آخر القرامطة
آخر القرامطة…. هل يحتاج مظفّر النواب إلى تقديم؟ حسناً لنترك ذلك لكم لأنّ مظفر المتعدّد لا يمكن حصره في موقع واحد، فهو شاعر وفنان ومناضل ومنفيّ منذ أكثر من أربعين عاماً، جاب العالم طولاً وعرضاً. هذا القرمطي الشيوعي الشيعي صاحب علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري يرتبط بالناس بعلاقة خاصّة لا يمكن تفسيرها ببساطة. جمهوره لا يأتي أمسياته لكي يستمع فقط ولكنّه يأتي لكي ينفجر ويتألّم ويصرخ ويسبّ ويبكي. جمهور مظفّر لا يجلس بشكل طبيعي على الكراسي لأنّه قلق وتراه مرة يقف أو ينحني أو ينضغط لأنّه يعرف أن ما سيسمعه يسبّب ضغط الدم أو الذبحة الصدرية أو ضيقاً في التنفس. في المقابل، فإن مظفّر لا يبدأ أمسيته إلا بقارورة مليئة بالفودكا أو الجن يضعها أمامه على الطاولة لكي يخفّف من فرط توتره وهو يقرأ، لأنه عندما يقرأ لا يقرأ فحسب بل يتشظّى.
يمكن تشبيه شعر مظفر النواب بالطين… ليس لأنّه قريب من الطبيعة والناس فحسب، لكن على صعيد البناء والتقنية أيضاً. فالطين طبقات فيها الخشن وفيها الناعم، ويمكننا أن نقول إنّ الخطاب السياسي في شعريّة مظفّر ينتمي إلى طبقة الطين الخشنة، خصوصاً في نصوصه باللغة الفصحى. أمّا نصوص الحب المكتوبة بالعامية، فيمكن اعتبارها من طبقة الطين الناعم، ذلك النوع المسمّى «كلي لوم» يشبّه نعومتها خبراء التربة بنعومة حلمة نهد المرأة. في الطبقة الخشنة، يستخدم مظفر اللغة البذيئة والألفاظ الجارحة من دون أن يكون بذيئاً بالطبع، ولكن كي يكون الخطاب بمستوى الحدث. والأمثلة أكثر من أن تعدّ. لكن لا يفوتنا أنّ هذه التجربة الشعرية الصادقة تنمّ عن انسجام مع الذات والتزام أخلاقي فريد لا يمكن التعبير عنه إلا بطريقة مظفّر الخاصة. في الطبقة الناعمة – وهنا تكمن عبقرية مظفّر – يتحوّل الخطاب الشعري إلى ما يشبه السحر. لا ليس السحر ولكنّه شيء آخر تحت الجلد يشبه الرعشة أو الإغماء أو أحلام اليقظة لأنّه غير مسبوق ويحدث للمرّة الأولى. الصورة الشعرية عند مظفر باللغة العامية ينطبق عليها كل شيء ولا شيء. إذ إنّها سريالية ورمزية وواقعية وحلمية وحداثية وكلاسيكية.
من المؤسف أنّنا لا نستطيع أن نورد أمثلة لشعره في العامية هنا لخصوصية اللهجة العراقية التي لا يفهمها القارئ العربي، وهي خسارة حقيقية لأنّ شعر مظفر العامي مذهل ونادر في خصوصيته وحساسيّته وجدّته. تحضر في نصوص مظفر العامية أكثر من شخصية، فإضافة إلى شخصية الشاعر، هناك شخصية الموسيقي والرسام والمناضل. ومن هذه المكوّنات النادرة تنبجس قصائده التي تحفل بالرموز التاريخية والأسطورية عميقة وواضحة ومتجانسة، بالرغم من أن مظفر لم يعِش في بيئة الأهوار في الجنوب العراقي سوى أقل من سنة إلّا أنه امتصّ (كما الإسفنجة) لهجة أهل الهور وكدّسها في مخيّلته الخارقة، وهذه القضية مثار جدل لم ينتهِ حتى الآن، حيث مظفّر نفسه لا يجد جواباً حقيقياً لها.
يعتمد مظفر في كتابة قصيدته على الدراما. والدراما هنا «درامتان»، الأولى بالمعنى الشكسبيري الكارثي، والثانية بالمعنى الأرسطي التقني (بداية، صراع، نهاية). وأفضل مثال لتوضيح مفهوم الدراما في شعر مظفر بشقّيها هي قصيدة «وتريات ليلية»: «في تلك الساعة من شهوات الليل/ وعصافير الشوك الذهبية/ تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء/ وشجيرات البر تفوح بدفء مراهقة بدوية/ يكتظّ حليب اللوز/ ويقطر من نهديها في الليل/ وأنا تحت النهدين، إناء/ في تلك الساعة حيث تكون الأشياء/ بكاءً مطلق،/ كنت على الناقة مغموراً بنجوم الليل الأبدية».
القصيدة في «مقهى الهافانا»
كانت لمظفر النواب طاولة خاصة في «مقهى الهافانا»، عندما يكون منشغلاً بالقصيدة لا يقربه أحد ولا حتّى ليلقي عليه التحية. يُشير برأسه لأصدقائه ومحبّيه، فيجلسون بعيداً عنه حتى ينتهي من الكتابة. يستخدم أوراقاً صغيرة حجمها لا يزيد عن عشرة سنتمترات مع قلم بحبر أسود وأحياناً يستخدم قلم الرصاص ويكتب القصيدة بكلمات صغيرة للغاية بخط جميل جداً ولا يكثر من الشطب أو يبدّل الكلمات، فكأن القصيدة عنده وحي تأتي كاملة في أغلب الأحيان.
الهرب من «سجن الحلة»
سُجن مظفر النواب أكثر من مرة مع رفاقه الشيوعيين وفي سجن الحلة المركزي خطّط مع هؤلاء الرفاق للهرب من السجن عن طريق نفق سيقومون بحفره بالملاعق والسكاكين الصغيرة. كان طول النفق 25 متراً وعرضه وارتفاعه 75 سنتمتراً. ولم يكن مستقيماً بل متعرجاً في الزوايا لسلامة سطحه وجدرانه من الانهيار. وكان من المؤمّل والمتّفق عليه أن تحضّر هويات مزوّرة وملابس مدنية للذين سيهربون وأن تهيّأ سيارات لنقلهم، إضافة إلى احترازات أخرى مثل معالجة حارس المرأب وغيرها من التفاصيل التي قد تستجد.
بدأ السجناء بالخروج من النفق ومظفر واحد من هؤلاء السجناء الذين بلغ عددهم ثلاثة وأربعين. الطريف في الأمر هو حارس المرأب الذي كان يجلس على كرسي في الباب ويردّ التحية على كلّ من يخرج منهم ببدلاتهم الجديدة وهم ينفضون عنها التراب. شعر أن شيئاً غريباً يحدث، إذ لم تدخل المرأب أي سيارة ولا أي شخص. فمن أين جاء هؤلاء الأشخاص الذين يخرجون من الباب أو يتقافزون فوق السياج ثم يهرولون صوب البستان المقابل؟ لم يجرؤ الحارس على دخول المرأب والتحقق بنفسه، وتحت تأثير هذا الذهول والاستغراب والفضول لمعرفة السبب، ذهب إلى شرطي المرور في الكابينة المقابلة وسأله:
ـ «لم تدخل أي سيارة ولم أرَ أحداً دخل المرأب منذ الظهر وحتى الآن ولكن أرى أن أناساً كثيرين يخرجون منه فمن أين جاؤوا؟ الله وحده يعلم بذلك…
انتبه الشرطي ورأى بعينيه أشخاصاً يتراكضون ويتقافزون فوق سياج المدرسة القريبة أو يهرولون في الشارع فنادى على السجّان الموجود فوق سطح السجن أن يلاحظ ماذا يحدث؟ لكن السجّان أصيب بالذهول عندما رأى أناساً يخرجون من حفرة خلف جدار السجن.