جِزوالدو بوفالينو: دروس على مشارف المقصلة
جِزوالدو بوفالينو: دروس على مشارف المقصلة…. الإعدام! يا لها من كلمةٍ مريعة! هل فكَّرت يوماً كيف سيكون شعورك قبل ساعاتٍ من إعدامك؟ وما هي المشاعر التي يُمكن أن تخالجك في لحظاتٍ حرجةٍ تتأرجح فيها روحك ما بين الموت كسرابٍ والحياة كحقيقة، ما بين الوجود كفكرةٍ لا يمكن القبض على تفاصيلها والعدم كفكرةٍ لا وجود لها؟
في تلك اللَّحظات، تتوحَّد المشاعر لتستدعي شريط حياةٍ بكاملها سينتهي عند المقصلة. حفر الإيطاليُّ جِزوالدو بوفالينو (1920-1996) في روايته «أكاذيب اللَّيل» (1991) مشهد ترقُّب الإعدام عميقاً في الذَّاكرة، وبرع في ذلك… تلك البراعة القصوى التي لا تتأتَّى بإجادة الأشياء بعد محاولاتٍ عدَّة، بل بإجادة وصف ما تجهله، حتى إنَّه خلق في الموت روحاً تترقَّب النِّهاية بكل ما أوتيت من حياة. لا شكَّ في أنَّ الموت سيظلُّ موتاً، ولكن أن تعرف ميقاته، استعداداً له، سيخلق رهبةً وشعوراً لا يمكن القبض على تفاصيله ولا شرح كنهه: «هُناك نحنُ الذين نحسبُ أنفسنا أبطالاً، وهُناك أنت الذي تُفاخِر بالرِّضا عن كلِّ تجرُبةٍ غير مألوفة، مع أنَّ الموت تجربةٌ يستطيعُ حتّى العَاجزُ مِنَّا القيام بها». بلغةٍ فريدةٍ ووصفٍ غير اعتياديٍّ، فلسف جِزوالدو بوفالينو فكرة الموت والوجود من وجهة نظرٍ هي الأخرى غير مألوفة.
من خلال أربعة مساجين: بارونٌ وجنديٌّ وطالبٌ وشاعر، ينتظرون حكم الإعدام بعد ثماني ساعاتٍ في سجنٍ في جزيرةٍ معزولةٍ، استطاع الروائي أن يصف مشاهد حيواتٍ توشك على النّهاية المفترضة، لا النِّهاية بمعناها الوجوديِّ: «والآن، بعدما حرَّفتُ نفسي، وتشوَّهتُ لمجرَّد معاشرتي إيَّاهم، أسأل نفسي: من أكون أنا؟ نحن البشر، من نكون؟ أحقيقيُّون نحن، أم مجرَّد هيئاتٍ مرسومة؟ استعاراتٌ ورقيّة، أطياف غير مخلوقة، امِّحاءات تتكشَّف على خشبة مسرحٍ إيمائيّ من رمادٍ، فُقاعات منفوخة من غليون مشعوذ يبغضنا؟». الشَّخصيَّات في الرِّواية، تتراوح ما بين الذات الإنسانيَّة التي تستجمع كلَّ قواها كي تستعدَّ لرحيلٍ نهائيٍّ، وما بين هشاشةٍ تتخفَّى خلف لغةٍ ساخرة. تقول الرِّواية: «وعلى المَظْلَمة الأخرى، الأكبر من الأولى، مَظْلَمةِ أنَّه لا أنا ولا أنت ولا أيٌّ منَّا امتلك هويَّةً راسخةً، ذاتاً صلبةً ومنيعةً ومسؤولةً عن فرديَّتها. ذلك أنَّ حياتي – كما حياتكم، يا أعدائي وأخوتي – لم تكن سوى تدفُّقٍ مستمرٍّ من الرُّؤى الكاذبة داخل ذاتٍ متعدِّدة..».
استدعى جزوالدو كلَّ سخرية العالم، وفظاعة ما يمكن أن يصادفه المرء في الحياة كي يمنحهم فرصة التعبير عنها بلغةٍ تنتفض تهكّماً. لغة جعلت من قصصهم أعاجيب وجود بالكاد يستطيع أن يرتِّب آخر حقائبه تأهُّباً للمغادرة، فكلٌّ منهم كما تقول الرِّواية: «يعزِّي نفسَه على طريقَته». فكرة الوفاء مقابل فكرة الموت من وجهة نظر جِزوالدو، تكاد تكون هي الأخرى فلسفةً عن الإنسان الذي يحمل خيره وشرَّه، إذ يطلب منهم مأمور السّجن أن يعترفوا باسم زعيمهم المعروف باسم الأب السَّرمديِّ ولكنَّهم فضَّلوا الموت على ذلك. تبدو لغة جِزوالدو موغلةً في التُّراث، لكنَّها في الوقت نفسه تحمل هموم الحياة الرَّاهنة، فهي تجدِّد نفسها بنفسها، وتستكشف أفكارها في كلِّ مرَّةٍ تعبِّر فيها عن زمنٍ ما. ربَّما هنا، وفي هذه الرِّواية بالتَّحديد، يمكن القول والتّسليم بأدبٍ عالميٍّ وروايةٍ عالميَّة، لأنَّ عالميَّة الأدب تبرز في مدى قدرته على التَّعاطي مع أيِّ زمانٍ ومكانٍ من دون أيِّ صعوبة.
برع جِزوالدو في الاقتراب من شخوصه وفي وصف تكوينهم النَّفسيِّ وصفاً يكاد يكون تشريحيّاً، كما أنَّه حين تطرَّق إلى الجنس، ارتقى بالصُّورة في ذهن المتلقِّي كفعلٍ يمرُّ ضمن أفعالٍ طبيعيَّةٍ كثيرة ولا ينزلق إلى الابتذال أو استدرار الإثارة.
حكى جِزوالدو على ألسنتهم مصائرهم وتفاصيل حياتهم، مع أنَّه من المستحيل أن يناقش الإنسان وهو على مشارف الموت مسألة الوجود والعدم، بل سيسيطر عليه الخوف وتتجمَّد كلُّ مشاعره في ذلك الخوف، لكن راح كلُّ واحد من أبطاله يحكي للبقيَّة قصَّة حياته بلغةٍ صادقةٍ تشبه تلك الأوقات التي نختلي فيها بأنفسنا، كي نخبرها عنَّا بكلِّ ما يمكن أن نحمله من فظاعةٍ نستحي تقاسمها مع الآخرين.
لكنَّنا في المقابل نصوغ لأنفسنا الكثير من المبرِّرات التي قد تكون موضوعيَّةً من وجهة نظرنا، ولكنَّها ليست أكثر من وهمٍ يقود في النهاية إلى المقصلة. تقول الرِّواية: «شكراً يا نَرتْشِيزو على تذكيرنا بالحُبِّ والموسيقى وضوء القمر؛ وعلى ترنينِ جلاجلِ الشَّباب السَّماويَّةِ في آذاننا… مع أنَّ بعضنا ربَّما كان يبحث، في هذه اللَّحظات الأخيرة، عن أفكارٍ أكثر جدِّيَّة». إنَّ مضامين هذ الرّواية تسبر أغوار المعاني كلِّها، وتجعلك تبحث ما بين السُّطور كي تستبين تورياتها. في عبارةٍ ترد في هذا العمل، عبارة راسخة الجمال، يصف الكاتب المشاعر التي يمكن أن يختبرها الإنسان في أوَّل تجربة حبٍّ، تلك التَّجربة التي يدوم وقعها حتى آخر لحظةٍ في حياة الإنسان. يقول متحدِّثاً عن محكومٍ بالإعدام منهم نسي كلَّ النِّساء اللّواتي عرفهنَّ وتذكَّر فقط أوَّل امرأةٍ عرف معها معنى الحبِّ: «وقعتُ، بعد ذلك، في حُبِّ أخريات؛ وفي مرَّاتٍ أخرى، وأكثر ممَّا في تلك المرَّة، أذهلتني وفرةُ سعادتي. ولكن تلك فحسب، وليس ليلاتٍ أخرى، سأتذكَّرها بعد أربع ساعاتٍ، تحت شفرةِ المقصلة».
ومع أنَّ النَّصَّ يغوص في فلسفة الوجود إلَّا أنَّه يشبه قصيدةً شعريَّةً عصيَّة، قصيدةً لا يمكن أن تمنح ألغازها لكلِّ عابرٍ من أوَّل قراءةٍ بسيطة، ويمكن القول بأمانةٍ إنَّ المترجمَين، الشَّاعر اللُّبنانيَّ الراحل بسَّام حجَّار (1955-2009) والشَّاعر السُّوري أمارجي، قد حوَّلا النَّصَّ إلى تحفةٍ أدبيَّةٍ تعيدك بسحر بلاغتها وفرادة لغتها إلى نصوص التُّراث. إذ شرع حجَّار في نَقْلَ هذا العمل إلى العربيَّة عن الفرنسيَّة، ولمَّا كان المخطوط الذي عُثِرَ عليه بين أوراقه غير مكتملٍ، زُهاءَ ربع الكتاب فحسب، تولَّى أمارجي إكمال ترجمة الرّواية عن لغتها الأصليَّة. تعامل كلٌّ من أمارجي وحجَّار مع النص الأصل بحرفيَّةٍ عاليةٍ وبحساسيَّةٍ شعريَّةٍ قلَّ مثيلها. ومن حظِّ القارئ العربيِّ أن هذا النَّصَّ وقع بين يديهما قبل أن يقع بين يدَي مترجمٍ آخر، ربما كان سيشوِّهه بلغةٍ ركيكةٍ ومستهلكةٍ وبعباراتٍ مفكَّكة لكثرة استخدامها ما عادت تقول شيئاً.
لقد جمعت هذه الرِّواية المترجمة بشكلٍ مذهلٍ فرادةَ الشِّعر وقوَّة التَّرجمة اللَّتين تستحقُّهما عبقريَّة جِزوالدو بوفالينو في تقديمه دروساً في الحياة على مشارف المقصلة.