‘الحرب التي أحرقت تولستوي’ تحاذي روائيا الواقع الأوكراني
صدرت حديثًا، عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، رواية جديدة بعنوان “الحرب التي أحرقت تولستوي” لمؤلفتها زينب السعود، وهي باكورة أعمالها الأدبية، إذ تقدِّم تجربة جديدة تناولت فيها الكاتبة الحدث العالمي الساخن، الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ وبذلك يمكن القول إنّها رواية مُصاحِبة للحدث، واكبَ فيها زمنُ الكتابة زمنَ الأحداث، وما زال يواكبها حتى الآن بعد زمن الصدور. وتهتم الرواية أيضًا بتجربة الصحافي المغامر الذي يقف على الخطوط الأماميّة لمناطق الصراع السّاخنة، ويواجه شتّى المخاطر التي تنعكس على حياته وأمنه الشخصي والنفسي والعائلي. ومن هنا يمكن القول إننا أمام تجربة روائية شائقة تغري القارئ بمطالعتها وتأمل مصائر أبطالها وشخصياتها.
تُشكّل حلقات الحرب في أوكرانيا، وما لها من انعكاسات مصيرية على المواطن العربي، وعلى الطبيعة والحضارة والمدنية، والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمم والشعوب وتراثها الإنساني والثقافي. ويَبرُز ذلك من خلال تأثير الحرب الهائل في أمزجة الناس، ومواقفهم المتباينة بين القسوة والعنصرية الضيقة وبين التسامح والتعاطف والانفتاح على الآخر بشهامة ومروءة ونبل، رغم شراسة تلك الحرب التي تقتل الأجساد وتنشر الضغينة وخراب الروح.
تتكون الرواية من 320 صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع على عدة فصول تُرِكت بلا عناوين، وهي بذلك أقرب ما تكون إلى قصة طويلة تضمّ مشاهد عدة يجمعها خيط واحد هو الحرب القائمة في أوكرانيا وتداعياتها الإنسانية الخطيرة. وقد يتولد في ذهن القارئ والناقد عند قراءة الرواية سؤال مشروع: هل يستطيع الروائي – كائنًا من كان – أن يبلور رؤية واضحة ومتماسكة عن حدث غير مكتمل؟ فقد خاضت الكاتبة تجربة تصوير الحرب وويلاتها لتنتهي إلى خاتمة مُعَلَّقة أو مآل مفتوح، حتى يكاد القارئ يشعر أنّه أمام جزء أول من رواية ذات جزأين. ولعلّ لدى الكاتبة تصوّر سردي تستكمل فيه مسار هذه التجربة التي بدأتها ببراعة وإتقان.
ولعلّ أحد أسرار هذه الرواية وتأثيرها العميق في نفس القارئ يكمن في عنوانها الذّكي البارع، وهو عنوان مُرَمَّز، مُثير للخيال والحدس، مُحَرِّض على فتنة التفكير؛ فتولستوي الذي ناهضَ الحرب في رائعته “الحرب والسّلام”، يتحوّل جسده (نصّه) بعد أكثر من مئة عام على موته إلى نارٍ يسري دفئها في أوصال الأجساد المقرورة التي أنهكتها الحرب وأذلّها الجوع والخوف. تولستوي العظيم، صانع الحياة وصديق الإنسان، يقف في هذه الرواية نقيضًا أخلاقيًّا لكلّ انحطاط بشري يُشعل الحروب، ويصنع الموت والأحزان والمجازر.
وتكسر الكاتبة في هذا العمل الجميل الصورة النمطية للصحافي المكتبي الحيادي، وتُلقي ببطلها في لجّة الحدث السّاخن، وتمنحه عينًا راصدة لا تكتفي بالنظر ومشاهدة مآسي الآخرين، بل توقظ في أعماقه جذوة النبل، فيجد نفسه أسيرَ شبكة اجتماعية وإنسانيّة مُعقَّدة، فإذا به يتحول من بطل روائي متَخيَّل إلى بطل واقعي من لحم ودم ومشاعر.
سيلحظ القارئ، من الناحية الفنية، أنّ المتن الحكائي للرواية يتكون من مجموعة الأحداث الواقعية المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية التي شكلت البنية العامة لهذا العمل، فيما يشكّل نظام ظهورها في الرواية ما يُسَمَّى “المبنى الحكائي” أو “المعمار الروائي”، بدءًا من استيقاظ زوجة البطل على صوت طفلتها التي شاهدت أباها المراسل الصحفي الميداني على شاشة التلفزيون، وانتهاء بعودته مصابًا، وما مرّ بين البداية والنهاية من أحداث تراصفت وتواكبت زمانيًّا، وتعالقت أحيانًا أخرى سببيًّا.
وبدا زمن المتن الحكائي قصيرًا، لأنّه يشكل وعاءً لأحداث حارّة ما تزال حلقاتها ماثلة تجري على الأرض، وهو – كما نلاحظ أيضًا- زمن خطّي متقدم وصاعد، يتخلله شيء من السرد الاسترجاعي التذكري، وخصوصاً ما له علاقة بحياة زوجة الصحافي المراسل، وانعكاس طبيعة عمل زوجها على حياتها توتُّرًا وترقّبًا وخوفًا وانتظارًا للمجهول.
تمثّل هذه الرواية، بعناصرها الفكرية والفنية المختلفة، رسالة إدانة للحرب وما تجرّه على الشعوب والأفراد من ويلات ومآسٍ؛ وليس من كاتب كان أقدر على تأريخ الحرب وتصوير مآسي الاحتراب والتقاتل من صاحب “الحرب والسلام” الروسي المبدع تولستوي الذي وصف الحرب بأنّها مُفسِدَة ومنافية للعقل.
“الحرب التي أحرقت تولستوي” رواية محاذية تعايش تجربة الحرب، وتدخل في أهوالها الفاجعة وسطوة آثارها المؤلمة على البشر والحجر، وتحكي مصائر التائهين الذين انقطعت بهم السُّبل في بلاد بعيدة لم تعد تسيطر عليها سوى لغة الدم والنار.. ليبقى الحدث مُشرَعًا – رغم الكابوس وضراوة الألم – على ضوء من الحبّ والتعاطف الإنساني في مشهد ما يزال مفتوحًا على المجهول…
ويُذكر أنّ مؤلفة الرواية زينب السعود كاتبة أردنية، تعمل في مجال التعليم، وتهتم بالتدريب اللغوي ومهارات الإبداع اللغوي التعليمي.