حدثتْ القطيعة بيني وبين الكهرباء منذ اندلعت الحرب في سورية، لم يعدْ يشغلني المصباحُ الذي وضعتُه عند باب البيت ليعلمَ الآخرون أنه مفتوح لهم في أي ساعة يشاؤون. وتلك كانت وصية أبي الذي طلب منا أن لايُغلق بيتنا بعد وفاته، لكي يستمر الأهل والأقارب والأصدقاء بالتوافد عليه بمحبة، ودائما كان مصباح البيت الخارجي متوهجاً لهذه الغاية.
عندما اندلعت الحرب على السوريين، وكنتُ عائداً إلى بيتي، على الطريق الجبلي ليلاً، انتبهتُ إلى أن الضاحية التي أسكنُ فيها معتمة، بل كانت العتمة تغطي المدينة والضواحي كلها. رنوتُ من نافذة سيارتي إلى الأفق الجنوبي، فتراءت لي شعلة النار الكبيرة، وعرفتُ من خلالها أنه تم تفجير أنابيب الغاز التي تغذي محطات توليد الكهرباء للمدينة كلها، وكانت تلك أول مفاجآت الحرب التي لم تنته آثارها إلى اليوم .
في آخر مراحل الحرب، عدتُ إلى السراج، والسراجُ مفردة جميلة من مفردات اللغة التي نحبها، استخدمها العرب منذ آلاف السنين، لأنها ترتبط بالنور، بل إنها وردت في القرآن الكريم في آية من روائع الآيات تقول : “تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا”، وفسر العلماء السراج بأنه الشمس، والشمس على كل حال تعني النور!
ومع تجاربي مع العتمة، عتمة الأقبية ، وعتمة السجن، وعتمة الكهرباء، اكتشفت أن النور موجود في الصدر، يمكن لأي واحدٍ منا أن يتأكد من ذلك بإغماض عينيه، والسفرِ بعيدا في البحث عن النور، فلاشك أنه سيجده في فكرة أو عبارة أو عبادة أو إشراق، سيجده لا محالة من دون حاجة للكهرباء !
وأنا فعلتُ ذلك .
خضت التجربة تحت وطأة الحاجة، فماذا أفعل عندما يأتي الليل بعتمته القاتلة، والمصابيح الميتة، وكل أدوات الإنارة التي توافدت علينا في الحرب، ولم تجد نفعاَ؟
قررت أن أن أبحث عن النور في قلبي، ولم تكن المسألة صعبة ، لم تكن صعبة أبداً، وعندما قمت بالتجربة ، توهج نورٌ ساطع في قلبي وعقلي وصدري، وكان بإمكان هذا النور أن يكشف لي ما أريده ، واكتشفت أن مشكلتنا في الحياة أننا نحتاج النور لرؤية الأشياء، أما في الحقيقة فإننا نحتاج إلى نور البصيرة ، وهي أفضل وأكبر بكثير من نور الكهرباء والبطارية ومختلف أنواع اللدات التي استوردناها بملايين الدولارات لنسد ثغرة انقطاع الكهرباء.
في الأسبوع الماضي، صادفني رجل أعمى، يهش بعصاه على حافة الطريق، ويمضي قدماً باتجاه شجرة كبيرة، أحسست أنها ستحطم وجهه، فهرعت إليه وتأبطت ذراعه، وسألته :
ــ سأصطحبك ريثما نقطع الطريق . فرد بعبارة بسيطة :
ــ جزاك الله خيراً.
ــ إلى أين تريد الذهاب ؟
ــ إلى مركز بيع السجائر، فأولاد الحرام سرقوا لي الصندوق الذي أسترزق منه في بيع السجائر.
قلت له : بسيطة، فهو بجوار بيتي.
ومشينا، وذهبتْ أفكاري بعيداً، أستعيد قصة النور والكهرباء، وأربطها بالعمى والأعمى الذي أصطحبه معي، فإذا به يحذرني :
ــ يارجل ، أين رحت في شرودك ؟
وأضاف وهو يمسك بي ويوقفني عن المسير :
ــ كدنا نصطدم بعمود الكهرباء ، فقد اتكلت عليك !
بالفعل كانت قد بقيت خطوة واحدة لتحدث فاجعة الاصطدام بالعمود، الذي استدل عليه بعصاه، فاستجبت لوقوفه، وسمعته يقول :
ــ اتركني ، فأنا أعرف الوصول إلى مركز التوزيع، ولم يبق إلا عدة أمتار .
وتركته، وراقبته وهو يصل بأمان، أما أنا ، فبقيت إلى الآن أتعثر في الطريق، وأصطدم بالأعمدة والسيارات وحواف الأرصفة، وأسأل الله أن لايعمي بصيرتنا، وأن يبعد عنا أولاد الحرام الذين يسرقون الصناديق التي نسترزق منها ونشتري خبزا لأولادنا !
بوابة الشرق الأوسط الجديدة