أزمة الشعر العربي ” 3″
بقي الأن الحديث عن الإيقاع و التقفيه و المجاز وهي الصفات التي يتميز بها الشعر العربي من أقدم أزمانه إلى اليوم:
في الإيقاع :
و هو الإيقاع الموسيقي للتركيب اللغوي من مقاطع تسمى تفعيلات العروض القصيدة ووزنها الموسيقي من خلال ما يدعى بالبحور الشعرية التي تم إكتشافها كنظام في الأداء الصوتي الموسيقي مع بدايات العصور الإسلامية كما صنع العّلامة الشهير ” الخليل بن أحمد الفراهيدي ” عبر ستة عشر بحرا هي :
البحر الطويل والمديد والبسيط والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمتقارب والوافر والكامل والرجز والهزج والرمل والسريع والمجتث والمتدارك أو المحدث ..مع المشتقات المنبثقة عن التفعيلات الأساسية لكل بحر كما في البحر الطويل مثلاً:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
إذ تبلغ البحور مع مشتقاتها ما يبلغ أكثر من خمسين وزنا أو أكثر مع تراكيب الموشحات لتتجاوز حتى الستين أو السبعين وزنا.
في التقفيه :
و هو النظام الذي يتعلق بالمقاطع الأخيرة للبيت الواحد وتتألف القافية من آخر كلمة في البيت وأهم حرف فيها ” الرويّ” الذي تتعاقب عليه الكلمة الأخيرة كما في هذه الأبيات للمتنبي في قصيدته التي يصف فيها ” الحمى ” التي كانت تغشاه في مصر قبل رحيله عنها خائباً مع بخل حاكم مصر عهدئذ حين قال :
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف و الحشايا فعافتها و باتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي و عنها فتوسعه بأنواع السقام
فكلها منظوم على هذا الترتيب للبحر الوافر :
مفاعلتن مفاعلتن فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
حيث نلاحظ أن حرف ” الرويّ” هو الحرف الأساسي في آخر الأبيات كلها و هو حرف
( الميم) المتحرك بالكسرة ..
في المجاز : المقصود بالمجاز هو عملية إستخدام المخيلة في ما يسمى التشبيه والإستعارة عبر ما يتخيله الشاعر من إستعارات و تشابيه وتخيلات عاطفية أخرى كما في أبيات المتنبي التي ذكرنا منها ثلاثة أبيات إذ يصف الشاعر مرضه بزائرة لا تحضر إلا ليلا أي أن الحمى لا تسيطر عليه إلا في ظلام الليل خاصة إذ تبتعد عن أطراف جسده و تصر هذه الحمى على إقتحام عظامه مما يؤثر في شدة آلامه وهكذا تترك هذه الزائرة المخيفة أطراف الجسد كي تبالغ في تعذيب الشاعر حين تخترق الحمى – أو هذه الزائرة المريعة – لحم الجلد وصولا بمرض إلى حالات قاسية متنوعة في تعذيبها للشاعر المريض ..
و هكذا نلاحظ أن المتنبي إستطاع بكثير من المهارات اللفظية و العاطفية و الخيالية أن يطرح لوحة تصويرية عميقة التأثير في التعبير عن أوجاع الشاعر في غربته في مصر ..
هذه القصيدة و كل القصائد الأخرى الناجحة في تصوير الحالات العاطفية و الخيالية المؤثرة من خلال الأسلوب اللغوي تركيبا و إحساسا موجعا عبر هذه العوامل مجتمعة ، الإيقاع و الموسيقى و الخيالي و العاطفي وصولا إلى أعمق ما يبلغه المرض و خاصة في الغربة ..
و بهذا المعنى إستطاع الشعر العربي عموماً عبر تاريخه المجيد و الطويل أن يظفر بشخصية متميزة جداً على أصناف الشعر الأخرى في العالم أجمع و أنه من الأفضل أن نفهم أن قوانين التطور الفني في التعبير لا تخضع لإختلاف الزمن فالإنسان هو نفسه الإنسان في الحالات النفسية العاطفية لم يتغير كثيرا في مشاعره الداخلية العميقة عما كان عن أجداده القدامى من طاقات عاطفية لا تتغير في حالاتها عند البشر الذي ما زالوا يعيشون في البيئة الطبيعية التي لم تتغير عاطفيا كثيرا عن العصور العريقة، فالإنسان العربي مثلاً الذي ما يزال في بيئة عربية يبتهج كأهلها قديما ويتألم مثلهم وهذا ما نلاحظه مثلا من الإختلاف الكبير بين الفرنسيين و الإنجليز و الألمان و مثلهم الهنود و الصينيين و اليابانيين و الشعر هو الفن العريق الذي ما يزال يمثل هذه الشعوب حسب مؤثرات تاريخهم و تقاليدهم و لغاتهم بشكل واضح جدا بترك تأثيره في الفنون الإبداعية عموماً، ويساعد كثيراً على الإحتفاظ طويلاً جداً بالشخصية القومية المتوارثة.