العميان
” المدفأة…. إحدى الجدات!”
سأبدأ بالعميان . وأنا أنوي التحدث عن أزمة الوطن السوري، في إحدى ذرواتها، هذه الأيام، حيث يستكمل السوريون تدمير حياتهم اليومية!
“هناك أعمى أراد أن يشرب من النهر. فحمل مصباحاً. وعندما سئل لماذا تحمل المصباح وهو لا ينفعك؟ أجابهم: كي لا يصدمني المبصرون!”
ولكن أحياناً نرى بعض العميان من زاوية أخرى:
” الأعمى الذي يصطدم بجدار يظن أنه وصل إلى آخر الدنيا!”
في سورية اليوم مشهد غير مسبوق في تاريخ الشعوب والصراعات…هو شعب وحكومة يدمران بلدهما. وبوسعهما، معاً ومتفرقين، أن يتجنبوا هذا المصير . ولكنهم لا يفعلون . إنهم يذهبون كل يوم، كأنهم ملزمون بدوام رسمي، بكامل اللياقة إلى… “حياكة الهاوية”!
وهنا… نكتشف أن الأعمى الأول، معه كل الحق، في حمل المصباح، لأنه علم، بالحس والغريزة والأخبار البسيطة، أن جموعاً من المبصرين يتزاحمون في أماكن لا ضرورة لوجودهم فيها… يتزاحمون ويتصادمون!
ومن باب السخرية، يمكن القول أن طريق النهر، مصادفة، يوجد فيه كازية بنزين ومازوت.
وفي اليوم التالي أراد الأعمى أن يغير الطريق لئلا يصطدم به المبصرون… فجاء طريقه إلى جوار…. فرن!
وفي اليوم الثالث، كان طريقه إلى النهر عند مقبرة… فاصطدم به مبصرون يودعون اعمى الحياة الأبدية إلى مثواه المبكر… السريع!
وفي اليوم الخامس… كسروا له المصباح، وخطفوه وطالبوا نقابة أطباء العميان بالفدية… ولم يدفع أحد!
اختفى الأعمى…
وحسناً أن المبصرين لم يلحظوا نبوءته، وإلا لكان البحث عن العميان هو محض بحث عن ذوي البصيرة، في عالم أعمى …معرفياً وجمالياً!
بعد سنتين من الحرب، (نعم الحرب)، لا يوجد شخص واحد، في سورية كلها، لا يعرف ما هو الحل؟ ومع ذلك لا يوجد أحد في سورية يتقدم خطوة واحدة باتجاه… الحل!
ولم يعد، بطبيعة الحال، مجدياً أبداً التفكير بشرارة البدايات لهذا الحريق، ولا بمسؤولية أحد عنه. المجدي الآن، فقط، كيف يمكن منع الحريق من التهام سورية كلها وحياة السوريين كلهم…ونقف جميعاً كالغربان، على أعالي الخراب! هل يعقل أن ليس هناك من يجد حلاً؟
أكاد أقول: لا … وثمة، في التاريخ دائماً، أزمات لا حل لها… تنتهي بنهاية وتدمير المتنازع عليه، واليأس من جدواه. كمن يقتنع أن للحذاء لساناً ولكن ليس للكلام! وللكراسي والطاولات أرجل، ولكن ليس لرقص الباليه!
وثمة بعض البلدان تعتبر أكثر المختبرات إمكانية لدراسة الانحرافات الاستراتيجية والأخلاقية!
مرة سألوا رئيس وزراء اسرائيل: هل تستطيع أن تقنع حاخاماً اسرائيلياً واحداً، في مستوطنة، بتحرير المستوطنات من سكانها( اليهود طبعا)؟ فقال: نعم، ولكن بشرط أن يكون جميع الفلسطنيين قد أصبحوا لاجئين عند العرب!
….. وربما الذروة السورية الآن لها هذه الصفة من العبث، منظوراً إليها من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: من سيقول لكل أنواع الكتائب المسلحه: كفّي عن القتال، فتكف عن القتال؟
الزاوية الثانية: من يستطيع إقناع المعارضة المدنية بأنها لا تحكم …بالسياسه إذا كانت لا تتحكم… بالسلاح؟
الزاوية الثالثة: من يستطيع إقناع تركيا وقطر والسعودية بأن التمويل والتسليح لا يمكن الاستمرار بتقديمه، وعندما لا يقدم كشف الحساب، ويتضح من خلاله أن المشروع ناجح ويسير في الاتجاه الصحيح، والجدوى مضمونة، أم أنه خاسر….فالصرف يكون عشوائيا لبعض الوقت !
الزاوية الرابعة: من يستطيع إقناع الدولة السورية، بنظامها الحالي، بالتوقف عن معركة الحياة أو الموت التي يخوضها، بكامل قناعته بأنها كذلك: حياة أو موت؟
الزاوية الخامسة: من يستطيع الضمان بأن السوريين كلهم لن يجوعوا جوعاً جماعياً ، فيأكلون بعضهم. ولا يتفع الدين، والأخلاق، والعيش المشترك في منع اغتصاب اللقمة… إذا استمرت هذه الحرب لعدة سنوات قادمة؟
الزاوية السادسة والأخيرة:
ما معنى العيش عندئذٍ؟
ما معنى الحرية؟
ما معنى السلطة، والدولة، والمجتمعات؟
ما معنى الحياة حافياً عارياً جائعاً… في عراء عالم حطمته الحرب، ولم يقدم له أحد عوناً إلا لكي يحطم نفسه؟
……………………….
هكذا ندخل إلى أفدح تجربة إنسانية في التاريخ.
ففي التاريخ … نعرف أن الغزاة والبرابرة، والزلازل… هم من يدمرون بلداناً ويقتلون شعوباً، ويقتلعون حضارات…هكذا يحدث في التاريخ، وفي كل مكان…
ولكن، لا نعرف أن شعباً يدمّر نفسه، وبلداً يهدم بنيانه، ولم يجد حلاً ولا طريقاً سوى جدار الأعمى الذي ظن نفسه، عند الاصطدام به أنه وصل إلى… نهاية العالم!!