
هل يمكنُ للمثقَّفِ أن يكونَ محايدًا في اللحظاتِ الفارقةِ من تاريخِ بلدِهِ وأمَّتِهِ؟ أم أنَّ واجبَهُ أنْ يُحدِّدَ موقعَهُ وطريقتَهُ في رؤيةِ الأحداثِ وموقفَهُ منها؟
إنَّ الواجبَ الأخلاقيَّ يفرضُ على المثقَّفِ الحقيقيِّ أن يكونَ منغمسًا في أحداثِ عصرِهِ وصانعًا لها، أو على الأقلِّ مساهِمًا فاعلًا في تأسيسِ الوعيِ المجتمعيِّ بما يُسهِمُ بإضفاءِ الملامحِ الإنسانيَّةِ على أحداثِ العصرِ، وجعلِها أقلَّ شقاءً، لا أن يكونَ أداةً لتكريسِ الظلمِ والاستبدادِ والاستعبادِ والفُرقةِ بين مكوِّناتِ المجتمعِ، والدورانِ في فلكِ الهزائمِ، بعيدًا عن الدورِ الذي يجبُ عليه القيامُ به من أجلِ فتحِ كُوَّةٍ في الجدارِ نحو مستقبلٍ يليقُ بثقافتِهِ وفكرِهِ، وهو ما يَتَطَلَّبُ الابتعاد عن التماهي مع المواقفِ السياسيَّةِ، وعدم تحول المثقّف إلى مُتَنَصِّلٍ أو تابعٍ للسُّلطاتِ والحكَّامِ.
الأمرُ الذي يجعلُنا أمامَ “الوباءِ الشاملِ” وفقَ تعبيرِ الروائيِّ نبيلِ سليمانَ في تاريخِ العيونِ المُطفأةِ، وهذا الوباءُ لا يقتصرُ على ضعفِ البصرِ الذي سيتحوَّلُ لاحقًا إلى عَمى، وإنَّما المقصودُ به الخرابُ، هذه الوحشيَّةُ التي ستطالُ جميعَ شرائحِ المجتمعِ. وهذا الوباءُ أدهى وأمرُّ من أيِّ مرضٍ؛ لأنَّهُ سيتحوَّلُ لاحقًا إلى طاعونٍ ثقافيٍّ ومجتمعيٍّ يَعصِفُ بالوطنِ والمُواطِنِ، وسيُعاوِدُ حَصادَهُ الرهيبَ دونَ التمييزِ بين طائفةٍ وعِرقٍ أو مُكوِّنٍ ومذهبٍ، بعد أن يكونَ (العَمى الثقافيُّ) قد اتَّسعَ بشكلٍ كبيرٍ، ومَنَعَ الإنسانَ من رؤيةِ ثقافةِ الآخَرِ واحترامِها بسببِ غشاوةِ التمحورِ حول الذاتِ الثقافيَّةِ والعُنصريَّةِ الثقافيَّةِ اللَّتَيْنِ من شأنِهِما أنْ تَقودَا صاحبَها إلى التشدُّدِ والتطرُّفِ والتكفيرِ، وبالتَّالي نكونُ أمامَ أخطرِ صورةٍ للإنسانِ وأشدِّها همجيَّةً، بعد أن يَخلَعَ قِناعَ الثقافةِ والحضارةِ عن وجهِهِ، ويظهرَ بشكلِهِ الوحشيِّ بعيدًا عن الإنسانيَّةِ، وبالتَّالي نكونُ جميعًا أمامَ “بَلدِ العَميانِ” و”ثقافةِ العَميانِ” التي تُسَيِّرُها الطائفيَّةُ البغيضةُ والتَّعصُّبُ المَقيتُ النَّابعُ من عقلٍ ضيِّقٍ وفكرٍ إقصائيٍّ استئصاليٍّ لا يَعترفُ إلَّا بنفسِهِ، وهو ما سيقودُ إلى ممارسةِ سلوكٍ عنيفٍ وعُدوانيٍّ ضدَّ كلِّ مُخالِفٍ في الرأيِ والثقافةِ والعقيدةِ، وإحداثِ فُرقةٍ بين مختلفِ الانتماءاتِ العِرقيَّةِ والدينيَّةِ والحضاريَّةِ، وضَربِ مقوِّماتِ النسيجِ المجتمعيِّ بقِيَمِهِ وتقاليدِهِ ومُعتقَداتِهِ وأطيافِهِ وانتماءاتِهِ، وهو ما سيؤدِّي لاحقًا إلى تقسيمِ المجتمعِ ودفعِهِ إلى الاحترابِ والاقتتالِ الطائفيِّ والقوميِّ والعِرقيِّ، بعد تهيئةِ المناخِ الاستئصاليِّ بمالٍ إقصائيٍّ استئصاليٍّ وفكرٍ إلغائيٍّ وإعلامٍ فِتنويٍّ قاتلٍ.
إنَّ الخلافَ والاقتتالَ بين المكوِّناتِ المجتمعيَّةِ ليس بالضَّرورةِ أن يكونَ ناشئًا عن خللٍ في آليَّاتِ تطبيقِ ثقافةٍ ما على المنظومةِ الاجتماعيَّةِ، بل إنَّ الاقتتالَ ربَّما ينشأ في كثيرٍ من الأحيانِ كردِّ فعلٍ على فرضِ سلوكيَّاتٍ مُعيَّنةٍ تُؤثِّرُ سلبًا على البُنى المجتمعيَّةِ، سواءٌ في عملِها أو تعاطي الآخَرينَ معها أو وضعِ حدٍّ لحُرِّيَّاتِها والتقييدِ على مُعتقَداتِها وسلوكيَّاتِها بأيِّ شكلٍ كان.
إنَّ ما تُعانيهِ مجتمعاتُنا من انقساماتٍ عميقةٍ على المستوى السياسيِّ والعِرقيِّ والدينيِّ، ومحاولاتِ الأعداءِ وأتباعِهِم جَرَّ بلدانِنا إلى بُؤرِ الحروبِ الأهليَّةِ والنزاعاتِ الطائفيَّةِ، يُحَتِّمُ علينا جميعًا العملَ على أن تكونَ الثقافةُ هي الأداةَ الرئيسةَ لتجاوزِ الخلافاتِ، بدلَ أن تكونَ أداةً لتعزيزِ الفُرقةِ والانقساماتِ في المجتمعِ، من خلالِ قدرتِها الكبيرةِ على التسلُّلِ إلى عقولِ أفرادِ المجتمعِ، سواءٌ من خلالِ الأجناسِ الأدبيَّةِ المختلفةِ، أم من خلالِ الفنونِ المُتنوِّعةِ من دراما ومسرحٍ وغيرِهِما.
والمثقَفُ العربيُّ اليومَ بأمَسِّ الحاجَةِ إلى مراجعَةٍ واعيَةٍ لمفاهيمِه وإعادَة بناءٍ لتصوراتِه، ذلِك أنَّ شرعيَّة المثقَف لايمكِن أن تتحقَّق إلا بحفاظِه على استقلاليَّته وتحلِّيه بالنزاهَة والأصالَة، وهوَ ما يؤسِّسُ لحالَةٍ صحيَّةٍ في علاقتِه بمحيطِه ومجتمعِه بما يمكِّنُه مِن معالجَة العطَب في البناءِ الثقافيِّ،
فعندما يخرُج المثقَف مِن محنَة الاستِتْباعِ التي وُضِعَ، أو وَضَع نفسَه فيها، لابُدّ أن يكونَ السؤالُ المركزيُّ هو السُّؤالَ عَن الدورِ في زمَن التحوُّل بعيداً عَن المشكلَةِ التي وجَد نفسَه فيها ردحاً مِن الزمَنٍ والقائمَةِ على مراوحتِه ضمنَ ثالوثِ السلطَة والإيديولوجيا والمصالحِ،
يخطُر هنا جانُ بولْ سارترْ، الذي اقترَب مِن الشيوعيَّة في منتصَف القرْن العشرينَ تحْت تأثيرِ المناخِ السياسيِّ، لكنَّه أدرَك أنَّ التبعيَّة تقيِّد حريَّته، فاختارَ الاستقلاليَّة في نقْد السلطَةِ والمجتمَعِ، محافظاً على نزاهتِه الفكريَّة واستقلالِه ولولا ذلِك لتلاشى دورُه الفارِق الذي سجَّلَه لَه التاريخُ.
أمَّا في حالِ تَمّ استبعادُ المثقَف عَن دورِه الحقيقيِّ فهذا سيؤدي إلى إعادَة إنتاجِ العطَب الثقافيِّ بصيغَة أكثَر بؤسًا. لذا فإنَّ استقلاليَّته ونزاهتَه ليسَت مجرَّد خيارٍ، بَل ضرورَة لضمانِ دورِه الفاعِل في مجتمعِه.
من الضروريّ أن يتّخذَ المثقفُ موقفًا فاعلاً من أجلِ بناء المستقبلِ الثقافيّ السليم، بدلاً من أن يكون أداةً لتكريسِ الظلمِ والانقسام المجتمعيّ. فثقافةُ الحيادِ في مثل هذه اللحظاتِ تتحوّل إلى تواطؤٍ غير مبرَّرٍ، بينما يصبحُ دور ُ المثقّفِ الحقيقيِّ هو أن يكون حاضراً بقوّةٍ في الحدثِ، مساهماً في تشكيلِ الوعيِ المجتمعيِّ الذي يعزِّزُ المساواةَ والعدالة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر