ليس هناك على ما نعتقد ما هو أوجع وأكثر قسوة من الغربة، وقد تتفوق في ذلك على السجن حين تترك ندوباً كثيرة داخل الروح وقد لا تندمل طوال العمر
نقول ذلك الكلام في بداية حديثنا عن عرضين مسرحيين قدما العام المنصرم في دمشق وهما “شتات” المأخوذة عن مسرحية “المهاجران “لسلافوميرمروجيك”وهي من إعداد وإخراج وليد إياد العاقل والعرض الثاني يحمل عنوان “يوميات منسي” من تأليف الدكتور أحمد أحمد وإخراج فيصل الحميد، وقد أخذ كل من العرضين خطاً مستقلاً عن الآخر.
تحكي المسرحية الأولى عن حالة رجلين يعيشان في المهجر وقد أوقعتهما الغربة في صقيع مصيدتها الفاتكة واعتمدت على التقابل بين شخصية المثقف الذي يحاول أن يفصل نفسه عن الواقع ويمرن نفسه على نسيان البلاد ، وبين شخصية الإنسان البسيط الذي يحلم بالعودة إلى مسقط رأسه.
وقد حصر العرض نفسه في مكان محدد ومغلق جعل حركة العمل مرسومة بدقة لا يمكن تجاوزها، واستخدم لتلك الغاية ديكوراً بسيطاً وهو عبارة عن سريرين للنوم والقليل من مستلزمات المطبخ، بينما استغنى العرض الثاني عن الديكور برمته، واعتمد بدلاً من ذلك على التشكيل بأجساد ممثليه من خلال مشاهد تكاد تكون وامضة، لتشويق المتلقي وجعله يلهث لمتابعة مجريات المشاهد اللاحقة، كما تفلت من المكان وافترض عدم وجوده.
يتحدث العرض عن حكاية بطله “منسي” الذي عاش وفمه مكمم لا يستطيع أن يعبر عن رأيه أو ينطق ولو بكلمة واحدة بدءاً من طفولته المبكرة ووصولاً إلى الكهولة، وقد كانت كلمة “اخرس” سداً منيعاً بينه وبين ما يريد، وقد واجهته في كل مفصل من مفاصل حياته وهي تعيدنا إلى حكاية “جبر” الواردة في بعض السير الشعبية والذي لم ير يوماً هانئاً في حياته وانتهى أمره في ختام المطاف إلى اللحد،واستطاعت أن تنقلنا إلى الأزمنة والأوقات الصعبة التي عاشها البطل، وإذا كانت الغربة قد حشرت بطلي العمل الأول في قبو خارج البلاد، فهي قد تسيدت على حياة “منسي” بشكل كامل في العرض الثاني وهيمنت عليه لتجعل منه غريباً داخل البلاد، وقد كانت الغربة مسرجة على مساحة لا تحد في كلا العملين وكانت تفتح أشداقها كما العادة على تلك الهوة السحيقة وذلك الاتساع الرهيب.
لقد حمل العمل الأول زمنين، الزمن الأول تمثل في الذكريات ورجعها على الشخصية البسيطة، وتمثل الزمن الثاني في اللحظات التي كابدها بطلا المسرحية معاً بما فيها من برد وجوع وتشرد وبدت جماليات العرض المضيئة في تلك التقابلات بين الشخصيتين، وخاصة حين تظن إحداهما أنها حققت انتصاراً زائفاً على الخصم ، بينما الحقيقة المرة أنه لا نقاط ولا انتصارات لأنهما في الهم شرق، وكلاهما يكتوي بالنار بدلاً من الجنة المحلوم بها، وقد حاولت شخصية المثقف أن تفرض الكثير من القناعات على الشخصية البسيطة، لكنها في النهاية تنتحب وتبكي بحرقة وهي تغبطها على النوم بكل سهولة، ويبدو لنا أن العمل ركز على ذلك الخطاب الذي لم يستطع المثقف إيصاله إلى غيره، وبالتالي ذلك الفاصل والعازل بين لغة الشارع ولغة المثقف وخطابه النخبوي، وتلك إشارة مهمة إلى فشله الذريع في أن يكون قائداً لمجتمعه.
في العودة لمسألة الزمن نجد أن العمل الثاني قد ركز على الماضي في سرد سيرة بطله”منسي” وهيمنت الحكاية على صيرورة العرض ووقفت حائلاً بينه وبين التعبير عن ما يحدث الآن، ولو أن العرض قد لوح في بعض إشاراته إلى ذلك، وعلى الرغم من استعاضته بتشكيلاته الجسدية عن الكثير مما يمكن أن يقال غير أنه بقي مؤطراً في سيرة “منسي” التي تعد فردية، ونؤكد على مسألة الفردية لأن الكثيرين قد عاشوا ظروف “منسي” نفسها واستطاعوا التخلص منها وشق دروبهم نحو التفوق والنجاح.
الاستناد إلى نص مشدود إلى المتعة في كلا العرضين جعلنا أمام صور بصرية محكمة ومضبوطة إلى حد كبير، ويمكن الجزم بأن المسؤولية فردية في العرض الأول وقد تجنب الإشارة إلى جهة تتحمل وزر ما حدث ووضعنا مباشرة أمام من يعيشان داخل قبو بارد في بلاد الغربة، بينما أحالنا العرض الثاني إلى مسؤولية اجتماعية تقضي بإقصاء أفرادها وجعلهم أسراب نمل مستكينة.
اشترك كل من العرضين في ثيمة أساسية كانت الغربة أسها وأساسها حيث طرحها كل منهما بطريقته الخاصة وظهر الألم جلياً في كليهما والذي يمكن أن نخفيه أحياناً، لكنه لا يزول مهما حاولنا تجاوزه، لأنه ناتج عن مجموعة من الانكسارات والخيبات التي تلتهم الأفراد والمجتمعات ولا تنجو منه حتى تلك المشاعر والأحاسيس الدفينة في دواخلنا.
كلمة ” اخرس” التي تعني الإقصاء وعدم التدخل في شيء قد تشكل في حد ذاتها غربة لا شبيه لها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



