لقاء موسكو وشرفات الكلام
لقاء موسكو وشرفات الكلام… كُتب الكثير عن لقاء موسكو المزمع عقده نهاية هذا الشهر بين أفراد معارضين سوريين لمدة يوم واحد، ثم بينهم وبين وفد من السلطة السورية ليوم واحد أيضاً. وبرغم أن اللقاء أُشبع تحليلاً وتركيباً وأُدخل في «الاستراتيجية» وأُخرج من «التكتيك»، ومرّ ما كُتب على الظروف الموضوعية القائمة والتي ستقوم، وتعرض لمواقف الأطراف جميعاً، واستنتج المحللون والمركبون والكتاب ما استنتجوه غثاً كان أم سميناً، وقدم بعضهم نصائح وبعضهم الآخر أمنيات، برغم هذا كله فإن اللقاء ما زال يغري بالكتابة عنه وحوله، لأنه يثير الدهشة، ويعطي صورة عن خفة السياسة الروسية، وقصر نظرها، وتمسكها بزبد البحر على أمل أن ينقذها من الغرق، فضلاً عن أن اللقاء يوحي بعدم جدية أصحاب القرار الدوليين تجاه الشأن السوري، ويثبت طغيان مصالح هؤلاء على ما عداها، وبرودة أعصابهم وطول انتظارهم لحل هو بيدهم، لما لم يشهد له العالم المعاصر مثيلاً.
إن لقاء موسكو، بشقيه المتعلقين بالمعارضة والسلطة، هو لقاء بلا برنامج عمل ولا منهجية، وليس له اتخاذ قرار أو توصية أو حتى تمنيات على أطراف النزاع. كما أن السلطة رفضت أن يكون التمثيل لتيارات أو تجمعات أو أحزاب سياسية معارضة، وأصرت ألا يتجاوز هذا التمثيل تمثيل أفراد. وقد وافقت الديبلوماسية الروسية على مطالب السلطة، كما أصرت السلطة على أخذ موافقتها على أسماء المعارضين المدعوين، أو على الأقل كان لها رأي بحضورهم. وقد أكدت أن اللقاء ليس حواراً بل مقدمة قد «تصلح» تمهيدا لحوار، أي، بحسب التعبير المصري، تحول اللقاء إلى «مكلمة» يقول كل مشارك فيها ما يطيب له، ويمرّن لسانه على مزيد من الألفاظ، من دون أي مسؤولية لاحقة، لأنه لا يمثل أحداً سوى نفسه. وليس للقاء جدول أعمال أو محاور نقاش أو أهداف ليبحث عن وسائل تحقيقها، كما ليس له اتخاذ قرار أو فرض قرار على أحد، ولا من ضامن لما بعد اللقاء.
ويبدو أن أصدقاءنا الروس لم يحترموا مثل هذا التقليد الذي ما زال معمولاً به، فتقاليد القرن الـ 21 تقضي بأن يكون لكل تسوية قوة ضامنة، سواء كانت دولة أو مجموعة إقليمية أو مجلس الأمن أو خلاف ذلك، لئلا يفكر أحد الطرفين بـ «النشوز». والخلاصة أن الروس دعوا للقاء بين أفراد سوريين، ثم بينهم وبين أفراد من السلطة (أي لا سلطة لأي من الطرفين) ليبحثوا لا شيء، وليتوصلوا إلى لا شيء، بل ليقول الروس إنهم عملوا شيئاً. وربما لخبث الأميركيين، فقد شجعوا الجميع على المشاركة وأعربوا عن رضاهم عن اللقاء، لأنهم متأكدون أنه سيكون بلا نتائج، وسيزيد من سخط كثير من السوريين على السياسة الروسية التي عطلت حلولاً واستخدمت «الفيتو» ولم تضغط على النظام بأي وسيلة ناجعة. ومن الواضح أن موسكو تسعى لتحقيق مصالح السلطة القائمة وإضعاف هيبة المعارضة (إذا ما بقي لها هيبة)، وكسب وقت ريثما تستجدّ ظروف وشروط جديدة قد تكون لمصلحة النظام ويتغير ميزان القوى بشكل واضح. وربما كان اللقاء بمجمله محاولة من بيروقراطية وزارة الخارجية الروسية لتقنع قيادتها السياسية أنها تعمل وتجهد للوصول إلى تسوية تحقق مصالح بلادها، وأنها ما زالت تحتفظ بدور لها في الشرق الأوسط. ولعل هذا هو الذي أخرج وزير الخارجية الروسية لافروف عن ديبلوماسيته ووقاره، حين هدد المعارضة السورية بأنها، إن لم تشارك، فستدفع ثمناً غالياً في المستقبل، واتهمها بالاهتمام بالتكتيك وامتهانه أي بقصر النظر، ثم خفف نقده لاحقاً، ولكن بعدما أخذ تصريحه مفعوله السلبي.
اللافت للنظر أن السياسة الأميركية، على عكس عادتها، باركت الخطوة الروسية وتمنت لها النجاح، وهي تعلم بالتأكيد أن لقاء موسكو لا هو خطوة ولا هو يملك هوية أو هدفاً واضحاً، وإنما هو إجراء لا أكثر ولا أقل، يأخذ حيزاً من الوقت ويملء فراغاً، ريثما يصل أصحاب القرار (ومنهم روسيا) إلى قرار. ولو كان من هذا اللقاء جدوى، لحاول الأميركيون تعطيله وإفشاله وخطفه بدلاً من التشجيع على انعقاده، لأنهم يرفضون أي حل لا يكون تحت رعايتهم، أو على الأقل بمشاركتهم الفاعلة.
لقد وصلت الأزمة السورية بل المأساة السورية، درجة بالغة التعقيد والسوء، وصارت واقعاً كارثياً على البلاد وشعبها والدول المحيطة بها، بل وعلى العرب والأوروبيين والإيرانيين والروس والأميركيين أيضاً. وصار من المتعذر حلها بكلمات أو خطابات أو نوايا حسنة، أو بمهارات ديبلوماسيين، لأنها أصبحت تتصل بحاضر المنطقة ومستقبلها، وذات تأثير كبير في الدول المشار إليها. وفي الوقت نفسه، صار كل هؤلاء، كبارا وصغارا، شركاء في الحل، وأخذوا يدركون جميعهم أنهم معنيون به. وفي الحالات كلها، لم يعد للسلطة السورية أو المعارضة دور فاعل في الحل إياه.
وبرغم المماطلة الدولية خلال السنوات الأربع الماضية عوضاً عن الإسهام المساهمة في إيجاد حل للأزمة السورية، وبرغم أن كلاً من الأطراف الإقليمية والدولية كان يمارس ما بدا نافعاً له ولمصالحه من دون الأخذ بالاعتبار مصالح الشعب أو ما يريده، فإن الظروف الحالية أوصلت الخطر إلى أبواب الجميع وبدأت النار تحرق بعض أصابعهم، وربما سيجبرهم هذا على اتخاذ مواقف أكثر جدية بخصوص الأزمة وعلى السعي لإيجاد حلول لها في أقرب وقت.
فروسيا وإيران تخافان من أن يتيح استمرار الأزمة السورية المجال للحركات الإرهابية للقفز نحو كل منهما. إذ إن «داعش» أصبحت مجاورة لإيران، كما انها تحاذي أقاليم القوقاز الروسية. وبلدان الجوار وسائر الدول العربية الأخرى تضعفها الأزمة السورية بكلكلها اقتصادياً ومالياً وأمنياً واجتماعياً وسياسياً، وبعضها مهدد بدوره بانتقال أعمال العنف إلى أرضه. وتخشى بلدان الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية من استيطان الإرهاب فيها. ويبدو، في الخلاصة، أن جميع الأطراف الدولية، وهي صاحبة القرار، أخذت تشعر بضرورة حل الأزمة، إنما ينتظر كل منها أن يكون الحل مناسباً له، وهذا ما يشجع على التفاؤل، وعلى إمكانية تحقيق تسوية حتى لو كانت تسوية عرجاء.