن نتقاطع مع هذه المفارقات حول الجنسانية في هذا العمل فإننا نعود بالفكرة إلى جذرها الإنساني. و”آدم” يمزج اللذة بالشعور ويخشى ذلك. ومتى ما تعاظم ذلك الارتباك في الداخل والخارج، كان من الضروري أن يحدث البتر في العلاقة بينه وبين “راجح”. على الرغم من أن اللقاء بينهما هو أكبر من لقاء جسد بجسد. بل هامش يجد وطنه في هامش آخر. ولأنهما معا لا يفهمان إلا مرجع التاريخ والمجتمع، كان من الصعب أن يستمر ذلك اللجوء المتبادل بينهما.
الرواية الجديدة
الكاتب يأخذنا إلى عالم هامشي شديد الضآلة هو عالم الحبشي “آدم” الذي تقوده الظروف ليكون “آغا” في مكة
هناك جانب آخر تجب الإشارة إليه لأنه يحسب للعمل. إذ أنه لا يكفي لتطوير عملية السرد العربي، أن نكتفي بعرض حكاية لافتة ومثيرة للجدل نسبيا. فعلى التوازي من ذلك، يجب أن يتم الكشف عن بناء سردي ولغوي فريد. وهذا ما وفق إياد في العمل عليه. فالحكاية اللافتة رافقها ذلك البناء السردي غير المألوف والذي يبقيك مشدودا حتى النهاية. بينما جاءت اللغة سليمة في مجملها، خالية من الحشو والزوائد بنسبة كبيرة. لكن إن كان هناك مأخذ صغير فقد يكون في التشتت أحيانا بين صوت الراوي الطفل والآخر الشيخ في بداية العمل. الأمر الذي تجاوزه إياد بشكل جيد مع انتصاف العمل وصولا إلى النهاية البارعة.
إن عمل “إهانة غير ضرورية” وبالمجمل هو أحد تلك الأعمال السعودية الجديدة التي أتت لتجيب على سؤال بقي يلح ببالي مؤخرا في ظل التحولات الجديدة التي تشهدها المملكة السعودية، فبعد انتهاء الصراع التاريخي بين الصحوة والانفتاح – كما نأمل – والذي كتب عنه كثيرا في الأدب السعودي بضمنيات كثيرة، ماذا بعد؟ وماذا قد تقدم لنا الكتابة السعودية الجديدة في حسها الإبداعي والإنساني والنقدي؟
على الرغم من أن الرواية لم تطرح بشكل واضح التحولات السياسية الكبرى للمكان وهو ما أراه جاء تأكيدا لهامشية البطل المنفصلة عن المكان الأكبر، والذي يفتح من جديد أفق هذا العمل على أن حكايات الهامش التي ضاعت في ظل الصراعات الكبرى وأشكالها، قد جاء وقت الكتابة عنها بكل تجرد وصراحة، لأن أسئلة المرحلة الجديدة، تستوجب بدورها أسئلة جديدة مختلفة في الشكل والمضمون عن جميع ما سبق، وهو ما سيعكس بدوره الاستمرار الحضاري الحقيقي لتطور أي مجتمع ومكان، في لغته وأفكاره ومروياته المتطورة.