شبلول يحكي ‘الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ’
بدأ الكاتب روايته بإهدائها لصاحب السيرة الغيرية الأديب العالمي نجيب محفوظ قائلا: إلى أستاذي نجيب محفوظ، الذي أختلف معه فيما قاله للفنان أحمد زكي: “إن شخصيتي لا تصنع فيلما”، ليأخذنا بعد هذا الاستهلال لسرد سيرة الأديب العالمي مقسما عمله إلى 32 عنوانا، ختما بالمرجعيات مرتبة زمنيا، حيث اعتمد الشاعر والروائي أحمد فضل شبلول في جمع مادته العلمية على 29 كتابا، بخلاف الأعداد المختلفة من المجلات والجرائد، ولذلك فقد احتوت الرواية على كم كبير من الأسرار والتفاصيل من جوانب عدة في حياة محفوظ.
اختار شبلول قالب الرواية، واختار أن يكون ذلك من خلال الراوي الشبح، الذي يحكي على لسانه ما يشاهد ويسمع من حوار بين محفوظ وشبلول في حجز محفوظ بالمستشفى، حيث لا يراه أحد وهو يرى الجميع ويشاهد ويسجل كل ما يدور.
ويأتي السرد حواريا بين محفوظ وشبلول، على أن الأخير التزم أدب الاستماع لأستاذه، وإعطاء الفرصة كاملة لمحفوظ لسرد كل ما يجول بباله على سرير مرضه في المستشفى، المكان الذي اختاره شبلول ليحاور فيه الأستاذ لأن كل هذا السرد الطويل دار بينهما في الليلة الأخيرة قبل وفاة نجيب محفوظ.
ورغم ما قاله محفوظ عن أن حياته لا تصلح لفيلم، إلا أن شبلول يتحدى تلك المقولة ويجعله يفتح قلبه ليحكي أستاذ السرد والحكي في رحلة ممتعة عن رواياته وأبطاله وجوائزه وبشكل خاص نوبل، علاقاته بالنقاد والكتاب والسينما، مناصبه بوزارة الثقافة، رواياته والعالمية، علاقاته بالسياسة والسياسيين، محاولة اغتياله، والمكائد التي أفلت منها وكات تودي به للسجن، كل هذه الأحداث وأكثر في عمل روائي يدور في 358 صفحة من طبعة دار غراب للنشر.
الأماكن في حياة محفوظ:
ويسرد الراوي الأماكن في حياة محفوظ وتأثيرها عليه، فيبدأ بمحل ميلاده، حيث ولد الكاتب الكبير نجيب محفوظ في 1911 بحي الجمَّالية، الحي الذي يعتبر مجمعًا لتراث القاهرة، ففيه الأزهر الشريف والحسين وجامع الحاكم بأمر الله وأسوار القاهرة وبواباتها والمدارس الأيوبية والمملوكية وخان الخليلي، ولا شك أن نشأة محفوظ في هذا الحي قد أكسبته الكثير من العشق للتراث والحارة المصرية التي كانت محور أشهر كتاباته.
وبخلاف عشقه للجمالية محل ميلاده، فإن عشقه للإسكندرية يأخذ شكلا آخر، فهذه المدينة الساحرة كانت ملاذه الدائم السنوي منذ كان طفلا، فيأتي ذكرها في الرواية في مواضع عديدة، فهو يحكي عن مطاعمها وفنادقها وكازينوهاتها وميادينها، ويذكر أهم الأخبار التي تلقاها وهو فيها، فمرة يحكي عن سيسل من أمام تمثال سعد باشا زغلول، ويحكي عن سبب اتجاه التمثال للبحر من وجهة نظره، بل ويتخيل الفنان التشكيلي محمود سعيد جالسًا مع أحد بطل السمان والخريف عيسى الدباغ في مشهد تخيلي لشبلول، ويحكي عن مطعم الأسماك الشهير في شارع صلاح سالم (يحل محله الآن محل عمر أفندي)، ثم يمر على كافيتريا سان ستيفانو القديمة، وكافيتريا جليم والكازينوهات على كورنيش السلسلة.
حتى يأتي على لسان محفوظ في الرواية “وأنا الآن أتوق إلى الإسكندرية كمنظر طبيعي، أريد أن أرى سان ستيفانو ومتحف محمود سعيد وميرامار وحديقة سعد زغلول وتمثال الزعيم، ومحطة الرمل، ومطعم محمد أحمد، وكافتيريا على كيفك وشارع النبي دانيال وقلعة قايتباي والمرسى أبو العباس ومراكب الصيد بالأنفوشي”.
ولا يخفى عشقه للمدينة حين يقول: “الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”. هكذا كان للأماكن مع محفوظ حكايات ومع الإسكندرية صولات وجولات.
محفوظ المحظوظ:
ولا يخفى على أحد أن محفوظ كان محظوظا بالفعل، لأنه درس الفلسفة على يد الشيخ مصطفى عبد الرازق، وقرأ لسلامة موسى، كما عمل بوزارة الثقافة وتدرج في مناصب عديدة، ثم عمله بكتابة السيناريو مرورا بتحويل أعماله الأدبية لأفلام سينمائية، وصولا لعمره في الكتابة والذي بلغ اليوبيل الماسي له فقد كان عمره مع الأدب يقارب 75 عاما وهذا ما يصعب أن يعيشه روائي أو كاتب.
شخصيات في حياة محفوظ:
وعن علاقاته بالشخصيات في الأوساط الأدبية فإن أكثر ما لفت انتباهي هو علاقته الوثيقة بالكاتب الكبير محمد سلماوي، فهو الكاتب الذي اختاره لينوب عنه في حضور حفل تسليمه جائزة نوبل، ليلقى كلمته التي اختار أن تكون بالعربية في 8 صفحات، حيث كان حريصا نجيب محفوظ كأول أديب عربي يفوز بجائزة نوبل أن تُسمع لغته داخل الاحتفالية.
وكذلك علاقته بتوفيق الحكيم ونوادرهما معا، فقد كان معروفا عن توفيق الحكيم بخله الشديد فيحكي لنا شبلول على لسان محفوظ عن جلسة بترو الصباحية بصحبة الحكيم، فيقول: ” أول يوم ذهبت فيه إليها ليستقبلني بلطفه المعهود، ورأى بثاقب نظره أن يضيء لي السبيل فقال لي: “ممكن أجلب لك فنجان قهوة على حسابي، وستضطر أن تطلب لي غدا فنجانا على حسابك، بدلا من ذلك التعب فليدفع كل منا حسابه بنفسه، إلى نهاية الحوار الذي انتهى بأن أصبح محفوظ هو من يدفع من يومها حساب قهوته وقهوة الحكيم وقهوة ضيوفه بما فيهم معجبو الحكيم.
أما عن علاقة ملك الرواية محفوظ بملك القصة القصيرة يوسف إدريس فقد كانت علاقة لها بعد خاص يذكره شبلول من خلال حوار بين محفوظ وسائل يسأله ماذا يبقى من يوسف إدريس، فيجيب محفوظ: قصصه. السؤال هل يستحق عليها نوبل؟ فيرد محفوظ: إبداعه لا يؤهله لها، وعندما قال السائل: إن إدريس قد حصل على جائزة صدام حسين واعتبرها كجائزة نوبل، فرد محفوظ ردا قاطعا: مادام أخذها تبقى أكبر من نوبل.
لم يكن بعيدا عن السياسة:
ولم ينس شبلول علاقة محفوظ بالسياسة والساسة في أكثر من موضع في روايته، فقد لخص رأي محفوظ في عبد الناصر”كانت وصيته الوحيدة في حكم عبد الناصر هي تأجيل ممارسة الديمقراطية” ويقول أيضا: “إن السادات وعبدالناصر كلاهما بطل مأساوي، مثل أبطال التراجيديا اليونانية، وانتهى كلاهما نهاية مأساوية. أما أهم عبارة في رأيي فهي: “فقد ولي السادات نيابة عن عبدالناصر، ثم قتل كذلك نيابة عنه”.
نبؤات محفوظ:
ولأن محفوظ كان منخرطًا بالشارع قارئًا جيدا للأحداث فلن تندهش حين تعرف أنه تنبأ في “ثرثرة فوق النيل” إلى قرب وقوع كارثة محققة تمثلت في 5 يونيو، وفي ميرامار تنبأت إحدى شخصيات الرواية بالرجوع لمعسكر أميركا، وكذلك “بداية ونهاية” كأنها كانت تنبؤ بأحداث ثورة يوليو، أما “ألف ليلة وليلة” فقد توقعت مقتل السادات والتي كتبها قبل مصرع السادات بسنة أو سنتين وتم نشرها بجريدة مايو قبل وفاة السادات.
وربما لا يعلم الكثيرون أن أديب نوبل قد تم تحويل بعض أعماله إلى أعمال سينمائية عالمية، مثل السينما المكسيكية، والتي نقلت عنه فيلمين هما بداية ونهاية وزقاق المدق والتي تم تغيير عنوانه إلى “زقاق العجائب” وكان من بطولة سلمى حايك.
خفة ظله:
ولم تخل الرواية من اللفتات خفيفة الظل، حيث كان معروفًا عن محفوظ خفة ظله، فها هو في حديثه مع سلماوي طلب منه أن يسأل محافظ الجيزة، عما إذا كان الميدان الذي سيوضع فيه تمثاله ملكه؟ وحين سأله سلماوي عن السبب أجاب: “من حقي أن آخذ الإيجار من كل من لديهم فيه محلات”، وحين سألته المذيعة سامية صادق عمن يصطحبه معه إلى القمر؛ اللص أم الكلاب؟ فأجابها سامية صادق ليضحكا بعدها.
ولم يتوقف حسه الكوميدي على المثقفين والإعلاميين وإنما مع طبيبه الإنكليزي أيضا الذي اعتذر منه أنه لم يقرأ له، ليفاجئه محفوظ بقوله: “أحسن، افرض أنني لم أعجبك”؟
محاولة الاغتيال:
وحين تصل الرواية لسرد حادث محاولة اغتيال نجيب محفوظ، فكان السرد رائعا ومؤلما لأنه جعلك كأنك ترى المشهد رأي العين، كيف مد محفوظ يده للقاتل متخيلا رغبته في السلام عليه عليه، وكيف تلقى الطعنة بيده اليمنى وظلت يده متأثرة فترة، وشاء الله أن ينجو الأديب العالمي، لتندهش من أن من حاول قتله لم يقرأ له وتزداد دهشتك حين تعرف أن محفوظ قد سامحه.
حين سئل محفوظ عن أهم حوار أجراه في حياته وهو الذي أجرى حوارات مع كبار الصحفيين والمذيعين في مصر والعالم، إلا أنه اختار حوارا مع تلميذ من مدرسة بالقليوبية لمجلة حائط، وحين سُئل عن السبب أجاب لأنه سألني عن مستقبل الثقافة في مصر وكيف ترانا نحن تلاميذ مصر الآن.
وما يلفتك أن محفوظ في بداية حياته رُفضت له 3 روايات، ورفض أحمد رامي تحويل روايته “رادوبيس” لأوبريت موسيقي لأنه لم يكن معروفًا وقتها، وحين جاءت أم كلثوم بعدها بسنوات لتنوي تحويلها لأوبرا حيث كانت تنوي خوض تجربة الأوبرا لم يمهلها القدر وتوفيت قبل تنفيذ المشروع.
ولأني أعرف الشاعر والروائي الكبير أحمد فضل شبلول فيمكنني لمس التشابه بين شخصية الكاتب ومن يكتب عنه، فكلاهما يبتعد بنفسه عن الصدامات في الوسط الثقافي والأدبي، كلاهما مستمع جيد، ولهما حس فكاهي واضح، غير أن محفوظ عرف طريق الرواية في مقتبل عمره إلا أن شبلول عرف طريق الرواية مؤخرا ولكنه سبق فيها كثير ممن سبقوه في الكتابة.
إن “الليلة الأخيرة في حياة محفوظ” هي رواية تمزج الواقع بالخيال في مزيج رائع، وتأخذك لعالم محفوظ في رحلة ممتعة من الصعب أن تنساها، لأنها عن روائي عاش الواقع بعمق وتوقع المستقبل بشفافية.