يغمر الروائي زين عبدالهادي روايته “الحرب في الشرق” بالعاطفة الفوارة التي تطفو أثناء الحروب والتهجير، للإشارة إلى كيفية الحياة عبر التاريخ، لأجيال تسير كما القطار البطيء عبر سلسلة تبرز فيها أقوى الأحداث التي يلتقطها الطفل أثناء الحروب التي يعيش أحداثها في أحياء المدن، فالتمثيل الروائي للمدينة في روايته يتمتع بالتنوع رغم أن القصاصات هي صفحات بصرية يراها كمشاهد مكتوبة، وهو عجوز بعين طفل لم يغادر التفاصيل العالقة في العاطفة قبل العقل، فالحروب بالجمع وليس المفرد كما في العنوان حددت مصائرنا في الشرق منذ طفولة لملمنا فيها أشلاء المشاهد التي تنطبع بالأفكار المُتخبطة، وهي ذات الطابع الخاص مبتعدا عن الإثارة الذهنية للقارئ الذي يخرج من مقطورة إلى مقطورة في قطار الذكريات الذي أنشأه، ليكون إطلالات من نوافذ الزمن على أمكنة ميزها أدبيا، فهو أراد تسليط الضوء على فترات متعددة لكل منها رؤيتها الخاصة التي يهتم لها قارئ ما، ولا يهتم لها قارئ آخر.
العاطفة أثناء الحروب
فهل من ازدواجية في هذه الرواية الأقصوصية إن صح القول بمعناه المجازي. وما تمثله من معايير درامية مشحونة بعاطفة انطبعت شرقيا بسكان الوطن العربي. الذين تأخذهم العاطفة أثناء الحروب أكثر من القرارات العقلانية التي يمكن لها أن تنشلنا من عبء الاتهامات التي يطلقها البعض. وهي أننا شعب عاطفي متعلق بتراثه ومكانه، وبالماضي الحافل بالكثير من العظمة. وإن كنا في العصر الحديث نبحث عن السلام العادل (المستحيل). وهو السلام الذي يعيدنا إلى كل ما تم حرماننا منه لصالح تصحيح الرؤية؟
وهنا أقول إن الزمن يمحق بعضه البعض. فما هو مقبول في زمن ما هو مرفوض في زمن آخر. وما حدث عند فتح قناة السويس وتكلفتها الوطنية هي مربح سياسي آنذاك. وما زالت رغم ما أحدثته من إشكاليات وجدليات.
فالزمن يرفض فواصله تماما كما هي الحال في فواصل الرواية وتغيراتها بين الطفولة والكهولة . والعجوز الجالس في القطار يقرأ من دفتر ذكرياته ما قرأناه. فهل من حلموا بالثراء أثناء حفر قناة السويس شعروا بالخيبة بعد بناء الأكواخ ليبقوا قرب قناة السويس؟ أم أن فكرة الأمومة والحب والعاطفة هي فكرة مصر العاشقة لاحتضان أبنائها بسلام؟ وهل العاطفة الروائية والعاطفة الاجتماعية في الحروب تجعلنا في حيرة من قساوة التهجير والانتقال من أمكنة ننتمي إليها إلى أمكنة نشعر فيها بالغربة ونحن في حضن الأم الواحدة أو الوطن الأم بمعناه الواسع؟ أم أنه أراد التأثير بالإقناع العاطفي على القارئ؟
غموض غير منتظم بـ’الحرب في الشرق’
يتركنا دكتور زين عبدالهادي في استعادة للذاكرة من خلال الكتابة بالنسبة إليه، وبالقراءة العاطفية بالنسبة للقارئ. وغالبا ما يعتمد بعض الكتاب الكلاسيكيين هذا الأسلوب الذي يهتم بالإطار الزمني المتشظي في تشكيلات كلوحات برؤى مختلفة.
رغم أنه يمكن وصفه بالسرد بالمتقطع، ليغطي عدة أحداث سياسية. فهو من الأشخاص الذي ولدوا في مرحلة الوعي الحياتي السليم من الحرب. ومن ثم عاشها، لينقل الوقائع بشكل مذكرات حبذا لو جعلها كالأوراق، ولكل منها تاريخه الخاص.
فهي في مجموعة ضمن سرد بريء كأنه يناشد ذاكرته من خلال الطفل الذي خلقه روائيا، ليبقي على العاطفة الاجتماعية التي خسروها بسبب الحروب أو التحضير لها حتى لو تراءى الخيال في هذه الذكريات ذات الصلة بالسياسة العاطفية، بعيدا عن هيكيلية الرواية السياسية بأبعادها الانتقادية.
إذ يجرد الراوي نفسه من المعاداة لمن تسبب بالحروب ضمن شرق حصره بمصر، وضمن مناطقية تعددت في جغرافيا واحدة تقريبا كل مرة. فهل حاول استعادة طفولته في زمن لم تغادرنا فيه الحروب؟ أم أنه يتأفف من حروب جعلته يخسر الكثير من العاطفة العائلية والجماليات التي اندثرت من فنون وغيرها. وهل صاغ توضيحات لأحداث نتجت عن قرارات سياسية تسببت بحروب ما زلنا غير قادرين لخوضها؟ أم أنه طرح مشكلات الإنسان النفسية التي يتعرض لها الغلام قبل الطفل أثناء الحروب؟
المدينة الفاضلة
لا يمكن أن تنهار المدينة الفاضلة عند الروائي زين عبدالهادي وهو يبحث عن التساؤلات التي من شأنها أن تضعنا أمام صياد السمك، وأمام التي تحيك الثياب والاستمتاع بالأكواخ قرب قناة السويس وغير ذلك من عوالم ذاتية ينتمي لها عاطفيا بشكل عميق، وهي شكل من أشكال التمثيل العاطفي الناتج عن قرارات سياسية لم ينتقدها بشكل مباشر وإنما بتورية مغمسة بالاستدلال العاطفي، لكنه وضعنا أمام تأثيرات غامضة غير منتظمة عبر إسقاطات غير وهمية، ليكشف المصفوفة السردية التي استخدمها عبر خصوصيته الأدبية بعيدا عن اتجاهاته السياسية التي تراءت من خلف الحجب العاطفية.
فقد استطاع خلق المشاعر الجياشة روائيا وكأنها حقيقية عاشها حتى يصعب على القارئ تشذيب العاطفة المصطنعة من العاطفة الحقيقية التي تتسرب إليه، وبهذا استطاع الإمساك بالحالة الذهنية للقارئ العاطفي تحديدا وبقي القارئ الذي يبحث عن الشفرة السياسية في حيرة كبرى، فهل البعد الجمالي في الحياة الذاتية التي عاشها أثناء الكثير من الأحداث التي تمثل ما هو راسخ في ذاكرة مدينة قبل ذاكرته التي تجعلنا نتساءل هل هذه هي حقيقة حروب الشرق وبالجمع وليس المفرد؟ وهل تمزق العائلات عبر أزمنة مختلفة هي ما نشهده حاليا في الحروب التي نرى أحداثها حتى عبر منصات التواصل الاجتماعي وعلى أرض الحقيقة؟