«حجر الصبر» أو الاعتراف على الحافة (إيمان حميدان)

 

إيمان حميدان

تنفتح رواية حجر الصبر على مكان مغلق أراده الكاتب والسينمائي الأفغاني عتيق رحيمي ان يكون المسرح الأساسي وشبه الوحيد لروايته: "غرفة مستطيلة جوّها خانق على الرغم من جدرانها المطلية بلون فاتح… وستارتيها المزينتين بتصاوير طيور مهاجرة تجمدت أجنحتها المحلقة وسط سماء صفراء وزرقاء….". صورة لرجل ثلاثيني علقت قرب خنجر وتحت الصورة الرجل نفسه، يبدو كجثة ترقد في فراش بينما تتجمد عيناه كأنه في كوما لا نهاية لها. منذ بداية الرواية بنسختها العربية والتي لا تتجاوز الـ107 صفحات يضعنا الكاتب في جو مسرحي مغلق تقتحمه أصوات العنف والخوف والقتل الآتية من الخارج يقابلها مشهد زوجين وحيدين في الداخل.
الرجل بطل حرب سابق شبه غائب في سريره بعد إصابته بطلقة نارية في رقبته أقعدته، والمرأة الشابة تهتم بالزوج المريض، وهي التي لم تعرف معه معنى السعادة العاطفية بين رجل وامراة، وهو الذي، كأبيها، مارس عليها القمع والظلم ومنعها من أن تعبر عن رغباتها وأحلامها كإنسان أولاً وكامرأة. هو البطل العائد بنظر المجتمع والعائلة، رغم ان حقيقة إصابته مدعاة للسخرية حيث أصيب بسبب شجار شخصي مع أحد المقاتلين من رفاقه، وقد يكون الشجار سببه الاختلاف على سرقة ما أو غنيمة أو امراة أو أي أمر آخر لا علاقة له بالبطولة كما يحدث غالبا في الحروب التي تختلق لها بطولات وهمية غير صحيحة.
رغم ذلك تقوم بدورها كزوجة فتقرأ له القرآن وتتلو الادعية طلبا لشفائه وسط جو ملأته المعتقدات الشعبية والتقاليد الافغانية والميتولوجيا التي استند اليها الكاتب في روايته. المرأة المكبوتة، الزوجة الصامتة الممنوعة من الكلام والتعبير وإظهار الفرح والرغبة، تغير له أنبوب المصل، ثم تعود الى صلاتها في القرآن، تعيد وتعيد الصلاة عله يشفى. فتاتان صغيرتان في غرفة خلفية، احداهما تبكي. تخرج المرأة وتغيب ثم تعود مساء لتقوم بما قامت به في الصباح: الاهتمام بالزوج الميت الحي، ثم الصلاة… تقوم بدورها في بداية الامر بشكل آلي وشبه صامت، إلا ان الصمت ينكسر ويخرج الكلام منها كبركان لا يتوقف، ينفجر ويتصاعد مع تصاعد وتيرة الرواية وأحداثها. المرأة هي التي تتحرك في المكان وهي صلة الوصل الوحيدة بين الداخل والخارج.
المرأة تدخل الغرفة ثم تغيب، فيما تستمر في الخارج أصوات انفجارات متقطعة وهدير سيارات عسكرية وضجيج أسلحة رجال حركة طالبان الذي ينهبون ويخيفون الناس ويقتلون. انها الرواية الاولى التي يكتبها الكاتب الافغاني عتيق رحيمي باللغة الفرنسية منذ بدء إقامته في فرنسا عام 1984. اذ ان رواياته السابقة كتبها بالفارسية. الصفحات القليلة الاولى من الرواية تظهر بوضوح شديد ان نص رحيمي قد كتب ليكون نصا مسرحيا. وليس من المستغرب ان النص نفسه والذي حاز الكاتب بفضله جائزة الغونكور الفرنسية عام 2008 قد تحول الى فيلم سينماني وعرض في اوروبا واميركا وفي لبنان خلال مهرجان السينما عام 2013 (مقالة نديم جرجورة، "السفير"، 11 تشرين الثاني 2013).

حكايتان متوازيتان

في هذا الكتاب هناك حكايتان. الحكاية التي يرويها رحيمي والحكاية التي ترويها المرأة الشخصية الاولى وشبه الوحيدة في الرواية.
المرأة لديها حكايتها التي لا بد ان تسردها وتخرج كل ما في مكنونات صدرها من مشاعر ورغبات وأحلام يكاد قمعها يخنقها ويكيتها. لا بد من الكلام. من سرد حكايتها. في حكاية المرأة تتابع درامي متصاعد يبدأ بقصة أبيها وسمانته التي أكلها الهر بإيعاز منها وهي صغيرة ولان الاب لا يظهر أي عاطفة اتجاه بناته ولا اتجاه زوجته بل يروح يقبل سمانته ويداعبها بطريقة لا تخلو من رغبة جنسية. حكاية المرأة تبدأ مع الاب ولا تنتهي معه رغم موته، بل يظل يظهر لها في مناماتها وتهويماتها، يطلب منها ما عليها القيام به. تسرد حكايتها على الزوج الذي أسمته حجر الصبر. ذلك الحجر التي يحكي له المرء ما في مكنوناته، يخرج ألمه ورعبه ورغباته المكبوتة كي يرتاح، وكي ينفجر الحجر بعد أن يمتص كل تلك الحكايات. هذا ما فعلته المرأة، حين راحت تحكي للرجل/ حجر الصبر حتى انفجر، إلا ان انفجاره الذكوري أودى بحياته وبحياة المرأة الذي قتلها بوحشية.
الدراما في حكايتها هي الابنة ثم الزوجة. هي المرأة التي تضطر الى القول انها عاهرة وبائعة هوى كي لا يغتصبها رجال طالبان الذين قدمهم رحيمي كرجال عبثيين يمارسون العنف، يسرقون، يدمرون، يقتلون لرغبات مريضة لديهم. وجاء وصفهم ممعناً في الدقة على لسان المرأة البطلة حين قالت "ان أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب يصنعون الحرب"!
الدراما في حكاية المرأة وفي خاتمتها. كأنها كانت تحكي لتموت أو كأنها قبلت أن تدفع حياتها ثمنا لحكايتها وان كانت شهرزاد قد حكت كي تحمي نفسها إلا أن الزوجة هنا تحكي لأنها ما عادت تستطيع الصمت، ولان الصمت بات أكثر موتا من الموت، كصمت زوجها الذي لا هو بحي ولا هو بميت. كأنها أرادت لحياتها أن تنتهي فعلا بعدما أيقنت انها لا تستطيع الاتصال بجسدها كامرأة حرة بل من خلال تحولها إلى بائعة هوى. تريد لحياتها ان تنتهي فعلا، أن تموت لكن ليس كالموت الوهمي الذي شيعته العمة عن نفسها كي تنجو من القهر الذكوري ولم تكن نجاتها سوى بتحولها الى بائعة هوى بعيدا عن الاب والشقيق والزوح الذي رفضها بحجة انها عاقر، وبعيدا عن أب الزوج الذي كان يغتصبها كل يوم، وبعيدا عن عائلة الزوج التي دمرت حياتها.
حكاية المرأة التي سردتها على زوجها حجر صبرها هي الحكاية كما عاشتها هي. روت حقيقتها هي، والموازية لحقيقة اخرى متداولة ويتعامل معها الجميع انها واقع. في حقيقة الجميع هذه المرأة تصلي مرات عدة في اليوم كي يخرج زوجها من وضعه المريض، وفي حقيقة الجميع انهما أنجبا طفلتين، وفي حقيقة الجميع هذا الرجل الزوج هو بطل شارك في الحروب ثم عاد. إلا ان الحقيقة كلها هي غير ذلك. الطفلتان هما من رجل آخر كانت قد اقترحته عمتها عليها كي تجنبها المصير نفسه ألا وهو الطلاق. وهي لم تعرف اللذة يوما ولم تعرف كيف هو الحب الذي اعتقدت ان ما قام به زوجها في السنوات الثلاث التي عاشاها معا هو الحب وفعله. لكن اكتشفت ان الحب والحياة في مكان آخر بعيد عما عاشته مع ذلك الذكر.
المرأة في حكايتها تقدم احتمالا بسيطا ان صيرورة حياتنا كما تبدو من الخارج، قد تكون كلها كذبة، كلها مختلقة، وحقيقتها في مكان آخر لا يعلمه سوى صاحبها. ليس فقط تفاصيل حياتنا هي وهم فحسب، بل صورة الرجولة والشرف والعار والدفاع عن الأفكار، والموت والأسرار والحياة. الحقيقي هو علاقة المرأة مع نفسها، مع جلدها، مع جسدها، مع رغباتها. حقيقة يمعن الرجل في إنكارها، أي رجل، أباً كان أم زوجاً، ويرفض الاعتراف بها، إلا حين تتحول المرأة الى بائعة الهوى. كأن ثمن الإحساس بجسدها هو تحول هذا الجسد ملكا للجميع. تغدو المعادلة زوجة أما فاقدة لأي رغبة، لأي شعور باللذة الحسية، أو بائعة هوى تُجيّر للرجل مرة اخرى مقابل بدل مادي. الاعتراف برغباتها دائما هو على الحافة، حافة الحياة وحافة الموت. انها مغامرة خطرة في أفضل الحالات.
انها حكاية قهر المرأة وظلمها في مجتمع ذكوري يستلهم ذكوريته من العنف والسلاح والقتل وقمع رغبات المرأة وعدم الاعتراف بأنها إنسانة مساوية في حاجاتها وحقوقها له. الحكاية تفضح السر، الحكاية تقول الحكاية، الحكاية تعري الذكورة وتضعها في مكانها الصغير الضئيل بمواجهة حقائق الحياة والجسد والرغبة والحرية. انه الخوف من الحقيقة. خوف يقتل النساء ويحول الرجال الى أشباه بشر يخافون من التطلع في مرآة حقيقتهم، انهم بشر وانهم ضعفاء، ويستعيضون عن ذلك بممارسة الحروب المجانية والقتل والسرقة وتدمير البيوت والعائلات وقهر الناس تارة باسم الدين وطورا باسم قضايا مُخترعة. في لحظة ما يظهر كم أن الجميع، نساء ورجالا، متساوون ولو على نحو متفاوت، في القهر، حين تبرر لأحد المقاتلين مهنتها كبائعة هوى (وكانت تكذب كي تحمي نفسها من الاغتصاب) قائلة: "أبيع لحمي كما تبيعون دمكم".
كتب رحيمي رواية حجر الصبر متأثرا بجريمة قتل الشاعرة والمثقفة والكاتبة الأفغانية ناديا أنجومان على يد زوجها المتوحش عام 2005 اثر صدور ديوانها الشعري الاول والذي باحت فيه بأجمل ما عندها من كلام. صوّر رحيمي على اثر الحادثة فيلما وثائقيا عن مقتل الشاعرة. قام خلال التصوير بزيارة الزوج القاتل في السجن فوجده في غيبوبة بعد محاولته الانتحار. حينها تساءل رحيمي ماذا بإمكان الشاعرة القتيلة ان تقول لزوجها شبه الميت في تلك اللحظة لو استطاعت العودة والوقوف أمامه. لذا كتب حجر الصبر وجعل في قلب حكايته حكاية اخرى بلسان المرأة ولسان الشاعرة في آن معا، بل حكاية كل النساء. لقد استطاع الكاتب وضع كلماته في فم المرأة الزوجة لتبوح بكل مكنونات صدرها لكن البوح قاتل في مجتمع ذكوري كالمجتع الأفغاني، أو كأي مجتمع من مجتمعاتنا نحن، خاصة أجمل البوح الذي يصدر من شاعرة. الكلام يقتل كذلك الذكورية الفاقدة الاحساس كحجر. الذكورة التي تقتل المعاني والأحلام وتجمدها كما هي أجنحة العصافير المهاجرة على ستائر غرفة المراة والتي لا تحلق إلى أي مكان!
"حجر الصبر" رواية شكسبيرية على نحو فائق، حيث تراجيديا الأبطال تحتل في النهاية المساحة كلها ويُنزل الستار. رواية قرأتها بمتعة كبيرة. قراءة كتاب كهذا بعمقه وجماليته وكثافته واكتماله رغم صفحاته القليلة، تجعلنا نتساءل عن جدوى ميل الأدباء الى كتابة مطولات روائية تتجاوز الـ500 صفحة أحيانا!

 "حجر الصبر" لعتيق رحيمي، في ترجمة جميلة لصالح الاشمر، دار الساقي بيروت 2013.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى