استنقاذ الثقافة العربية فرض عين
في ظل تداخلات المفاهيم، واشتباكات المداليل، والتخاليط العامة، يعاني منها أبناء الوطن العربي، مثقفين نوعيين ومتابعين مختلفي التباينات الوظيفية، والمهارات التلقوية ، تواجه المثقف العربي اتهامات ، بعضها مكرور ممجوج ، وصفا له بالتعالي والانعزال في أبراج عاجية ، أو بالسعي فقط وراء أكياس الدراهم والدنانير ، مدحا وقدحا في مسؤولين كبار ، وأبو الطيب المتنبي العظيم غير ناج قطعا من هذا الاتهام ، بل ربما كان أحد أبرز تجلياته في المشهد الثقافي العربي، وموقفه من” كافور الإخشيدي ” أجلى مساطع هذه التهمة .
ومن بين ما تعاني منه الثقافة العربية ذلك( المعلاق ) الجاهز لتحمل وزرالقطيعة بين المثقف والناس ، كونه لا يهتم بقضايا الجماهيرالعريضة ، واحتياجاتها اليومية ومشكلاتها الحياتية ،أو القضايا الكبرى لوطنه في محن الالتباسات السياسية ،أوالفكرية وقد يكون هذا صحيحا بدرجة ما ، ولكن ألا يحق لنا أن ندفع عنه هذا الاتهام ، بإلقاء التبعة على الوسيط الناقل، سواء أكان وسيطا إعلاميا أو مؤسسة ثقافية، أو ناقدا متواطئا بعلاقة شائهة بين المرسل والمستقبل، أو المبدع ومتلقيه ، قد تحول ـ أحيانا ـ دون وصول الرسالة بطريقة محايدة ، فيتم رفع من لا يستحقون الإرفاع، وإخفاض مكانة من هم جديرون بالمتابعة الجادة دعما لرسالتهم التنويرية والمقاومة .
من ثم فإن نظرة موضوعية محايدة لأضلاع مثلث الاتصال الشهير ،لابد أن تحيلنا إلى أهمية أن تتكاتف جهات ومؤسسات عدة، وأفراد نوعيون لاستنقاذ الثقافة العربية التي تتهددها كثير من ركائز الاستلاب وتغييب الهويات الوطنية؛ إذابة للمواطن العربي في الحامض( الكوزمو بوليتاني) ، انتصارا لثقافة الكاوبوي المتعولم، بتسويد حضارة (الماك)، و(جنزنة) العربي، وإعلاء الغربي على كل ما لدى الشرق من ركائز حضارية وتراث، لا ندعي أنه كله واجب الاتباع والتأييد ، بقدر ما نؤيد وجوب التوقف عنده نقدا ونقضا أحيانا ، وأن هذا الاستنقاذ لم يعد فرض كفاية، بقدر ما هو فرض عين على كل من يعي أن هذا الوطن يستحق استعادة مكانته ، وأن يكون ذا شأن عظيم في العالم المعاصر، تمسكا بتراثه دون تقديس أومسايرة للحداثة دون انسحاق . ولا أن يقف في المنتصف الحسابي الرمادي بين ما يظن أنهما نقيضان، وليسا كذلك .
على المؤسسات الوطنية إدراك أن الدفاع عن الثقافة أحد أهم ركائز الأمن القومي، وأن الخلاص ضروري من ثقافة الكرنفالات واللافتات والصور التذكارية التي تعتمدها هذه المؤسسات طريقة إثبات الوجود ، دون أن تسعي بالدراسات الجادة والمؤتمرات الواعية لبحث ما وصل إليه المواطن العربي في معظم الأقطار العربية ، من الوقوع ضحية الاستلاب العولمي، والتحول الحاد ـ في معظم مواقفه ـ إلى أن يصبح مجرد وعاء يعبأ بما تصنعه معامل التدجيل ، وأن يكون ، في أجلى حضوراته عصريا، مجرد كائن استهلاكي لما ينتجه الغرب .
النواقيس التي تُدق للتنبيه ، والتحاذير التي تنطلق من مراكز أكاديمية ، وجهود مثقفين منشغلين بالهم العام حريصين على تغيير الواقع العربي المستلب في معظم تجلياته للقوى الاستكبارية العالمية ، ليست كافية للاستنقاذ، يل إن الوعي بأبعاد الأزمة يفرض على الجميع حراكا دائما وفاعلا لتوقي الجحيم في سوبر ماركات التعولم الخبيث؛
فالأمن الفكري ضرورة ، لارفاهة .