أرمينيا وأذربيجان حربٌ بالوكالة لأجل الطاقة والاقتصاد

 

تقع منطقة القوقاز بين ثلاثة عوالم، التركي،  الروسي والفارسي  وتعتبر ممراً إلزامياً لطريق الحرير،  وممراً حيوياً  نحو المياه الدافئة (البحر الأبيض المتوسط) وممراً إستراتيجياً لأنابيب النفط والغاز. وهي لذلك  تُصنّف كمسرح للتنافس الجيوستراتيجي بين دول  تتكامل وتتباين في المصالح، لتأخذ تلك صورة منطقة نزاعات جيوبوليتيكية فعلية ومحتملة ذات أبعاد وخلفيات جيو- اقتصادية . تلعب آسيا الوسطى  واوراسيا دوراً محورياً باعتبارهما تشكلان مجالا مركزيا  لثروات الطاقة بين الولايات المتحدة الأميريكية، روسيا، الصين، الإتحاد الأوروبي وتركيا. لعلّ الحرب الدائرة بين أذربيجان وأرمينيا تترجم ما يجري في الواقع، و تؤكد على أهميّة السيطرة على بحر قزوين والبحرالأسود من الناحية الجغرافية . ولكن كيف ستتحدد من خلالها موازين القوى في تلك المنطقة في حال انتصار محور على آخر ؟ 

استراتيجية الإستيلاء التركية

وسط التحدّيات النفطية والغازية  في البحر الأبيض المتوسط، وادعاء أنقرة حقها  استكشاف مصادر الطاقة  والتنقيب  عنها لاحقاً  في  المناطق الإقتصادية الخالصة دون مسوغ أو رادع. جاء التحدّي الأكبر بإعلان الرئيس  التركي رجب طيب أردوغان عن اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي في البحر الأسود، يحتوي على 320 مليار متر مكعب وهو الكشف الأكبر من نوعه في التاريخ، معلناً بأن ” تركيا تنوي البدء في إيصال الغاز إلى المستهلكين في عام 2023، وإنها ستصبح في نهاية المطاف دولة مصدرة للطاقة “. ما يفسر بشكل واضح، الحرب التي اندلعت أواخر أيلول 2020 بين أرمينيا المنضوية تحت الحماية الروسية وأذربيجان المتحالفة محورياً مع تركيا  .  ما يعني بأن أنقرة تعتمد استراتيجية الإستيلاء المباشرة من خلال محاصرة روسيا، وتهديد الإتحاد الأوروبي وقطع الطريق على ايران التي تعتبر بحدودها مع أرمينيا ممرا استرتيجيا نحو روسيا  وتقويض طريق الحرير الصيني الذي يمر عبر القوقاز أيضاً . الأمر الذي يبرر ما يجري من تجدد النزاع القديم الجديد حول مقاطعة ناغورنو كاراباخ التي تسكنها أغلبيية أرمنية (95% أرمن ) لن يخدم سوى الحلم الإردوغاني وحوافزه الجيوبوليتيكية . كما بسيطرة تركيا على منطقة القوقاز وصولا لبحر قزوين قد تسيطر على منطقة آسيا الوسطى بكاملها وتثبت نفوذها في منطقة اوراسيا. من هنا نفهم أيضا،ً بأن أرمينيا التي تقع بين تركيا وأذربيجان بحدودها المغلقة مع الجارين اللدودين ( في الغرب مع تركيا وفي الشرق مع أذربيجان)، أصبحت  تشكل عائقاً أساسياً أمام  تركيا للوصول الى بحر قزوين  . ما يثير الموقف الروسي المتوجّس من التمدد التركي في المنطقة وبتلقفها استمرار إستفزاز أنقرة بدءاً من ليبيا إلى سوريا حتى عقر موطئها في منطقة القوقاز عامة  والبحر الأسود خاصة .

روسيا تفكير جيوبوليتيكي  وتخوّف من المحاصرة

لا شك بأن تركيا التي تهيمن على مضيقي البوسفور والداردانيل،  تخوّف روسيا من التضييق عليها من المرور من خلال القرصنة من جهة ولكن الأهم من جهة أخرى، المصالح مشتركة بين موسكو وأنقرة، التي أضحت استراتيجية من خلال خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي يمتد من الاتحاد الروسي إلى تركيا “ترك ستريم”   الممتد من محطة ضغط Russ kaya بالقرب من أنابا في منطقة كراسنودار الروسية، و يعبر في البحر الأسود والذي ينتهي في كييكوي على ساحل تراقيا التركي، حيث يتصل بخطوط أنابيب أخرى. وهو يعد مشروع البديل لمشروع “ساوث ستريم”  الذي تم إلغاؤه.  يمتد البابلاين “ترك ستريم”  تحت البحر الأسود لنحو 230 كيلومترًا في المياه الروسية قبل أن يدخل المياه التركية . وقد تم افتتاح خط الأنابيب في 8 كانون الثاني 2020 من قبل الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان . انطلاقاً من ذلك، تعتبر روسيا وتركيا أكبرالرابحين من ذلك المشروع  .  لذلك نرى بأن موسكو لا تزال تتجنب أي مواجهة مباشرة مع تركيا، وتسعى لحلّ النزاع بين يريفان وباكو بالطرق السلمية، لأجل ذلك، طرحت روسيا استضافة مفاوضات  بين المتحاربين (أرمينيا – أذربيجان)  بهدف وضع حد للقتال الدائر في منطقة ناغورنو كاراباخ أوما يُعرف بمقاطعة أرتساخ قديماً، ودعا وزير خارجية روسيا أندريه رودينكو ضبط النفس إلى أقصى الدرجات والامتناع عن اعتماد الأساليب العسكرية لحلّ الأزمة. كما تقوم موسكو بجهود ديبلوماسية لعدم تدهور الأمور إلى  نقطة اللاعودة خشية منها الإصطدام مع أنقرة إذا ما وصلت الأمور لتهديد وجودها في منطقة القوقاز .

أنّ روسيا كقوة منتجة للغاز تبقى قوة طاقة لا غنى عنها لأوروبا وخاصة للإتحاد الأوروبي (تستهلك اوروبا  20% من الغاز الروسي) وأي تهديد لمصالحها الإستراتيجية قد يكون إعلان حرب شاملة. فالخوف الروسي على المصالح الأوراسية يشكل تحدي بالنسبة للتحكم بسوق الطاقة في ثروات القوقاز النفطية والغازية ، كما والتحكم بالنقل بين اوروبا وآسيا وطريق الحرير . في هذا السياق ، و في ظل الوضع الدقيق والمضطرب، تبقى المصلحة الروسية المرجّحة باتجاه المتحاربين بنزع الفتيل لا بتفاقمه نظراً لتضرر روسيا بالدرجة الأولى منه أكثر من باقي دول آسيا الوسطى،  إلاّ إذا كان هناك شراكة ما بين بوتين وأردوغان بتقاسم نفوذ القوقاز!!!! وبالنظر لتزايد الصراع والنزاع الحاصل على البحر الأسود وقزوين وبحر إيجه، قد تكون الولايات  المتحدة الأميريكية  بنظرتها الجيوبوليتيكية من بين المستفيدين مما يحدث في بلاد القوقاز لإضعاف روسيا والصين وايران . فالتمدد التركي  الحاصل قد يخدم مصالح واشنطن ويؤدي لمحاصرة تلك الدول في منطقة آسيا الوسطى وأوراسيا  . فالأولويةالاستراتيجية النفطية القصوى  لواشنطن في بحر قزوين  تكمن بوجود حقل كاشاغام  الغني بثروات الطاقة الذي يشكل تحديا جيوستراتيجيا أساسيا لها.

في الختام، يمكن اختصار المشهد مع تعدد اللاعبين بتداخل المصالح التجارية والتنافس الجيو اقتصادي والتسابق الحاصل للسيطرة على منطقة القوقاز والحرب الإقتصادية حول الطاقة والموارد الطبيعية والمنافذ الجيوستراتيجية . أما الحل فيبقى بإنهاء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا كي لا تخسر يريفان وموسكو وايران والصين النفوذ في المنطقة . وإلا ستشهد المنطقة حرباً شاملة لتتحدد من خلالها موازين القوى .

خمس نجوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى