خلف ستارة انفجار بيروت.. ما أهداف فرنسا في شرق المتوسط؟
فرنسا التي تضع مصالحها كأولوية ضمن مسار مهمتها في لبنان، تنظر إلى بيروت ضمن موقعها الجغرافي في شرق البحر الأبيض المتوسط، في ظلّ كباشها مع تركيا..الاستقرار السياسي في لبنان ليس بعيداً عن تلك النظرة.
لم تمضِ ساعات على انفجار مرفأ بيروت، حتى وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان. في المشهد الظاهر، فإن ماكرون وصل إلى قصر الصنوبر وجمع حوله الأقطاب السياسية اللبنانية، من أجل تجاوز تداعيات الكارثة التي حلّت في بيروت. لكن في خلفية هذا المشهد تحديداً، يتضح أن الرئيس الفرنسي وصل أيضاً إلى أبعد نقطة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وإلى أهم سواحله.
المشهد السياسي اللبناني وتعقيداته لا يزال على دائرة البحث الإقليمية والدولية، وهو بجميع الأحوال سيكون ترجمةً لما تؤول إليه تلك المباحثات والمفاوضات، بين أقطابها المتعددين. وبما أن باريس تقود الاتصالات فإنها المعني الأساسي ببلورة حلّ يصب في مصلحتها بالدرجة الأولى ولا يتعارض مع مصالح الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى، ومع التباين والتباعد الحادين اللذين باتا سمةً للعلاقات الدولية، فإن المحاولات الفرنسية ستكون صعبة.
لكن في مقابل ذلك، فإن باريس بدأت تتحرك ضمن ما تراه في لبنان من موقعٍ جغرافي في شرق المتوسط، بانتظار نتائج اتصالاتها حول المستقبل السياسي لهذا البلد، التي ستنعكس لا شك على تحركها هذا… فماذا تريد فرنسا؟
في منطقة شرق المتوسط هناك صراع جيوسياسي بدأ يأخذ طابعاً عسكرياً، بين تركيا من جهة وبين فرنسا ومعها اليونان ومصر من جهةٍ أخرى. والسبب، هو ثروات الغاز في المنطقة، حيث تسعى كل دولة إلى حجزِ نفوذٍ لها في شرق المتوسط، وبما أن النفوذ الفرنسي اصطدم في مكانٍ ما مع النفوذ التركي، فإن أنقرة وباريس وصلتا إلى مستوىً غير مسبوق من التراشق السياسي المصحوب بمناوشاتٍ عسكرية.
وفي الوقت الذي وجدت فيه تركيا من الاتفاقية البحرية والأمنية مع ليبيا منفذاً لتعميق وجودها العسكري والأمني في منطقة شرق المتوسط، فإن فرنسا التي لم تعترف بتلك الاتفاقية سعت هي الأخرى إلى تواجدٍ عسكري مماثل، فكان انفجار مرفأ بيروت في لحظة مفصلية هو الغطاء الذي بدأت تتحرك من خلاله باريس.
قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأربعاء، خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس، الذي أبرمت بلاده اتفاقية أمنية وبحرية مع مصر مؤخراً، تعزيز حضور فرنسا العسكري في منطقة شرق المتوسط. ترافق الاتصال الفرنسي-اليوناني، مع إعلان وزارة القوات المسلحة الفرنسية أن فرنسا ستنشر طائرتين مقاتلتين من طراز “رافال” والفرقاطة “لافايت” بشرق البحر المتوسط، في إطار خطة لدعم وجودها العسكري في المنطقة.
وتزامن ذلك مع خطوتين تجاه لبنان: الأولى، حضور عسكري فرنسي في بيروت وذلك من خلال إرسال حاملة المروحيات “تونير” التابعة للبحرية الفرنسية. والثانية، زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي، إلى بيروت أيضاً، وما لتلك الزيارة من دلالات، أبعد ما تكون عما هو مصرّح عنها، أي تقديم المساعدة بعد انفجار بيروت، ولو أنها لن تغفل عن هذا الأمر ضمن مسرح عمليات سياسي وعسكري أوسع.
تلقفت تركيا التحركات الفرنسية سريعاً. الرئيس رجب طيب إردوغان الذي دعا إلى الحوار في مسألة غاز شرق المتوسط وإلى عدم “تجاهل حقوق تركيا”، قال تعليقاً على الحضور التركي بعد انفجار مرفأ بيروت إن تواجد بلاه هناك “تنضوي في إطار روابط الأخوة الأزلية بين البلدين”، وفي إشارة إلى الحضور الفرنسي تابع إردوغان: “لسنا هناك من أجل التقاط الصور أو الاستعراض أمام الكاميرات كما يفعل البعض”.
على هذا النحو، بدأ لبنان يتحول إلى ساحةٍ للصراع الفرنسي-التركي، إضافة إلى الساحتين القبرصية والليبية، فيما تتعثر عمليات التنقيب عن الغاز أمام سواحله، لأسبابٍ سياسية، منها ما هو داخلي يرتبط بالخلاف على الحصص وعمليات التنقيب، ومنها ما هو خارجي يرتبط بالتوازنات السياسية الإقليمية التي يدخل فيها العامل الإسرائيلي كمعرقلٍ يسعى إلى الهيمنة على بعض ثرواته النفطية.
الدخول الفرنسي السريع على خط تداعيات انفجار مرفأ بيروت، يحمل في طياته محاولات فرنسية لتثبيت تواجدٍ عسكري في المنطقة. وانطلاقاً من ذلك، تعود فرنسا إلى الساحة اللبنانية بزخمٍ أكبر لفرض هذا التواجد بوجه المؤثرين في الإقليم وخارجه. وجاءت اتصالات الرئيس الفرنسي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الإيراني حسن روحاني، وقبلها وبعدها وخلالها الاتصالات المستمرة مع الجانب الأميركي لتصب في هذا السياق.
تشي تلك الاتصالات بحاجة فرنسية لاستقرارٍ سياسي في لبنان ينتج عنه استقرار أمني، لتجعله قاعدة مستقرة لتعزيز تواجدها الأمني والعسكري في منطقة شرق المتوسط، بهدف مواجهة النفوذ التركي الذي يتصاعد من سواحل قبرص إلى بحر إيجه والسواحل الليبية بما يتعلق بمسألة الغاز، التي باتت قضية محورية في صراعات المنطقة.
فرنسا التي تضع مصالحها كأولوية ضمن مسار مهمتها في لبنان، ستصطدم مصالحها تلك مع مصالح دولٍ أخرى، أولها الولايات المتحدة قبل تركيا وروسيا وحتى إيران، وذلك في مقاربة الملف اللبناني. بوادر الخلاف الفرنسي-الأميركي تظهر في أروقة مجلس الأمن حيث تسعى واشنطن إلى إدخال تعديلات على مهام قوات “اليونيفيل” وسط معارضةٍ شديدة من باريس لما لذلك من تأثيرٍ على الوضع الداخلي اللبناني وعلى وقف إطلاق النار المستمر بين حزب الله و”إسرائيل” الهش أصلاً.
وأمام فرنسا أيضًا، إلى جانب التحدي التركي، التواجد الروسي في شرق المتوسط، وتحديداً في سوريا، وهذا بحاجة إلى ترتيبات خاصة، لا تبدو موسكو حتى الآن متشجعة لإتمامها مع باريس العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، فيما يأخذ العامل الإيراني اتجاهين: العلاقة بين طهران وأنقرة، والمفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وإيران حول الاتفاق النووي، لذلك جاء طرح ماكرون لـ”آلية انستيكس” مع روحاني في اتصالهما الأخير ضمن مباحثاتهما في الملف اللبناني.
الميادين نت