أسى بروست ينفرد بالتمزق والرعب

من أكثر الأعمال الأدبية التي تركت في نفسي تأثيرا مأساويا هي رواية الكاتب الفرنسي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود” أو الضائع كما في ترجمات مختلفة، على الرغم من أنني لم أقرأ إلا أجزاء من هذا العمل الضخم الذي يتكون من سبعة أجزاء، والتي تعتبر أطول عمل روائي في تاريخ البشرية، لكنني لشح في الترجمات العربية لبعض الأجزاء لم أطلع عليها كاملة.

فبروست الذي احترف العزلة في حياته يدعوك بكل أسى وعب أيضا في أعماله السبعة إلى رثاء حاله وليس إبداء الإعجاب بكتاباته، فهو يقول لك بكل صراحة: لا ترفع قبعتك إعجابا بي وإنما قل أو فكر بما يوحي إلي بشيء شبيه بالرثاء والشفقة.

ففي هذا العمل المأساوي أو ربما هو فكر بروست المأساوي وليس العمل بحد ذاته ينكشف الهم الموغل في نفس منطوية تجاه الحياة الهاربة، وتجاه الذات التي تتفكك في زمن ضائع يلتهم آلامنا ومشاعرنا وذكرياتنا، ففي مقطع من “سوان” الجزء الاول من روايته الطويلة يتذكر بروست كيف كانت طفولته وكيف كانت دموعه تتساقط في الوقت الذي كانت أمه تجلس بجانبه بعد أن سمح لها أبوه أن تراه وهو في عزلته الطويلة.

يقول في ذلك الجزء: “كانت هناك سنين كثيرة كهذه، لم يعد جدار السلم حيث كنت أرى ذبالة الشمعة تعلو منذ زمن بعيد، وفي داخلي كانت تتمزق أيضا أشياء كثيرة جدا، كنت أعتقد أن عليها أن تستمر دائما، وأمور أخرى تقام، منجبة آلاما وأفراحا جديدة، لم أكن أقدر على توقعها، حتى الأشياء القديمة أصبحت غير مفهومة لي، ومنذ وقت طويل كف أبي أن يقول لأمي: اذهبي مع الصغير، فاحتمال وجود أوقات مماثلة لن تنبعث لي أبدا، لكن منذ وقت قصير شرعت مرة ثانية بأن أدرك بصورة جيدة جدا بأني إن أصغيت سأحبس التنهدات على أبي، حيثما كانت لي القوة على ذلك، تلك التنهدات التي تنفجر حين أكون وحيدا مع أمي”.

وظل بروست في حياته يسمع تلك التنهدات والحسرات لأن الحياة حوله كانت صامتة وحزينة إلى الدرجة التي لا ينفك يسمع فيها تلك الآهات، وقد شبهها بأجراس الدير التي تحتوي ضجيج المدينة في أثناء النهار بحيث يعتقد السامع أنها توقفت لكنها تستأنف القرع في هدوء المساء، هذه هي العاطفة المكبوتة لدى بروست التي تفجرت في أحد أجزاء الرواية عندما ناولته العمة “كعكة المادلين” فانسابت حياته دفعة واحدة أمام كعكة غمسها في كأس شاي واستدعى بها تفاصيل طفولته الهاربة.

هاهو في تلك اللحظة يدعو المنسي من حياته “يجب الدنو أكثر ما يمكن من الجزء المفقود، المنسي من الإنسان نفسه”، ذلك لأن بروست في عمله الضخم كما في حياته الخاصة هو الإنسان الذي فقد ذاته، لأنه يدرك تماما أن أفكارنا وعواطفنا ليست ثابتة أبدا وليست متعاقبة أيضا.

ولهذا فهو في كل لحظة من حياته لا يدرك إلا تلك اللحظة فقط، وحاله في تلك اللحظة فقط، وهو يدرك أيضا أن ذاته تغيرت من زمن الطفولة إلى زمن المراهقة إلى زمن الرجولة، تتغير باستمرار ساعة بساعة، وتتغير كل صباح وكل مساء مثل تقلبات النهار تماما.

فهو يقول: “عندما أقول أنا، فلدي القناعة بأني أشير إلى كائن واحد فقط، ودون ريب فإن أفكاري وعواطفي قد تغيرت تغيرا كبيرا منذ الطفولة ومنذ مرحلة المراهقة، تتغير من الصباح إلى المساء، ومن ساعة إلى أخرى، فقد كان هو نفسه الإنسان الذي أكونه”.

وكان يثيرني كثيرا شعور بروست بالموت وكيف ينظر إليه على أنه نهاية وعينا فقط على اعتبار أننا مخلوقات أرضية، لكننا عند بروست نموت في كل لحظة، أو في كل لحظة يموت جزء من ذواتنا ويهوي في العدم، أما الحب عنده فما هو إلا جهد صغير مبذول من أجل مواجهة الخلود ومع ذلك يقوده ويقودنا إلى الخيبات الكثيرة، الثابتة والعميقة والأكثر تشاؤما من الحياة نفسها.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى