![الشعور بما لا يُرى.. سحرني منظرهُ وهو يتلألأُ كقطعةٍ من الماس وسط زرقة البحر الممتدّة، وهو يُحدّقُ في عينيّ الشمس بعنفوان.](https://greatmiddleeastgate.com/wp-content/uploads/2025/02/يمامة-كوسى.png)
سحرني منظرهُ وهو يتلألأُ كقطعةٍ من الماس وسط زرقة البحر الممتدّة، كان يُحيّي السّماءَ الشاسعة وهو يُحدّقُ في عينيّ الشمس بعنفوان.
تأمّلنا ذلك المشهد المتحرّك لعدة ثوان قبل أن يضغط الأستاذ المُحاضر على مؤشّر شاشة العرض لتظهر أمامنا صورةٌ ثابتة لجبلٍ جليديّ بقسمين؛ قسمٌ صغير فوق الماء، وآخر ضخمٌ جداً تحته.
كانت المحاضرة تتحدّث عن ارتفاع الضغط الشريانيّ؛ تعريفهُ، تشخيصه، علاجه وسَيرُهُ مع التركيز على الأهمية البالغة للاستقصاء عنه وكشفه بسبب كون معظم حالاته لا عرضيّة. كان ذلك القسم المخفي من الجبل العائم رمزاً للعدد الكبير من المرضى غير المُشخّصين به حول العالم، الأمر الذي يجعله إحدى المشاكل الصحيّة المُلحّة التي تتطلّب المزيد من الجهود لرفع نسبة الحالات المُشخَّصة.
حافظتُ على تركيزي حتى نهاية المحاضرة كالمعتاد إلّا أنّ صورة الجبل الجليديّ ذاك ظلّت تومض في ذهني طويلاً.
تراءت لي تلك الواجهة المتلألئة التي تُخفي تحتها عالماً آخر لا يُرى منه شيء، عالماً مليئاً بالأسرار المحفوظة بالجليد، تهربُ من الأضواء وتتخفّى في الظلّ دون أن تصدر جلبة.
فكّرتُ بالحكايات التي لم تروَ، بالقصائد التي لم تُكتَب، بالسّطور التي لم تُقرأ، بالحقائق التي لم تُكشف، بالأحلام التي لم تُعاش، بالمشاعر التي لم يُفصح عنها، وبكلّ ما غلّفهُ السكوت كنوعٍ من الحماية أو الخوف أو الإذعان أو الإجلال أو ربما كجزء من الإيمان الداخلي العميق بأنّ أصدق ما في هذا العالم علينا أن نشعر به لا أن نراه.
قلتُ لنفسي: كم هو عظيمٌ ذلك القسم غير المرئي من كلّ شيء!
قلت ذلك ولم أستطع أن أتخلّصَ من إلحاح السؤال التالي: هل الفنون بأنواعها المختلفة وبقدرتها المستمرّة على تجديد نفسها على مرّ الأزمان هي محاولةٌ من الإنسان للشعور بذلك القسم غير المرئي والتعبير عنه؟!
ربما تكون كذلك، فهاجس الإنسان دائماً يكمن في المجهول، يمضي حياته وهو يفكّرُ فيه، يُخمّنه، يبحث عنه مُحاولاً الوصول إليه بكلّ ما استطاع.
وبعيداً عن كونه ينجحُ في محاولته هذه أم لا، فإنّه يخلُق ويبتدعُ المزيد من لوحات الفنّ، وهذا كافٍ برأيي كي يستمرّ في المحاولة.
ليس فقط الإنسان هو الذي يشعر بذلك القسم غير المرئي ويحاول التعبير عنه، بل الجوامد أيضاً، إذ يمكن لكلّ مَن ينظر إليها بعينٍ ثالثة أن يشعر بعجزها المؤلم عندما تكون راغبةً بالبَوح لكنّها لا تقوى عليه، تمعّنوا في الأغراض التي يرحل أصحابها، في الشوارع التي خلى سكّانها، في خدوشِ المقاعد الخشبيّة، في المزهريّات المركونة دون ورود، في الصور المغبرّة المعلّقة في الإطارات، في القصاصات النائمة في أدراج الخزائن، في رمادِ الحرائق، في المنازل المتهدّمة، في جدران الزنازين، في شواهدِ المقابر، وفي كلّ شيء صامت من حولنا.
كُلّها تحاول أن تحكي لنا بعضاً من ذلك القسم غير المرئي من هذا العالم، ولهذا السبب سيبقى كلّ إنسان منّا في حصّةِ التعبير الخاصة به طول حياته، ومهما بدا له ولزملائه وللمعلّمة بأنّه مذهلٌ في تطويع اللغة ورصفِ الجمل واستحضار الألفاظ؛ سيكون هناك جزءٌ غير مرئي متبقٍّ لن يستطيعَ الإنسان مهما حاول أن يعبّر عنه، لكنّهُ ولا شكّ يستطيعُ أن يشعرُ به في قلبه.
طوبى لمَن يشعرُ بما لا يُرى في قلبه، فذلك أقدسُ ما يمكن أن يفعلهُ الإنسان!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة