«اللــص والكــلاب» اليــوم (عباس بيضون)

عباس بيضون

أين يكون نجيب محفوظ من الربيع العربي اليوم، بل أين يكون من مصر التي تقف على شفا تنازع أهلي بدأت تباشيره الدموية في الظهور. وهل لنا أن نستعيده ونحن نسمع بالذبح يعمل في رقاب رواد ستاد بورسعيد وبالحريق حول قصر الاتحادية وبالهجوم على الفنادق والمؤسسات. هل نرجع إليه مجدداً لنرى مصر، أم ان مصر اليوم، مصر الشقاق الأهلي والخصومة الدامية لا تكاد تشبه رواياته التي لا يكاد الزمن يمر فيها أو انه يتتابع ضمنها ببطء يكاد معه ان يكون كسيحاً أو عاجزاً أو ساكتاً، مصر التي لا نجد لها نظيراً في رواياته أو روايات غيره، فالأرجح انها لا تكاد تشبه نفسها والأرجح اننا لا نجد في ماضيها القريب سوى حريق القاهرة الشهير نموذجاً سابقاً على اضطرامها الحالي.
ليس نجيب محفوظ الروائي ثورياً، فإذا كانت هناك سمة للثلاثية وزقاق المدق وبداية ونهاية وروايات تلك الحقبة من حياة نجيب محفوظ فإنها تكاد تفتقر إلى التحول أو إلى الانقلاب أو إلى التغيير.
في هذه الروايات مسار باهت، الزمن فيه ينخر ويتآكل ويكاد يعمل وحده، فيما الحياة تنقضي في تكرار ودوران رتيب يتحول فيه الأشخاص إلى نماذج إنها المثقف والمعلم والضابط والشحاذ والمومس، كل مدموغ بعمله ونموذجه وظرفه وبيئته. وكل يتآكله الوقت وتتآكله العادة ويتآكله الظرف فيسير إلى نهايته كمن يسير إلى قدره، انه تهافت وانتكاس ونخر، وإذا خامره طموح ما أو دفعه باعث ما فتلك هي الفضيحة، سرعان ما يبدو هذا الطموح وذلك الباعث زائفين كاذبين. سرعان ما يتحولان إلى مهزلة وألعوبة يخرج منهما القدر ساخراً صارماً وقاطعاً.
ليس التحول ولا التغير سمتي شخصيات نجيب محفوظ، لم يكن محفوظ واقعياً اشتراكياً، لذا فإن واقعيته سوداء، نقدية. إذا لاح هناك أمل سرعان ما يخبو وإذا ارتقى إنسان سرعان ما يبدو هذا الارتقاء مشبوهاً، وإذا تراءى له انه انتصر على واقعه سرعان ما يلتقمه هذا الواقع بأسنانه ويطحنه بها. لنقل إن المستقبل ليس معدوماً في روايات نجيب محفوظ، لكنه ليس مشروع حياة، انه فقط النهاية التي يقود إليها زمان تكراري، انه حصيلة هذا التعثر وذلك التهافت اليومييْن، لا نستطيع الزعم بأن ثوار مصر خرجوا من روايات نجيب محفوظ، فالثوار يؤمنون بالمستقبل والثوار ينزلون إلى الشارع ليصنعوا هذا المستقبل، وليس في روايات نجيب محفوظ ثورات، بل إن ثورييه، إذا جاز ان نطلق عليهم هذا الاسم، يحملون ثوريتهم كما في اللص والكلاب كقدر تراجيدي. انهم محكومون بها كما هم محكومون بمصائرهم المأسوية وهم يندفعون فيها موقنين من انهم يسيرون إلى خسائرهم وأن سقوطاً صارماً ينتظرهم في الأسفل. ثوريو نجيب محفوظ يتامى زمانهم، خاسرون من البداية ومحكومون بالخسارة. إن شيئاً كالقدر الصلب ينتظرهم ويتربص بهم. الحتم التاريخي في روايات نجيب محفوظ ذات الترسيمة الطبقية شبه الماركسية ليس سوى هذه الخسارة المقدرة. هل يعني ذلك ان ليس بين لص نجيب محفوظ وثوريي القاهرة والاسكندرية اليوم وجه شبه. هل يعني ذلك ان ذلك الثوري شبه الانتحاري الذي سلم نفسه لأسنان الكلاب ليس له نظير بين ثوريي مصر الحالية، وأن هذا الحراك المليوني الحاشد يكذب صورة اللص الفرد الذي يواجه وحده المجتمع برمته.
لا نجد في روايات نجيب محفوظ أي أمل بالثورة ولا أي دعوة ثورية، هذا بالطبع لا يضر أدب نجيب محفوظ ولا يثنيه، لكن الأدب الحقيقي كما هو أدب محفوظ لا ينصاع للواقع، بل ينفذ إلى داخله ويرى صميمه المتعفن والإجرامي والقبيح، رأى نجيب محفوظ بدءاً من ثلاثيته هذا الصميم المشبوه. الأدب الحقيقي لا يتنبأ بالطبع لكنه يستشرف، وأدب نجيب محفوظ عاين التراب الشعبي المصري، تراب المنبوذين، تراب الطحين الاجتماعي. أبطاله الشعبيون كانوا من هذا التراب، لم يتنبأ محفوظ بثورة بل كان أدبه كله يأساً من الثورة، لكنه عاين من قرب ذلك الطحين الاجتماعي الذي صار الآن مادة الثورة. لقد رأى نجيب محفوظ مصر وعاين مصر، رأى من قرب الركام الاجتماعي المصري واليوم وقد انفجر هذا الركام وقد غلى ذلك الطحين وخرج من محابسه فإننا نرى صورته في أدب نجيب محفوظ، بل نحن نستشير روايات نجيب محفوظ لنفهم هذا الطحين ولنفهم حراكه ومزاجه وطبعه، هكذا نعثر مرة على لص نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»، لقد سار هذا اللص إلى نهايته مدفوعاً ليس فقط بإيمانه بل أيضاً بغضبه من أولئك الذين خانوه. لقد قبل مصيره بامتثال أخلاقي، وبقبول تراجيدي، كان لص نجيب محفوظ فرداً وسقط كفرد، لكن ألا يشبه اولئك الذين يرمون بأنفسهم إلى التهلكة غير هيابين في مصر وحتى في سوريا اليوم، ألا يشبه هؤلاء الذين ينزلون إلى اليوم إلى الشارع بدافع ذاتي وتوق داخلي من دون ان يكون ذلك فدوى لقرار وامتثالاً لدعوة، ومن دون ان يسفر ذلك الحراك عن قيادة ملموسة. إنه غليان السديم الاجتماعي المهمل والراكد والمتروك والمهمش، انه صدام الطحين الاجتماعي بالأجهزة، الخروج من الحضيض وعنف الحضيض. يمكننا ان نرى في ما يجري اليوم الأفق الذي يحتمل ان يتطور إليه بطل اللص والكلاب وأبطال روايات محفوظ عن الواقع الشعبي بوجه عام.
كان نجيب محفوظ نقدياً، لقد حرر الرواية من الإنشاء الوجداني والخطاب الاحلافي والشعبوية الموروثة، كان نقدياً، وذلك يعني في جملة ما يعني، الاعتراض، لم يلق محفوظ درساً ولم يطرح امثولة ولم يكن صاحب دعوة، لكنه كان رائياً وكتب ما كتبه عن مصر الحقيقية وبدون ان يكون عرافاً او نبياً، استطاع ان ينفذ إلى المصري وان يجد المصري وان يتناول المصري. هذا المصري، مصري الشوارع والأحياء الضيقة وسكان المقابر، هو الذي خرج منها إلى قصر الاتحادية وهو الذي ابتلع الرصاص واستمر يتقدم واستمر يهاجم، وهو الذي قاد الآن ولم يستطع احد ان يأمره بالتراجع او الهدوء، في أدب نجيب محفوظ نجد الشعب المصري، هذا الشعب الذي خرج من القمقم الألفي واهتاج ولا نعرف متى يضع حداً لهياجه، بل لا نعرف ماذا سيحطم في طريقه، لكننا مع ذلك نجده في روايات محفوظ والكلاب تنوشه، ومنذ روايات محفوظ حتى اليوم، لا نزال نسمع نباح الكلاب الضارية وهي تنبحه، ربما ليست الكلاب نفسها لكنها تنبح من أماكنها ووراء الجدران ذاتها.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى