عمر سعيد يتناول تشبث ‘مستر كلكامش’ بالهوية
الكاتب العراقي الأميركي عمر سعيد يضيء في عمله الروائي الأول على صراع الإنسان الأزلي مع المصير.
تناقش رواية “مستر كلكامش” للكاتب العراقي – الأميركي عمر سعيد صراع الإنسان الأزلي مع المصير وتتطرق لسؤال الهوية، معيدةً إنتاج فكرة المقارنة بين وطن يئنّ تحت وطأة التخلُّف والمرض والجهل، ومهجر يعيش الإنسان فيه مع كل أسباب الراحة والرفاهية، لكنه يتحول إلى آلة، ككل الذين يحيون في تلك البلاد، لاسيما من هاجروا من أوطانهم، أيّا كانت الأسباب.
رواية “مستر كلكامش” للكاتب العراقي – الأميركي عمر سعيد
تتناول الرواية الصادرة حديثًا عن الآن ناشرون وموزعون بالأردن في 196 صفحة، قصة البطل العراقي الأميركي “مطر” الذي زاره الحظ أخيرا لتصير قصَّته فيلما يمثَّل في سماء هوليوود. ويختار هو شخصيّا مستشارا ثقافيّا للفيلم. فيصحب فريقَ العمل في أماكن التصوير الداخلية والخارجية، فتقرِّر منتجة العمل تصوير أحداث الفيلم في موطنها الأصلي المكتوب في السيناريو، وتتوالى الأحداث.
المشهد الأول
يبدأ المشهد الأول في الرواية بالكلمة الأشهر في تاريخ السينما: “آكشن”. وكما يرى البطل: “آكشن.. تصريح للبدء بالحياة، روحٌ نفِختْ في الأجساد الصامتة أمام عدسة الكاميرا.. آكشن، لطالما كانت هذه الكلمة مدعاة للسخرية في نفسه، تذكِّره بالأفلام المصرية القديمة حين يصرخ بها المخرج الجالس على كرسي مرتفع والسيجارة في طرف فمه، يغمض قليلاً عينه الموازية للدخان الصاعد، ويقذفها مبحوحة بسماعه الهتافات وقد بان على هيئته الجنون.. أصبحت هذه الكلمة الآن جزءا من عمله اليومي في مدينة لوس أنجلوس، يطلقها المخرج (ستيف) فيتوقَّف الجميع عن الحركة، تنطفئ الإنارة في الاستديو الواسع بسقفه المرتفع، وتشتعل الإضاءة الموجَّهة، كلمة سحرية يسكت بها اللغط والعتلات والمكائن، وكأنَّها سر الليل، يدخل الممثلون بها إلى حيِّز الوجود”.
ومنذ الصفحات الأولى في الرواية يظهر رفض “مطر” لبلده الأم، إذ ما زال يراه ليس المكان الأمثل للعيش فيه: “لم يأبه بالسفر وبلده الأم الذي خرج منه منذ سنوات طويلة يلعن ناسه وترابه، كان يريد فقط التقاط حبة (الدوناتس) الأخيرة، ثم إن هذه الرحلة لن تكون إلى منتجعات سويسرا، إنما إلى أهوار جنوب العراق المليئة بالحشرات والماء العفِن.. حاول مراراً أن يتملَّص منها، إلا إن المخرج وإدارة عمل الفيلم في شركة (ستار أفنيو) للإنتاج السينمائي أصرَّت على أن يكون المؤلف والمستشار الثقافي حاضرين مع كادر العمل، أخبروه أن هوليوود ارتكبت سابقاً أخطاء عديدة مع مثل هذا النوع من الأفلام، إما في صناعة البيئة الصحيحة أو اللهجة والملابس أو العادات، امتعض من المخرج (ستيف) وكلكامش والسيناريو المجهِد بكتابته التي استغرقت أكثر من سنتين، والذي سيؤدي به إلى ترك هذه المدينة الجميلة بمناخها المعتدل طوال العام، والذهاب إلى مستنقع الحر والناموس والجاموس”.
عشبة الخلود
يحرص الكاتب على توازي خط الرواية وخط الفيلم، للوصول إلى الغاية نفسها؛ سؤال الهوية ولغز الموت الذي لم يصل أحد إلى إجابة شافية عليه، ويبني الفكرة التي يدور حولها الفيلم على بحث كلكامش عن عشبة الخلود، معتقداً أنه يستطيع إنقاذ صديقه “إنكيدو” من الموت، أو حتى أنه سيضمن لنفسه الخلود، ويظهر انهمامه بسؤال الموت في حواره مع معالِجته النفسية “بثني”، إذ يقول: “الموت يا بثني محرِّك حضارات البشرية، به نضفي المعاني على الحياة.. الموت خصلة إنسانية بحتة، فكل الكائنات تنفق إلا الإنسان يموت!”.
وينجح عمر سعيد في نقل تلك الحالة من التشتت والتشبث بالهوية في الآن نفسه -والتي يعانيها البطل – بوصفه لحالِه عند زيارة الأهوار. إذ يقول:
الأهوار
“الأهوار.. صدمة جمالية، وكأنها لحظة الخلق، بداية التكوين، ماء بكر، كوكب آخر، ما زال غرباء الفضاء يقطنون فيه، ليس موطناً بشريّاً بالمرة. لا صوت أو شكل لأي اختراع إنساني، الإنسان بمنتهى البدائية، لا فرق بينه وبين القصب والمشحوف والطيور والجاموس. نسيج واحد محاك بكامل الدقة.. رغم كونه ابن العراق، فلم يزرها لمرة واحدة، كيف فاته أن يكتشف هذا الانسجام الطبيعي سابقاً؟ كان فريق العمل كالغزاة، لا ينتمون إلى البيئة مطلقاً.. الصيادون والنساء التي تدفع بالمشاحيف المحمَّلة بأكوام القصب ينظرون عن بعد غير مبالين (…) صلح من غير وساطة أو جهد مبذول، حب غير مشروط أحسَّه للمكان، لمَ هذا الشوق المفاجئ؟ كيف يفسَّر؟ حتماً إنها دمغة عتيقة في صبغة الجينات الوراثية.. سنين طويلة أمضاها في الولايات المتحدة، وما زال التمر فاكهته المفضّلة (…) وبعدها الباميا ملكة الطعام بالنسبة له، هل هي الجذور؟ أم الجنون؟ أم هو مثلما يسميه الكل الوطن؟ فكَّر في أن مثل هكذا لحظات هي التي ينخدع فيها الإنسان ويشعر بالانتماء”.
وقرب الختام. يؤكد الروائي أن الخلود فكرة في ذهن الإنسان منذ قديم الأزل إلى آخر الزمان. وأن عليه أن يحيا بمذاق الخلود حتى لو كان سيموت غداً. فيقول المؤلف واصفاً ما يشعر به “مطر”: “بالفعل؛ أحسَّ بكلكامش في دمه يعود، بعد خمسة آلاف عام”.
يقول المستشار الإبداعي والفنان التشكيلي العراقي عبير الخطيب. عن هذه الرواية التي صمّم غلافها وأثراه بمقترحاته الجمالية: “أتت الرواية في زماكانية. تداخلت فيها ذاكرة الكاتب الخصبة والممتلئة بأحداث حروب، وتشرّد، ومطاردات أيضا. كما والخزين الفكري والأدبي للكاتب. جعل من هذا العمل الإبداعي إثارةً للتساؤل عما كانت الأحداث حقيقةً أم حلماً من أحلام الظهيرة المنقَّعة بحرارة شمس وادي الرافدين”.
قراءة ‘مستر كلكامش’ رحلة ضمن خطَّين تاريخيين انعدم الفصل بينهما
ويضيف “كانت قراءة ‘مستر كلكامش’. رحلة ضمن خطَّين تاريخيين انعدم الفصل بينهما على الرغم من الخلاف الزمكاني الذي امتدَّ على أكثر من خمسة آلاف سنة”.
ويتابع بقوله. “يأخذك عمر سعيد في عمله الأدبي هذا بين المخاوف والشوق المرتبط بالماضي وبين المحبة والأمان اللذين طالما كانا محطةً للتساؤل عن معنى الحياة. والوطن، والبيت، والصديق، والأم، وكثير من المفردات اليومية .هبوطاً إلى أبسط اللحظات والشعور بالانتماء في شرب الشاي مع أبو علي”.
نقرأ على الغلاف الأخير: “كلّ الصّراعات في الحياة هراءٌ في هراء. صراعُ الأرض والمعيشة والحبّ والخيانة، حتى الصّراع مع الزّمن. كلّها ترفٌ أمام صراعِ البقاء على قيد الحياة، الرّغبة في البقاء، ثم عدم القدرة على الاستمرار. سخيفٌ هو الجسد الذي يموت رغم كل الاحتياطات، ويقتل معه الفكرَ رغماً عنه، مقايضةٌ غير منصفة، فَلْيمت الجسد ويبقَ العقل. ربما هذا هو السّبب بمجيء فكرة الرّوح، فكرة أن يبقى منك شيءٌ حتى لو تحلّلَ لحمك وذوَت العظام، فكرة تهوّن مواجهةَ النّهاية، قد تتعبّد من أجلها عندَ قمّة جبل لعشرات السّنين أو تقدّم الأضحيةَ والقرابين لجذع شجرة. فكرة تتجسّد بزنبقة أو آية أو طلسم، أيّ شيء يجعلنا نعتقد أنّنا باقون فنتقبّل به آخِرَ الطُّعوم، طعم الموت.. أُحسّ أنّ العالم هو الكلمات التي اخترعناها، وهم من الحروف المتقاطعة لتصنع لنا المعنى، عند الموت تختلط الحروف وتهرب المعاني من الكلمات ليصبحَ العالمُ شيئاً آخر بمنتهى الرُّعب والغرابة”.
الكاتب العراقي الأميركي عمر سعيد
يذكر أن عمر سعيد من مواليد بغداد، حصل على درجة البكالويوس في تخصص الفنون المسرحية من أكاديمية الفنون الجميلة التابعة لجامعة بغداد، انتقل بعدها إلى عمّان ليعمل في حقل الكتابة التلفزيونية عبر كتابة مسلسل “ترانيم العاشقين” وغيره من الأعمال الأدبية. رحل إلى لبنان للعمل في حقل الإنتاج الدرامي في تلفزيون “المستقبل” ببيروت. هاجر إلى الولايات المتحدة وبدأ عمله مديراً لقسم اللاجئين في مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا. انتقل بعدها إلى العاصمة واشنطن ليعمل منتجا ومقدما تلفزيونيا لبرنامج “الطبعة الأخيرة” في قناة “الحرة عراق” الأميركية مدة 12 عاما، صدر له في القصة: “المومسات الثلاث” و”المنيع”. وتعد “مستر كلكامش” عمله الروائي الأول.
ميدل إيست أونلاين