مَن ينقذ «المكتبة الأخيرة»؟…في قسم خاص بالمكتبات في كل أنحاء العالم، هناك رفوفٌ خاصّة تسمّى «الكتب عن الكتب». نجد في هذه الرفوف ترشيحات كثيرة، منها كتبٌ عن القراءة، ككتب ألبيرتو مانغويل، وروايات عن الكتب والمكتبات. ما يلفت أحياناً في هذا القسم، هو اهتمام الكتّاب الجاد بالقراءة وجعلها بمثابة حياة ثانية أحياناً، يضاهي سحرها الواقع بمشكلاته الكثيرة والمعقدة، وأحياناً يلفتنا في مواضيع هذه الكتب، انسحاب القرّاء من العالم وجعل المكتبة عالمهم الخاص المثالي.
تبدو الكتب أمكنة لإنقاذ الإنسان من العالم ومدّ اليد له كي يتسنّى له التوازن في عالم محاصر بالشرور. ربما نستطيع القول إنّ الكتابة عن الكتب، أصبحت بمثابة «رحلة» لكي يحكي فيها الكاتب أو الروائي عن حياته مع القراءة، وأحياناً نستشف عروضه للكتب التي قرأها بمثابة قصص عما قدّمت له هذه الكتب من تجارب حية. كما قال هنري ميلر في مستهل كتابه «الكتب في حياتي»: «إن الكتب أحد الأشياء التي يدللها البشر بعمق، وكلما كان الإنسان راقياً يتشارك بشكل أسهل مقتنياته العزيزة. وكتاب يتمدد بتكاسل على رف هو ذخيرة ضائعة سدى، وكالمال، يجب جعل الكتب في حالة تداول مستمر».
يأتي هنا إلى الذهن سؤال عاجل: «هل تصبح الكتب في لحظة ما بحاجة إلى إنقاذ؟». وبينما نحن نطالع كل تلك الكتب وفي معظمها مترجم، تلوح أيضاً في المخيلة صورة «مكتبة سمير» التي دمرتها إسرائيل في عدوانها الأخير على غزة. كما نتذكر «حملة المئة ألف كتاب» لدعم مكتبات غزة المنكوبة، التي أطلقتها «مؤسسة عامل الدولية» و«دار نلسن للنشر». لكن تعنّت العدو الصهيوني وحال دون وصول هذه الكتب إلى غزة. فهنا أيضاً أتساءل كقارئة فلسطينية محبة للكتب، وأنا أقرأ رواية غربية عن إنقاذ الكتب، كيف لا يتدخل هذا الغرب لإيصال الكتب، وكيف يسمح العالم بجرائم ضد الإنسان والكتب معاً، ترتكبها دولة فاشية، في حين تمتلئ الرفوف عن إنقاذ الإنسان وإنقاذ الكتاب؟
هكذا نتخيل ونحن نقلّب صفحات «المكتبة الأخيرة» (2021) التي انتقلت أخيراً إلى العربية (دار التنوير ــ ترجمة شريف حمدي). في رواية الكاتبة الإنكليزية فريا سامبسون، نعثر على نضال ضد إقفال مكتبة في قرية، تعمل فيها فتاة في العقد الثاني من عمرها وتعاني من انطوائية وخجل في حياتها، لكنها تنجح في الدفاع عن مكتبتها ومجتمعها، فتخرج من قوقعتها لتدافع عن مكانها. بالتأكيد تجعلنا البطلة هنا نتعاطف مع قصتها، ومع الكتب التي تشكل بالنسبة إليها هوية ما، تربطها بأمها الراحلة أيضاً، فيشكل وجودها في المكان، ككناية عن وطنها، وعن حالتها النفسية التي تخرج منها بمجرد دفاعها عن هذا المكان. وهذا ما يجعلنا نسائل أنفسنا والأدباء في الغرب: هل نحتاج إلى حملات عالمية لإنقاذ مكتباتنا من قاتليها؟
وهنا تأتي الإجابة من إدوارد سعيد الذي يقول في كتابه «الثقافة والإمبريالية» إنّ «التجربة الإنسانية، رغم أن لها لباباً ذاتياً غير قابل للتقليص، هي أيضاً تجربة تاريخية ودنيوية، في متناول التحليل والتأويل». لذلك ربما نجد أنفسنا نقارن لا شعورياً بين ما يحدث في عالمنا العربي من إغلاق مكتبات وتدمير لها وحرقها كما حدث في غزو العراق، وما نقرأ في روايات تدافع بشدة عن وجود الكتب ككائنات وتجارب إنسانية وتاريخية من حولنا. قراءة هذا الكم الهائل من الكتابة عن الكتب، يأخذنا إلى فكرة أساسية وتاريخية هي أن ننقذ أوطان هذه الكتب أيضاً، أو ربما أن تنتصر الأوراق والكلمات والمعاني والتجارب الحية على الغزاة.
كل تلك الأفكار لا تغيب، بل ربما تعززها الروايات عن الكتب، لنتساءل أيضاً: لماذا لا نقرأ روايات عن الكتب في عالمنا العربي؟ وربما تأتي إلى الذهن أسئلة أخرى حول توجيه القراءة الذي يغيب أيضاً عن مناهجنا التربوية والمكتبية. فتتحدث الرواية عن ترشيحات للكتب من قبل بطلة الرواية جون لزائري المكتبة، بوصفها قارئة أيضاً، وهنا تبدو مسألة زيارة المكتبة رحلة لاكتشاف نوعية الكتب وكيف تشكل جزءاً من حياتنا ومعرفتنا. وهذه المسألة أيضاً غير واضحة في عالم يغزونا بكم هائل من أسماء الكتب وعروضات للكتب وترويجات لها، فربما نحن بحاجة إلى التفكير في كيفية تقديم هذا النوع من الكتب للقارئ بشكل يحفزه للتفكير الناقد بها.
هناك مسألة أخرى أيضاً تثيرها قراءة هذه الكتب، هي العلاقة بين الثقافة والقراءة، فهناك فكرة رائجة أن العرب لا يقرؤون وأن الثقافة هي كمية الكتب التي نقرأها. يقول الناقد والكاتب عبد الله الغذامي في كتابه: «اليد واللسان: القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة» إنّ الربط بين القراءة والثقافة لهو ربط قسري يتجاهل حقائق جوهرية حول مصادر الثقافة وأولها الرواية الشفاهية التي كانت مصدراً تاريخياً شاملاً وكلياً له مفعول جبار في القديم مثلما له مفعول حديث في زمن الإذاعات والمسجلات والمرويات الصوتية ثم جاء زمن الصورة». لذلك ربما لا تغفل هذه الرواية أن هناك ثقافة أخرى خارج أسوار المكتبة، تتمثل في مواجهتها للحياة الاجتماعية في القرية، ما يطرح أيضاً سؤالاً مهماً: هل تحتاج الثقافة إلى ركائز أخرى لا تحتويها الكتب كالمواجهة الحسية المباشرة مع العالم مثلاً؟
قد تكون هذه الرواية وغيرها محاولات جادة وشيقة للحديث عن المكتبات والكتب وأهميتها والنضال من أجلها، وهو موازٍ للنضال من أجل الأشياء الجميلة في العالم كالهوية والوطن والمكان والعائلة والقرية، لكنها تستدعي أيضاً أفكاراً عن بلاد تستعمر فيها الكتب والقرى والهويّات.