«أرض المدامع» تكشف كنوزها أمام البشر (سلمان زين الدين)

 

سلمان زين الدين

«أرض المدامع» هي الرواية الثانية، بعد أولى هي «سرير الأسرار» للروائي المغربي البشير الدامون (المركز الثقافي العربي). والمدامع، في التاريخ، هي أوانٍ صغيرة مصنوعة من زجاج غير شفاف كان الرومان يجمعون فيها الدموع عند فراق حبيب أو وفاة عزيز. وفي الرواية، هي الأواني التي يعثر عليها سيد القصر في كهف تحت الأرض، بعد مغامرة كلفته حياة زوجته، وفيها دموع الملكة جونيا أورانيا على زوجها بطليموس. وبذلك، تكون «أرض المدامع»، أرض التاريخ والحزن والكنوز والأسرار، هي الفضاء الروائي الذي يجمع بين الحاضر والماضي، بين الواقع والحلم، بين التاريخ والأسطورة. في هذا الفضاء المتخيّل تدور الأحداث، وتتحرّك شخصيات الرواية بحثاً عن كنوز تحلم بها، وتخوض دونها مسارات صعبة ومتعرّجة، فيعثر بعضها على كنزه، ويعود بعضها الآخر من الغنيمة بالإياب، ويصرّ البعض الثالث على متابعة البحث.
تدور أحداث الرواية بين مدينتي تطوان وفاس المغربيتين، في الثمانينات من القرن الماضي. وترصد محاولات الشخصيات تغيير الواقع القائم بالفعل المباشر أو بالحلم والسعي لتحقيقه، بالعمل الفردي أو بالعمل الجماعي، ويكون لكل شخصية مخاضها الذي يترتب عليه نتائج معيّنة. فنحن أمام شخصيات قلقة، لوجودها في واقع سفلي، أو لوجودها في واقع جيد لا تكتفي به وتتطلع إلى واقع أفضل. ولكل شخصية حكايتها المتقاطعة مع حكايات الآخرين في شكل أو في آخر، ولكلٍّ كنزها الذي تحلم به وتبحث عنه.
الشخصية المحورية في الرواية هي الراوية ثلاثة من فصولها الخمسة، المنخرطة في الأحداث والشاهدة عليها، وهي تنتمي إلى القاع الاجتماعي في ولادتها ونشأتها، وتناضل لتغييره في شبابها، وتدفع دون نضالها ثمناً كبيراً. تبدأ الراوية الرواية بجملة «أعبر بحراً من الليل» (ص 9)، وتنهيها بجملة «إنني ملزمة بمواصلة العبور» (ص 222)، حتى لتبدو حياتها، ما خلا محطات قليلة، عبوراً متواصلاً في الليل، فهي لقيطة نشأت في دار للمومسات، والمفارق أن مديرة الدار ممّا الزاهية تعهّدتها بتربية صارمة، فلا تنزلق إلى أفكار أحمد المتحرّرة، زميلها في الجامعة، ولا تسقط في إغراءات أمير، ابن سيد القصر، وتحفظ جسدها وروحها. تنخرط في النضال مع رفاق الجامعة وآخرين ضد النظام الرأسمالي الحاكم والطبقة الرأسمالية، فتوزّع المنشورات، وتتظاهر حتى إذا ما أخذ النظام يطارد المشاركين لاعتقالهم، تتدبّر ممّا الزاهية إخفاءها في قصر الباشا، هي التي كانت أخفته في شبابه حين مرّ بظروف مشابهة. تلبي دعوة أمير، ابن سيد القصر، لاكتشاف السراديب التي تزعم وصيّة قديمة أنها تحتوي على كنز لكنهما لا يعثران على شيء، ويأتي تدخّل سيدة القصر في اللحظة المناسبة لينقذها من الخوض في سراديب الجسد، وليجهض علاقة عاطفية كانت آخذة في التبلور بينها هي الآتية من القاع الاجتماعي وبين أمير المتحدّر من طبقة السادة. وتكون المفارقة أن الطبقة التي تناضل ضدها تقوم بحمايتها، ما يُسقط روائيّاً طبقيّة الصراع. تُعتقل وتخضع لأبشع أنواع التعذيب، ولا تبوح بأسماء شركائها في توزيع المنشورات والحض على التظاهر، ثم يُطلق سراحها لتردي وضعها الصحي. تقودها خطاها ذات حلم إلى الفردوس غير أنها ترفض كل الإغراءات للبقاء فيه، وتصرّ على العودة والعبور، وتشهد على نفسها أنها أثمن كنز (ص 222). تتهاوى الكنوز التي حلمت بها تباعاً، يسقط كنز التغيير بقمع النظام الحاكم، يسقط كنز الحب والارتباط بأحمد زميلها الجامعي بترفّعها عليه، يسقط كنز الحب مع أمير بخضوعه لإرادة أمه، يسقط كنز السراديب بعدم العثور عليه، يسقط كنز الفردوس بإعراضها عنه، تكتشف في نهاية المطاف أنها، بصبرها ومعاناتها ورفضها الإغراءات وعدم خضوعها للضغوط، هي الكنز الحقيقي.
أزمة الفقدان
الشخصية الثانية في الرواية هي شخصية سيّد القصر، الراوي فصلين اثنين فيها، المنخرط بدوره في الأحداث والشاهد عليها. وهو، على رغم انتمائه إلى طبقة السادة، يحب وطنه وأهله، ويتضامن مع الطبقات الدنيا، ويسعى إلى الإصلاح من خلال انتسابه إلى حزب سياسي، فيُعتقل. يقترن بمرجانة المتحدرة من طبقة العبيد، فيطرده والده الباشا من القصر. يلبي دعوة باخلافة حميّه، أمين طائفة عبيد كناوة، للبحث عن كنز بطليموس في السراديب الواقعة تحت القصر، ويخوض مغامرة خطيرة تنتهي بأن يفقد مرجانة، كنزه الحقيقي، ويحصل على المدامع، فيكون كمن أضاع ما في يده ليحصل على ما في الغيب فيخسر الاثنين معاً، ويخلص، بعد المغامرة وفوات الأوان، إلى أن الكنوز قد تكون بين أيدينا، ولا نراها، ولا نعرف قيمتها إلا بعد فقدانها. لذلك، نراه مرّة يخبر ابنه أمير أن الكنز قربه في تلميح إلى الراوية التي آواها في القصر، ويرافقه إلى إسبانيا مرّة أخرى ليعلمه أن الكنز في متابعة الدراسة وليس في جبال غرغيز.
الشخصية الثالثة التي تبحث عن الكنز هي شخصية عبدالنور، شقيق سيد القصر، غير أنها تبحث عنه في مكان آخر هو الذات. فعبدالنور حين يشترك في اكتشــاف السراديب الأخرى تحت القصر نزولاً عند رغبة أمير، ابن أخيه، وبمشاركة سيد القصر والراوية، يروح يقارن بين هذه الدهاليز المادية المظلمة التي لا تقود إلى مكان وبين سراديب أخرى مختلفة وأكثر ظلمة قطعها وحيداً في نفسه، وكابد فيها أهوالاً ومشقّات، فأفضت به إلى النور حيث عثر على كنزه الحقيقي. لذلك، يخاطب ابن أخيه في نهاية الرحلة بالقول: «لا غنى يا بني إلّا غنى النفس ولا كنز إلّا كنز الروح» (ص 174).
من خلال هذه الشخصيات وسواها، ومن خلال شبكة من العلاقات الروائية التي تنخرط فيها، يقول البشير الدامون إن تغيير الواقع وتحقيق الأحلام هما مسألة أرضية، لا تتحقق بالحفر تحت الأرض والغوص في التاريخ والهرب إلى الغيبيات، وإن الكنوز الحقيقية قد تكون فينا أو حولنا، المهم أن نراها ونكتشفها ونحافظ عليها. ويقول من جهة ثانية دور الأنظمة القمعية في تأبيد الواقع المتخلّف، وكسر إرادة الناس في التغيير، فينتهي بهم المطاف بين معتقل، ومطارَد، ومتخفٍّ، وقتيل، ومجنون. ويقول تحوّل الخلاص من موضوعة جماعية إلى موضوعة فردية، فتروح كل شخصية تبحث عن كنزها في داخلها، أو تحت الأرض، أو فوقها، أو في الجنة.
هذه الحكاية ينتظمها نصٌّ روائي جميل، يتنوّع بين الوصف والسرد والحوار، ويُفرد لكل مقام مقالاً. فحين يصف يحمل متعة للعين، وحــين يتوغّل في رصد الحركة تحت الأرض يجعلك تحبس الأنفاس، وحين يصوّر الأحداث الدرامية يحملك على التوتّر، وحين يدخل في الحوار يحملك على المتابعة. وهو يفعل ذلك، بجمل قصيرة ومتوسّطة، ولغة يتفاعل فيها الوصف والسرد داخل الجملة الواحدة حيناً، وداخل النص أحياناً، فتأتي إنشائية الوصف لتخفّف من تقريرية السرد. هكذا، يأتي جمال الخطاب ليحتوي جمال الحكاية.
على أن ملاحظة لا بد منها في خاتمة هذه العجالة، وهي أن الكاتب الذي أسند عملية الروي إلى الشخصيّتين الرئيستين في الرواية، الطالبة الجامعية المجهولة النسب وسيد القصر، حجب عنهما التسمية. وإذا كان حجبها عن سيد القصر يمكن أن يبرّر بشهرة الشخصية في فضاء ينتمي بمعظمه إلى القاع الاجتماعي، فكيف يمكن تبرير ذلك في حال الطالبة الجامعية المتحدّرة من هذا القاع؟ هل هو البعد التمثيلي لكل من الشخصيّتين دفعه إلى القيام بذلك؟

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى