أبناء مذاهب وأولاد شوارع (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

تقريباً، عادت الحياة الطبيعية إلى السياسة في لبنان. تغيّر شكل الدولة. اعتدل السياسيون في نصابهم الجديد: هدوء على الجبهات الساخنة. حلول أمنية موضعية في «عواصم» الاشتباك المذهبي والطائفي. انسحاب متدرج من قضايا النزاع الإقليمي، الاهتمام بأن يكون الأداء سلساً، مرناً، متفهماً، هادئاً، فلا كلام رهابياً عن سلاح المقاومة. لا شروط ولا شروط مضادة… وبدا لبنان منذ أسبوعين، مختلفاً جداً وكأن شيئاً لم يكن، من كل ما كان.
تقريباً، تغيّر الخطاب اللبناني المشحون بالاتهامات. خرج من المتاريس اللفظية المتداولة. انسحب من الواجهات الإعلامية، التي اعتاشت من التحريض والابتذال واستدعاء الشجار.
لم يكن التحوّل بسحر ساحر. كان بقرار من خارج، رأى ان لعبة اللبنانيين باتت خطرة على الاستقرار المرغوب دولياً، وباقتناع ضمني لم يعلن، أن المعارك في «الشقيقة» المدماة، أسفرت عن نتائج ميدانية، تقطع شرايين الإمداد عبر الحدود، وأن «الحرب السعودية على الإرهاب»، تعيد التعقل للبيئات الحاضنة.
تقريباً أيضاً، عادت الدولة إلى دورتها الطبيعية: بيان وزاري، ثقة نيابية، ورشة قرارات، موجة تشريع. وهنا، في هذا المنعطف، تغيّر الشارع في لبنان، فبعد مصادرة الشارع لأعوام من قبل الملايين الهتافة والمردِّدة والمتعصبة والاستعدائية، تحرّر هذا الشارع، ولبس ثوباً يشبه ثياب العمال والأساتذة والنساء المعنفات والغلابى من مضطهدي نظام الفصل الطبقي والعنصري. رايات جديدة ارتفعت، هي رايات حقوق الناس المهضومة، التي غيبتها الطبقة السياسية وسحقتها الصراعات المذهبية، والاصطفافات العمياء في الصراعات الإقليمية.
الشارع في لبنان، منذ أسبوعين تقريباً، هو الناطق الحقيقي باسم القضايا الحيوية والمحببة للناس. الشارع هو المعبِّر الصادق عن الحقوق المضطهدة والمنسية أو المسحوقة. الشارع هو «الجماهير» المنتقاة على قاعدة الانتماء للمصالح، الشارع هو المعبر الإلزامي للقوى السياسية وللدولة، كي تكون الحَكَمَ في الصراعات، داخل المؤسسات، بالأسلوب الديموقراطي المنشود، بطرق الحسم السلمي.
الانتظام الطائفي المزمن، أساء إلى النظام الطائفي، وعطّل مسيرته، وأقعده متفرجاً على عجزه، يشاهد تحلل الدولة ـ دولته ـ وتوقفها عن العمل.
الفلتان المذهبي أخذ «الدولة» إلى عنف متربص، موزع بالتوازن والقسطاس، على فريقي الصراع. عنف اقتصر ضحاياه على مناطق منتقاة ومدروسة وحساسة ومضبوطة على إيقاع الحلبة الدامية في سوريا.
البيئات الحاضنة للأحقاد الموروثة من زمن «الشقيقة» وموقعة «الجمل»، وأحداث «الطّف» ومسلسل النزال التاريخي بين السنّة والشيعة، أهّلت «أمراء» المواقع والزواريب والمناطق، ليتحكموا بالزناد والسياسة معاً، فانتهى الكيان إلى إقامة مرعبة بين الألغام والسيارات المفخخة والشوارع الملغومة والمناطق المحرّمة لصفائها المذهبي. ولم تخجل البيئات الحاضنة من احتضان مجرمين وقتلة وسفاكين وهمج، على «عروة وثقى» بـ«القاعدة» و«النصرة» و«حشاشي» الميادين.
القوى السياسية اختبأت خلف متاريس المرحلة. وظفت عملياتها الخطابية في تأجيج الفتنة، من دون التجرؤ عليها، وأقفلت معابر الحوار، وأنشأت نظاماً للإلغاء، يقوم على مبدأ التكفير، باسم «الديموقراطية». أعوام سكبت أيامها سدى. تظاهرات مليونية ذهبت هباء. مناسبات خطابية تشدّق فيها قوّالو الحروب بالنظارات، وأشبعوا «الجماهير» الحاضنة غضباً وحقداً غير قابل للصرف…
سنوات الشحن الطائفي والمذهبي، كادت تجهز على ما تبقى من الدولة. ناصت وذبلت وهزلت، ولم يبق من ورقة السيادة غير العقم والفراغ. تمرغت سمعة الدولة عندما تحوّل أربابها إلى حماة للقتلة والمجرمين والسفاكين والمرتكبين. وعندما تغاضت عن أفعال شنيعة، وأقامت التوازن الوطني، على توازن الشناعات المتبادلة.
يومها، كان اليأس فضيلة المواطنين الغلابى. وكان سلاح الشاب اللبناني الذي آمن بأن خلاصه الوحيد هو في أن يتخلّص من بلده ويهاجر. فهاجر حتى بات بددا، ما بين خليج ينتقي «زائريه» على الهوية المذهبية، وبلاد بعيدة متروكة لأقدار العنف وعصابات النهب ومنعرجات التشرد.
هذا كان المشهد المعلن، أما المشهد المضمر فكان مختلفاً جداً، إذ استمرت الدولة «شغالة»، وأمنت «عدة الشغل» لكثير من نخب الطبقة السياسية. الدولة تنفق، وأصحاب «الأيادي السود» يقبضون ولا ينفقون. السماسرة والسياسيون الضالعون في عصابة «من أين تؤكل الكتف»، كانوا على اتحاد ووئام، برغم صراعاتهم، ولا يختلفون على ما تبقى من «البقرة الحلوب». كانت الدولة مفلسة وتنفق. كانت مدينة ولا تشبع استدانة، وتستقتل لتأمين خدمة الدين (وأكثره داخلي) وتهول بعظائم الأمور ان مُسّت أرباح أصحاب المال، بالنزر اليسير من الضرائب… أرباح المصارف من عمليات الاستدانة لا تُقدر. وعليه، فقد كانت الدولة تخسر وتزيد من خسائرها، والمصارف تربح وتضاعف ثرواتها، ومتعهدو الإنفاق يغدقون على المحاسيب والأتباع، لتصليب قواعدهم «الشعبية».
في حمّى الصراع المذهبي، تعاظمت صفقات الهدر، بحماية الأطراف المشاركة في التحريض والابتزاز وجر البلاد إلى التهلكة.
الآن، حان أوان الإصغاء إلى صوت الشارع الذي تتردد فيه لغة الحقوق والمصالح، لا لغة المذاهب والفتاوى. فمن أين المال.
الدولة تعرف جيداً أين هو مالها. تعرف إلى أين ذهبت أموال اللبنانيين. لديها جهاز رصد يحدد من أخذها ومن سلبها ومن اقتنصها. ما احتلته الميليشيات في الحرب وما سرقته في أزمنة الفتنة أقل بكثير مما احتلته الميليشيات السياسية، المالية، العقارية في زمن السلم.
أموال السلسلة موجودة… من يجرؤ على استعادتها؟ من له القدرة على فتح «مغارة علي لبنان»؟
في لبنان شارعان: واحد يفضي إلى الفتنة، وآخر يفضي إلى إعادة الاعتبار للدولة ومؤسساتها، لتكون حكماً بين اللبنانيين.
شيء من «عودة الروح» بدأ مع الشارع الجديد. شيء من الدولة استعاد حيويته وصحته. شيء من الأمل الضئيل.
من يدري؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى