كتاب الموقعنوافذ

الذبابة !

ـ في الحرب… ليس هناك أحد غير مصاب! ـ

الذبابة !
عثرت على بضعة أوراق في بيت مستأجر في الثمانينات. ولم يتح لي الوقت لقراءتها. أختار منها هذا النص وهي لمجهول وبدون تاريخ:
” اليوم يجب أن أبدأ بتسجيل الكثير مما يحدث لي ومما يجري حولي. فقد تأكدت، بصورة مبكرة، أن ثمة ازدحاماً قادماً في كل شيء، وسوف أنسى الكثير. فأنا الآن في الثلاثين من العمر. وحيد وليس لدي زوجة أو أطفال. وقد مات أهلي تباعاً في حوادث فقر وحوادث مرض. لا بيت لي. ولدى الآخرين بذمتي ما يكفي لأن يرهنونني في سوق الجمعة لقاء المبالغ المترتبة.
اكتشف الحب متأخراً…في الثلاجة. وأعثر على قناعي بعد انفضاض حفلة التنكر. ثم دائماً أنام حين يصحو الآخرون، فأسترد وجهي الحالم وأخرج إلى مدينة همدت من فرط الزوغان البشري في نهار صاخب.
كان من نصيبي، وجيلي أن نعيش عصر الهزائم العربية والفاشيين العرب: أنور وشركاه. عصر أمسك بأنوفنا ليرشدنا إلى مصدر الرائحة التي انبعثت من ملايين الجثث الشهيدة… وقال لنا: كلوا خبزكم واشربوا خمركم!
والرائحة؟

الرائحة… كي لا تنسوا

إن شكي بالهزيع الأخير من القرن العشرين، مترسب في أعماقي مثل زنابق ميتة. إننا لن نصل إلى هناك وفي أيدينا سوى “وطن” على شكل خردة ثقيلة وصدئة تمضي بنا إلى البحر لكي تساعدنا كـ “ثقالة” على الغرق بسرعة حاسمة.
علي تسجيل الكثير مما يحدث لي ومما يجري حولي. ولكنني أخشى الاحتفاظ بأي شيء. فلو كنت صحفياً لوشى بي رئيس التحرير للمخابرات. ولو حدث ذلك لحوسبت على الخلاف القديم حول تفاحة آدم.
أمس عدت إلى البيت وجلست وراء طاولتي لأسجل الكثير مما حدث لي وما جرى حولي… فقد كان الليل الفائت مسرحاً للجثث… فمن كثرة الرصاص والقنابل، في مكان ما من المدينة، أستطيع التخمين بأثقال الخسائر!
أمسكت القلم. أضأت الكلوب. وصفنت في هذه الدنيا. كان في نيتي كتابة رأيي في هذا العبث بأرواح البشر.
جاءت ذبابة من النوع الراسخ وجوده في ذاكرتي… ذبابة القبور. تشاءمت منها. وحاولت قتلها ولم أستطع. وكلما وضعت حرفاً أسود على الورق الأبيض، جاءت لتحط على أصابعي. فقلت.. تريد منعي من الكتابة. ولقد منعتني فعلاً، وربما قامت بأفضل أدوارها. وبصراحة كنت، في تلك اللحظة من ذلك الليل، متطرفاً ومتشائماً، ولا أعرف تماماً ماذا سأكتب؟

وقد ساهمت الذبابة في خلق جو عدائي مع نفسي، وظللت أطاردها، وانشغلت بمعركة ذباب حقيقية. (بالمناسبة الذبابة ليست مجازاً نافعاً لشيء). وأخيراً قررت إطلاق نار مسدسي،( الذي أملكه من بقايا الخسائر المتروكة في ميادين الحروب) وهكذا لقمت المسدس، وصوبت، في دقة، وكانت الذبابة على ظهر الكلوب تفلّي أجنحة فانتوم ضخمة. أطلقت الرصاصة عليها من مسافة قريبة.
انطفأ المصباح.
صار شظايا.
ارتميت على السرير، ونمت حتى هذه اللحظة !
تذكرت هذه الجمله ليحي جابر :
“حامت حولي ذبابه … فعلمت أنني جثه ”

19.04.2014

بوابة الشرق الاوسط_الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى