بؤس الضمير العالمي
بؤس الضمير العالمي… قرن واحد لا يكفي للاعتراف بالإبادة الأرمنية. المرتكب وورثته آثروا النكران. قالوا: لم تحدث إبادة. لا نريد أن نسمع الكلمة التي تبدأ بحرف «g»ا (gènocide) الأرمن ماتوا فقط. إن كان هناك قتل، فهو طبيعي في الحروب، وهو حاضر في الحروب الأهلية. الأرمن إذاً، شركاء في المقتلة.
قرن واحد لا يكفي ليتجرّأ العالم، على إلزام تركيا بالاعتراف. يفضّل العالم إبعاد الكأس. يتناول القضية كفعل سياسي. يُراوغ في التبني، وأحياناً، يدّعي أنه يجهل. يتهرّب من مسؤولية الاتهام. لعله، هو أيضاً، متهم. فالإبادات، ليست احتراف النازية ولا «الطولونية»، ففي مؤتمر دوربان، في العام 2001، اعتُبرت الجرائم الاستعمارية جرائم ضد الإنسانية. فكيف لقاتل أن يتّهم قاتلاً يتشبّه به؟
لا حجة لقادة الغرب في التلكؤ، وليس مطلوباً من الجثة العربية المتحركة أي شيء، فهي مستغرقة في الارتكاب والإبادة. كان الغرب يعرف جيداً ما يحصل في تركيا. أخبار المذابح بلغت عواصم روسيا وفرنسا وبريطانيا العظمى، فأرسلت تحذيراً لقادة «الاتحاد والترقي» محمّلة إياهم مسؤولية «إعطاء الأوامر لارتكاب هذه الجرائم المضادة للحضارة وللإنسانية». حدث ذلك في العام 1915. حجة عدم المعرفة كاذبة. أرنولد توينبي في «الكتاب الأزرق» (1916) يصف نقل الأرمن كالحيوانات، في قوافل بطيئة. يفرز الرجال عن عائلاتهم، ويصفّون فوراً، فيما النساء والأطفال متروكون للسير في الجحيم، ليصلوا إلى حلب ودير الزور والموصل. يعرف الغرب سير المعارك الحربية، ويسجّل، أنه في 22 شباط 1916، احتلت القوات الروسية مدينة أرضروم. وانتقاماً للخسارة، أمرت الحكومة التركية بإعدام كل النازحين، وكان عددهم يقارب السبعمئة ألف.
يعرف الغرب، بما فيها ألمانيا، من خلال سفيرها في اسطنبول، وحليف تركيا في الحرب، أن مناطق اللجوء الأرمني في حلب ودير الزور ورأس العين والموصل، تحوّلت إلى معسكرات إبادة. في 24 تشرين الأول من العام 1916، جمع إسماعيل حقي، المراقب العسكري العام، ما يقارب ألفي طفل من اللاجئين، وربط كل اثنين منهم بوثاق، وألقى بهم في نهر الفرات.
يعرف الغرب أن أنور باشا، أفرغ الجيش التركي من الجنود والضباط الأرمن، وكان عددهم يبلغ 120 ألفاً، أكثريتهم في الجيش الثالث المرابط على حدود القوقاز. حوّلهم في البداية، بعد تجريدهم من السلاح، إلى جنود يعملون بالسخرة. وفي ما بعد، تمّت تصفية معظمهم.
كانت المحصلة لهذه الإبادة مقتل مليون ونصف أرمني، يُضاف إليهم 250 ألفاً من مسيحيي الشرق، السريان والكلدان والآشوريين.
ومنذ أعوام، بدأت الحفريات في الذاكرة التركية. اكتشف روّاد الضمير الإنساني أن من تبقى من الأرمن في تركيا، اختار قبول الإسلام ديناً، لأنه خشبة الخلاص من جحيم القتل. ولقد عانى هؤلاء من الدونية، لأن إسلامهم ليس عن إيمان، بل طلباً للحماية. «داعش» ذو أصول في منطقتنا العربية.
لم يعد أحد جاهلاً ما حدث. لكن الضمير العالمي في مأزق الخيارات السياسية. يعرف العالم بالإبادة ولا يعترف بها. ومن تجرأ على ذلك، بعد حسابات عديدة، كان اعترافه خجولاً، لا يلزمه بموقف أو بمحاسبة أو بعقوبة.
الشاعر إيميه سيزار، عضو الأكاديمية الفرنسية، القادم من خلف البحار، والذي عانى شعبه العبودية والقتل في زمن الاستعمار، كتب ما يلي: «البورجوازي المسيحي في القرن العشرين، لا يغفر لهتلر الجريمة التي ارتكبها، لكونها جريمة بذاتها، بل لأنها جريمة ضد الإنسان الأبيض (…) التي ارتكبت في أوروبا».
جريمة هتلر أنه طبق الأساليب الاستعمارية على الإنسان الأبيض. الغرب لم يتّهم فرانكو بالارتكاب في الغرب. الإدانة كانت بسبب جرائمه في اسبانيا.
الضمير العالمي مأزوم، لأنه انتقائي، ومعايير الانتقائية متعددة. لو أن للضمير العالمي منصة أخلاقية فاعلة وقوية، لكان العالم تحصَّن ضد ما سيرتكب من جرائم ضد الإنسانية. الضمير العالمي مُصادَر، إما بقرارات سياسية تحتاجها دول لحماية مصالحها ومطامعها، وإما مصادَر بثقافات دونية، تعلي الانتماء الديني على الانتماء الإنساني، وتقدّم الولاء القومي العصبوي، على الانتماء إلى القيم الإنسانية، وتفاضل بين الجرائم. تركيا لا تقبل الاتهام بالإبادة، ولا أميركا تقبل ذلك. الأبيض الأوروبي المهاجر، أباد الأصيل الهندي الأحمر. أميركا، ولدت من الجريمة الكبرى. ماذا يُقال عن هيروشيما ونكازاكي. من حق أوباما أن يتريّث فيؤجل الاعتراف بالإبادة الأرمنية. فرنسا لم تعترف ولم تعتذر على جرائم استعمارها لبعض افريقيا. فرنسا مسؤولة عن تناقص سكان مستعمراتها، فيما قانون مالتوس يؤكد التزايد. من لم يمت بالسيف مات جوعاً وإرهاقاً. الإحصاءات التي أوردها هو شيء منه عن فظائع فرنسا، مخيفة. ما قامت به في الجزائر لا يلقى ندماً عندها. تعتبره السياسات الفرنسية، ذات اليمين وذات اليسار (الأكثر يمينية) استعماراً تنويرياً.
لا يجرؤ الضمير العالمي الرسمي على التقيّد بالقانون الدولي، إنه ضمير موظف في أغراض غير إنسانية. لا يقيس الأمور بمقياس واحد. مقاييسه استنسابية. آخر البدع لهذا الضمير المنحاز، موقفه من مقبرة المتوسط… المهاجرون إلى السراب، يقعون فريسة قراصنة التهريب، ويسقطون بعيداً عن الشواطئ المغلقة، بقرارات ضد الهجرة ومنعها من العبور. والحل، إعلان الحرب على عصابات التهريب.
لا يجرؤ الغرب على فتح ملفات أسباب الهجرة. يفضل إقفال حدوده في وجه الذين تسبب ببؤسهم. البلاد التي تصدّر المهاجرين اليائسين، هي بلاد خلَّفها الاستعمار وكان سبب تخلُّفها. بلاد استُحلبت خيراتها واستُعبدت شعوبها ودُمِّر نسيجها الاجتماعي (فرِّق تسُدْ) وزُكِّيت عصبياتها، وأُعيدت هندسة ولاءاتها، وأُنشئت لها أنظمة سياسية تابعة أو مستبدة أو محمية، وارتُهنت اقتصاداً وثقافة، لدول المركز الاستعمارية، ثم ألحقت بالعولمة من خلال الاستهلاك لا من خلال الإنتاج… النظام الاستعماري المباشر، ورثته أنظمة استعمارية بلا مستعمرين. استعمار بلا كلفة. تتعاظم فيه أرباح «المتروبول» وتتناقص فيه فرص الحياة في الدول ـ الأطراف.
نظام الفعل الاقتصادي العنصري هذا صحَّر البلاد من إنتاجها، وأفقد اليد العاملة والقوى الحية من فرص الحياة، بحدودها المقبولة.
الذين يراهنون على السراب في أوروبا، أصحاب حق في ما تمتلكه أوروبا. الجرائم الرابحة التي ارتكبها الاستعمار، أسست لأنظمة حكم محكومة بانسداد الأفق واللقمة والكرامة.
لا يجرؤ الضمير الأوروبي الرسمي على فتح الحدود لاستقبال من تسبّب هو بتهجيرهم. هؤلاء هم أصحاب الحق الشرعي في حصة من الأمل والنعيم الذي يتمتع به الإنسان الأبيض في الغرب.
أما الشرق، فمهاجروه الجدد من صنع أنظمته وثقافته الدينية البائسة وعقائده القتالية المجرمة وحروبه المذهبية المدمرة.
تركيا لن تعترف، وأمثالها يفضلون النسيان.
موحش هذا العالم، أليس كذلك؟ بل ومتوحّش أيضاً! أنظر إلى ما ارتكبته إسرائيل مراراً. لم تعاقب مرة. المكافأة كانت حصتها، بعد كل جريمة.